}
عروض

عن المغيبات من النساء والمدن الفلسطينية قبل 1948

عمر كوش

17 فبراير 2024



لا تخرج حرب الإبادة الجماعية، التي تشنها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة والضفة الغربية منذ أكثر من أربعة أشهر، عن نهجها الذي اتبعته منذ نشأتها في محو الوجود الفلسطيني، عبر التركيز على تدمير المدن، والمعالم الحضرية، وسعيها المتواصل إلى الإبادة السكنية، أو بالأحرى الإبادة المكانية، وإماتة المكان الفلسطيني، بوصفه مكانًا للعيش، حيث نهضت إسرائيل على الجمع البنيوي بين الاستعمار والاستيطان الإحلالي، ودفعها ذلك إلى الاستمرار في محاولة مسح الوجود الفلسطيني، باعتباره من الأفعال المؤسسة لدولة إسرائيل، وعدم التوقف عن محاولاتها الاستيلاء على الأرض والمكان الفلسطينيين، وطمس الهوية الفلسطينية عبر إلغاء آثارها في المدن والبلدات والقرى، وسرقة ممتلكات الفلسطينيين الخاصة، لكن الأساس هو عملية إفراغ الأرض من ساكنيها، أو طردهم، وتطهيرهم عرقيًا، حيث ترتبط عملية التطهير بالإفراغ الجغرافي، وتحت شعار أنهم ليسوا سوى عرب رُحّل. وفي محاولتها رد الاعتبار للمغيبات من النساء والمدن الفلسطينية، تعود منار حسن في كتابها "المُغيّبات: النساء والمدن الفلسطينية حتى سنة 1948" (ترجمة علاء حليحل، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، 2022) إلى ما قامت إسرائيل به من عمليات إقصاء للمدينة الفلسطينية، ومحو من الذاكرة الجمعية، كي تروّج للادعاء بأن المجتمع الفلسطيني كان دائمًا وأبدًا مجتمعًا ريفيًا بدائيًا لم يشهد مسارات وعمليات تحضّر حقيقية.
غير أن حسن لا تتوقف عند ما قامت به إسرائيل فقط، بل تذهب بعيدًا بسؤالها عن الأسباب التي أفضت إلى محو المدينة الفلسطينية من الذاكرة الجمعية الفلسطينية، حيث تبني أطروحتها على أن تغييب الحياة المدنية الفلسطينية أدى إلى تغييب مكانة النساء اللاتي عملن في الحيّز الحضري. ولا تتردد في إرجاع ذلك إلى غلبة الريفي على الحضري في وعي ما تسميه "القومية الفلسطينية المنظمة"، حيث ساهمت منظمة التحرير الفلسطينية في هيكلة الذاكرة الفلسطينية كذاكرة ريفية، بسبب طابع الصراع مع المحتل الإسرائيلي، الذي دفعها إلى اعتماد خطاب انتصر للقرية، وصدر عن تلك "العلاقة الشجاعة بين الالتصاق بالأرض والقرية، وعن وظيفة القرية المركزية في الوعي والذاكرة"، وبالتالي فإن تنمية الطابع الريفي للذاكرة الجمعية حدث بفعل جملة عوامل اجتماعية داخلية، وسياسية خارجية أيضًا.
تريد المؤلفة من كتابها رد الاعتبار للمغيبات من النساء والمدن في التاريخ الفلسطيني، الأمر الذي يستدعي إعادة صياغة التاريخ الاجتماعي للنساء في الحياة الحضرية للمدينة قبل عام 1948، وإعادة بناء فسيفساء المدن المنسية، عبر اللوحات الفنية، والوقائع المكتوبة والمنطوقة، والقصاصات الصحافية، والسير الذاتية، ومقابلات مع من عاشوا تلك الحقبة في حيفا ويافا والرملة، وغيرها. إضافة إلى القيام بتجوال في تاريخ المجتمع الفلسطيني الذي شهد مسارات تحضّر مكثفة في نهاية القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين. وهو تاريخ لم يكتب بعد، بالنظر إلى تدمير إسرائيل الأرشيفات الفلسطينية كافة، لذلك تلجأ حسن إلى استقراء مادة بحثيّة تعوض غياب أرشيف منظم يوازي أرشيف الدولة ومؤسساتها، حيث اعتمدت على وسائل بديلة، واتبعت أسلوب التقصي في التقاط الصور والقصص والشذرات عن العلاقات الاجتماعية التي طاولت المدينة الفلسطينية والنساء فيها، مع التركيز على العلاقات الجندرية التي بدأت تتبلور في ذلك الوقت في الحواضر الفلسطينية. وبالتالي، فإن أهمية الكتاب تتجاوز الانتصار للروايات والسرديّات التاريخية، لتطاول موضعة النساء في المدن الفلسطينية عبر التاريخ الفلسطيني قبل فترة الانتداب البريطاني وخلالها، والنظر إليه ضمن شبكة علاقاتها مع محيطها السوري والعربي، والدور التفاعلي لهذا الامتداد لجهة تطور المدينة في فلسطين والمشرق العربي.




