الطاهر لبيب كاتب تونسي مقل، صدر له كتاب "سوسيولوجيا الغزل العربي: الشعر العذري نموذجًا"، في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، مترجمًا عن الفرنسية التي صدر بها عام 1974، وهو عبارة عن أطروحة في جامعة السوربون، بناءً على اقتراح أستاذه لوسيان غولدمان، مؤسس "البنيوية التوليدية"، اختار فيها الحبّ مدخلًا مميزًا إلى المجتمع العربي من خلال الأدب. وقد وجدت تلك الأطروحة صدى في الأوساط الأكاديمية والأدبية الفرنسية، بدءًا بالمستعرب أندريه ميكيل، الذي اشتغل مليًّا على "مجنون ليلى". كذلك توقّف عندها المفكر البنيوي رولان بارت المشغول بـ"الخطاب العاشق". ومنذ ذلك الوقت، صدرت له كتب عدة في مجال تخصصه، علم الاجتماع، من بينها "صورة الآخر: العربي ناظرًا ومنظورًا إليه"، لكنه لم يقترب من ميدان الرواية، وكانت محاولته الأولى تلك التي صدرت في نهاية العام الماضي، تحت عنوان "في انتظار خبر إن" عن دارَيْن، واحدة بيروتية هي "منتدى المعارف"، وأخرى تونسية "دار محمد علي الحامي".
أول ما يلفت الانتباه في الرواية هو سؤال العنوان الجديد، ولكن القارئ لن يلقى عناء كبيرًا حتى يكتشف السر الكامن وراء ذلك، رغم أنه يختفي في طيات نظرة نقدية لدى الكاتب تجاه الخطاب العربي بشكل عام، وذلك في ما يحمله من عيوب كثيرة، تبعده عن إيصال ما يريد قوله، فيبقي المتابع مثل من انقطع به حبل الوصل، وظل ينتظر الإجابة وسط حالة من التردّد والتخمين والظنون، وهو يتعرض إلى قصف لا يتوقف من حمم الكلام الخالي من المعنى، مثلما يحصل في غالبية الندوات العربية، التي تحفل بالإنشاء والمطولات، وفائض القيمة من "لغو كثير الرغوة".
على هذا الأساس، يبني الكاتب رواية تتخلص من الزوائد، واضحة في معانيها المباشرة والبعيدة، تحاول أن تقدم نظرة، تقرأ بأدوات سوسيولوجية سلوك شرائح اجتماعية عربية، وتتغلغل في بنية خطابها وأنماط سلوكها، لاستبطان ما تفكر وتحلم به، بين القضايا الكبرى والتفاصيل اليومية الصغيرة التي تجري في الهامش، وتشكل سياق الكائن العربي.
ويختار لذلك محطتين ينتقل بينهما هما بيروت وتونس، ذهابًا وإيابًا، حتى يكاد تعاقب شخصيات العمل يشكل حالات من التقابل، المقارنة، التقاطع، التلاقي، التنافر، من منظور ثقافي اجتماعي سياسي ضمن فترة زمنية مهمة، تقع على مشارف الربيع العربي الذي هبت رياحه من تونس في نهاية عام 2010.
يتحدث الكاتب عن نفسه بلغة الروائي، الذي لا يتخلى عن نظرة السوسيولوجي، فيختصر ويوجز ويذهب مباشرة إلى ما يريد أن يبحث عنه أو يقوله. ويبدأ النقطة الأولى من وصوله إلى بيروت للعمل ضمن مشروع ثقافي، ولكن المدينة تجره لينظر إليها، يتأمل بعين مفتوحة كل تفاصيلها، من الدمار الذي أصابها من الحروب التي تعاقبت عليها منذ منتصف السبعينيات، وترك آثاره على نمط حياتها في المقاهي والفنادق والطرقات، وعلى شرائح مختلفة من البشر، النساء وسائقي التاكسي وأصحاب المشاغل الصغيرة، مثل مصلح الساعات، الذي يصبح رمزًا لزمن المدينة الآخر، حين يستمر موازيًا للخراب، ويتجاوزه بفعل قوة "الخميرة" الأصلية للمدينة "التي لا عمر لها"، ومن ذلك، أن عقول المثقفين والكتاب ظلت تفكر، وذاكرتهم تعمل ضد النسيان.