كما تبرز أهمية الكتاب في استحضار دور النسويات الفلسطينيات، ومشاركتهن في الحركة النسوية العربية، عبر إسهاماتهن في الكتابة السياسية والنسوية، أو في المؤتمرات الإقليمية، حيث ترد في الكتاب أمثلة كثيرة تسلط الضوء على ما دار من سجالات في تلك المرحلة حول مكانة المرأة، إضافة إلى إبراز أسماء نساء كانت لها إسهامات فعلية في المدينة الفلسطينية، واستعراض عدد من التنظيمات المتنوعة التي أسستها نساء في المدن، وأنتجت فكرًا وممارسة نسوية، لكن تغييبها عن السرديّة الفلسطينية الرسميّة أسهم في إعاقة تراكميّة لإنتاج المعرفة النسوية في فلسطين والمنطقة، ما أدى إلى تكبيل وإعاقة الخطاب النسوي وتراجعه ما بعد 1948.
ترى حسن أن الحقيقة التاريخية تشي بأن عشرة مدن من أصل إحدى عشرة مدينة فقدت صيغتها الفلسطينية عام 1948. وتوحي بأنه لم يبق إلا مدينة الناصرة كمدينة فلسطينية، فيما فقدت باقي المدن هذه السمة، وصار فيها الفلسطيني هامشيًا كما في يافا، أو لم يعد فيها مثل صفد وطبريا. وتشير إلى أن نسبة الفلسطينيين الذين سكنوا في المدن تراوحت بين 35% و40% من مجموع السكان الفلسطينيين قبل 1948، وشمل ذلك مدن الساحل والموانئ، يافا وحيفا، وعكا، والمجدل، وغزة، ومدن الداخل، طبرية، وبيسان، والناصرة، وجنين، وطولكرم، واللد، والرملة، ومدن الجبل، القدس، وبيت لحم، ورام الله، ونابلس، والخليل، وصفد. وظهرت عملية التحضر في توسيع الحيّز العام، عبر إقامة مؤسسات بلدية، مثل هيئات تحرير الصحف والمحطات الإذاعية، والمسارح والسينما، والمكتبات والمنظمات النسائية والنقابات المهنية والأحزاب السياسية والمقاهي والنوادي، وسوى ذلك. ثم توسعت الأماكن الحضرية، ومعها توسع المحتوى الحضري بصورة كبيرة، حيث أخذت الروابط والعلاقات الاجتماعية الجديدة في النمو والتشكل، جنبًا إلى جنب مع نمو ظواهر ثقافية لم تكن معروفة من قبل. وكان بعض المدن الفلسطينية الرئيسية، كالقدس ويافا وحيفا، الأكثر أهمية في هذا الإطار، وبرزت من الناحية الديموغرافية عملية التحضُّر التي مرّت عبر مدينتي المرفأ، يافا وحيفا، بصورة خاصة، ووصلت إلى أبعاد كبيرة، لا في ما يتعلق بالتطورات العمرانية في فلسطين التاريخية فحسب، بل أيضًا في ما يتعلق بالشرق الأوسط بأكمله.
غير أن النسوية، والعلاقات الجندرية، شكلت الهم الأساسي للكتاب، حيث يجري التركيز على إبراز وتحليل أدوار نساء في مدن فلسطينية، وتوظيف النوع الاجتماعي لقراءة المدن، فحضرت الحركة النسائية في صيغتها الواسعة والمزدهرة، وحضرت النوادي الثقافية والجمعيات المتنوعة من خلال حضور النساء فيها، وجرى إبراز أدوار "الجناكي"، والخيّاطات، والمُعلمات، ومديرات المدارس، والطبيبات والمُمرضات، وصاحبات المقاهي ودور السينما، وسائر المهن والأعمال، ومهرجان النبي روبين، والاستقبالات، وغيرها، حيث حولت نساء