النقطة الثانية على الطرف الآخر هي تونس مسقط رأس الكاتب، الذي يجد نفسه يعود إلى طفولته وعالمه العائلي، الأب والأم والأقارب، والبيئة الريفية المعلقة بسورة الرحمن، ومن ثم الصورة الأشمل من البلد، الذي صنع لنفسه شخصية متميزة، مختلفة، وسط جغرافيات متباينة، مهتزة، متصارعة، وليس لديه مما يمتلكه جواره من إمكانات مادية، ولكن نجح في خلق توليفة، جعلت منه مكانًا ذا إشعاع وتأثير ودور، ومصدر طاقة تحفيز على الفعل، الذي قاد إلى تفجير أول ثورة في الربيع العربي، من خط "كلمة رقيقة في جملة ركيكة".
وما بين بيروت وتونس خيط الثقافة، هو الذي يربط ويشد ويجمع. هي المحرك، ومنها يمكن استعارة الأدوات لسبر الطريق، لتحليل ما يحدث، وما يمكن أن ينتظر، فليس خبر إن هو نهاية المطاف، طالما أن الغرض ليس اختتام الجملة، ووضع نقطة على السطر، بقدر ما يعني إتمام هذه الجملة كي تبدو نافعة. ويجد الكاتب نفسه يبحث عن ذلك لدى عينات معينة من أهل المدينتين، في تونس لدى صديقه الشاعر الذي يرسمه على نحو متقن حتى يكاد القارئ يجزم أنه يعني الشاعر الراحل أولاد أحمد، صاحب قصيدة "نحب البلاد"، والذي تحول إلى أحد أيقونات الثورة التونسية، ورحل في ظروف مأساوية عام 2016، كما لو أنه جسد بذلك قيام الثورة ونهايتها. ومن الطرف الآخر في بيروت، بين تشكيلة واسعة من الشخصيات، يحضر الشاعر أيضًا، الذي يفضحه الوصف لمن يعرف المدينة، ويجد القارئ نفسه أمام شاعر معروف رفض أن يغادر المدينة، وظل يعيش في شارع الحمرا، يغير المقاهي، ولا يغير البيت، ومع كل ما أصابها من تخريب، بقي على علاقة حب معها. وهو إذ يميزه هنا عن بقية كائنات المدينة، فهو لا يهمشه، ويبقى أن ما يقرب بين لبنان وتونس هو "بريق الممكن في حدس الشاعرين".
التجربة الروائية الأولى للطاهر لبيب، الذي حاول أن يعفي نفسه من "عناء الرغبة في الكتابة"، ناجحة في أنها تصل للقارئ، بلا تكلف، أو وسيط، ليس في المباشرة، بل لأنها تأخذه بود إلى عالمها المفتوح. وهذا يعني، أن الرواية مكتوبة بلغة سرعان ما يألفها القارئ، كونها مشغولة ومدروسة بعناية، لا لتقول فكرتها فحسب، بل لتشهد أن العربية ذات حساسية عالية، وتمتلك طاقة جمالية هائلة. ويبقى السر الكبير في ما اعترف به حيال الكتابة والسيرة الذاتية: "نحن لا نكتب فقط لنقول ما نقول وإنما، أيضًا، لنقول ما لا نقول. ما يبقى، خارج القول، هو الأكثر، دائمًا". لكنها في لزوم ما يلزم هي "سحر الجمع بين دقة المعنى وجمال المبنى"، وتلك هي خلاصة الرحلة.
أول ما يلفت الانتباه في الرواية هو سؤال العنوان الجديد، ولكن القارئ لن يلقى عناء كبيرًا حتى يكتشف السر الكامن وراء ذلك، رغم أنه يختفي في طيات نظرة نقدية لدى الكاتب تجاه الخطاب العربي بشكل عام، وذلك في ما يحمله من عيوب كثيرة، تبعده عن إيصال ما يريد قوله، فيبقي المتابع مثل من انقطع به حبل الوصل، وظل ينتظر الإجابة وسط حالة من التردّد والتخمين والظنون، وهو يتعرض إلى قصف لا يتوقف من حمم الكلام الخالي من المعنى، مثلما يحصل في غالبية الندوات العربية، التي تحفل بالإنشاء والمطولات، وفائض القيمة من "لغو كثير الرغوة".