غرفًا في بيوتهن من أجل ممارسة مهنة الخياطة وتصميم الأزياء، كما سعت نساء إلى بلورة فضاءات نسائية، مثلما كان في حلقات الاستقبال، التي حولت البيوت إلى صالات للنقاشات السياسية والاجتماعية، وساهمت هذه الفضاءات في بلورة الخطاب النسوي الفلسطيني. وأثرّ ذلك كله على مسار التحضّر في بنات الطبقة الدنيا، وفي فرص العمل التي أتاحها هذا المسار من إمكانات لتوفير فرص للاستقلالية الاقتصادية وحرية الحركة والتنقل، لتحضر المرأة بصورة كثيفة جدًا مقابل ظلال شحيحة للمدينة، ما يعني أن الانتصار في الكتاب جاء لحساب المرأة، وعلى حساب المدنية، التي لم تنل القسط المطلوب من الجهد البحثي، من أجل إبراز سماتها بوصفها مدينة، تمتلك جسدًا، يتغلغل في المجالات كافة، السياسية والاجتماعية والثقافية، إضافة إلى امتلاكها روح حضارة تشكلها، وأخذت تتوسع مع الزمن، وباتت تشكل فضاء ومكانًا للتبادل والتفاعل والصراعات، وللتعبيرات الجماعية والفردية، وسوى ذلك. وكان الأمر يستحق تبيان حجم وأثر التحولات التي طرأت على المدن الفلسطينية في جوانبها المختلفة، سواء على صعيد الحيّز والمكان، أم على صعيد السياسة والاقتصاد والثقافة والترفيه، فيما آثرت المؤلفة تناول تجربة نساء ناشطات ودورهن ومساهمتهن في حياة المدن.
استندت المؤلفة على رؤية ترى أن المدينة عامل تحرر للمرأة، وتلعب دورًا يحرض على التغيير في علاقات الجندر، ولا ترى ترابطًا بين نمو المنظمات والحركات التحررية النسائية في الدول المستعمرة، وبين نضال حركات التحرر الوطني والقومي، لأن المنظمات النسائية نشأت في مراحل ما قبل الاستعمار في عدد من مناطق العالم، فضلًا عن أن التحضر المديني ساهم كثيرًا في ظهور الاتجاهات التحررية القومية والحركات النسوية. ثم مع الحداثة، شكل الحيز الحضري المتنامي ميدانًا لصراعات وتفاعلات سياسية واقتصادية واجتماعية، ولعبت دورًا أساسيًا في إنتاج وتشكيل علاقات اجتماعية جديدة، ومنظومات قيمية وثقافية جديدة، أسهمت في دورها في ظهور بديل لمنظومة العلاقات البطريركية، وخاصة علاقات الجندر ومكانة المرأة.
الملاحظ أن المؤلفة استندت في قراءتها النسوية إلى رؤية ترى أن النساء كنّ على الدوام فاعلات بشكل نشيط في التاريخ، وأسهمت أفعالهن في بناء المدينة، وفي استخدامها، من أجل نيل حقوقهن في الحياة اليومية فيها، وبما يضمن لهن حضورًا ناشطًا وفاعلًا في فضاء المدينة، ولم يترددن عن إظهار احتجاجاتهن عبر الصحف، والكتابة عن تغييبهن عن الحضور والمشاركة في مختلف النشاطات الثقافية العامة. ومن المهم أن نشير إلى ضرورة عدم وضع النساء في قالب واحد، سواء الفلسطينيات، أم سواهن، لأن الواقع التاريخي يتطلب النظر إلى اللوحة التاريخية المدروسة بأكملها، والأخذ بمختلف تعقيدات المشهد المعني في زمانه.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.