على هذا الأساس، يبني الكاتب رواية تتخلص من الزوائد، واضحة في معانيها المباشرة والبعيدة، تحاول أن تقدم نظرة، تقرأ بأدوات سوسيولوجية سلوك شرائح اجتماعية عربية، وتتغلغل في بنية خطابها وأنماط سلوكها، لاستبطان ما تفكر وتحلم به، بين القضايا الكبرى والتفاصيل اليومية الصغيرة التي تجري في الهامش، وتشكل سياق الكائن العربي.
ويختار لذلك محطتين ينتقل بينهما هما بيروت وتونس، ذهابًا وإيابًا، حتى يكاد تعاقب شخصيات العمل يشكل حالات من التقابل، المقارنة، التقاطع، التلاقي، التنافر، من منظور ثقافي اجتماعي سياسي ضمن فترة زمنية مهمة، تقع على مشارف الربيع العربي الذي هبت رياحه من تونس في نهاية عام 2010.
يتحدث الكاتب عن نفسه بلغة الروائي، الذي لا يتخلى عن نظرة السوسيولوجي، فيختصر ويوجز ويذهب مباشرة إلى ما يريد أن يبحث عنه أو يقوله. ويبدأ النقطة الأولى من وصوله إلى بيروت للعمل ضمن مشروع ثقافي، ولكن المدينة تجره لينظر إليها، يتأمل بعين مفتوحة كل تفاصيلها، من الدمار الذي أصابها من الحروب التي تعاقبت عليها منذ منتصف السبعينيات، وترك آثاره على نمط حياتها في المقاهي والفنادق والطرقات، وعلى شرائح مختلفة من البشر، النساء وسائقي التاكسي وأصحاب المشاغل الصغيرة، مثل مصلح الساعات، الذي يصبح رمزًا لزمن المدينة الآخر، حين يستمر موازيًا للخراب، ويتجاوزه بفعل قوة "الخميرة" الأصلية للمدينة "التي لا عمر لها"، ومن ذلك، أن عقول المثقفين والكتاب ظلت تفكر، وذاكرتهم تعمل ضد النسيان.
النقطة الثانية على الطرف الآخر هي تونس مسقط رأس الكاتب، الذي يجد نفسه يعود إلى طفولته وعالمه العائلي، الأب والأم والأقارب، والبيئة الريفية المعلقة بسورة الرحمن، ومن ثم الصورة الأشمل من البلد، الذي صنع لنفسه شخصية متميزة، مختلفة، وسط جغرافيات متباينة، مهتزة، متصارعة، وليس لديه مما يمتلكه جواره من إمكانات مادية، ولكن نجح في خلق توليفة، جعلت منه مكانًا ذا إشعاع وتأثير ودور، ومصدر طاقة تحفيز على الفعل، الذي قاد إلى تفجير أول ثورة في الربيع العربي، من خط "كلمة رقيقة في جملة ركيكة".
وما بين بيروت وتونس خيط الثقافة، هو الذي يربط ويشد ويجمع. هي المحرك، ومنها يمكن استعارة الأدوات لسبر الطريق، لتحليل ما يحدث، وما يمكن أن ينتظر، فليس خبر إن هو نهاية المطاف، طالما أن الغرض ليس اختتام الجملة، ووضع نقطة على السطر، بقدر ما يعني إتمام هذه الجملة كي تبدو نافعة. ويجد الكاتب نفسه يبحث عن ذلك لدى عينات معينة من أهل المدينتين، في تونس لدى صديقه الشاعر الذي يرسمه على نحو متقن حتى يكاد القارئ يجزم أنه يعني الشاعر الراحل أولاد أحمد، صاحب قصيدة "نحب البلاد"، والذي تحول إلى أحد أيقونات الثورة التونسية، ورحل في ظروف مأساوية عام 2016، كما لو أنه جسد بذلك قيام الثورة ونهايتها. ومن الطرف الآخر في بيروت، بين تشكيلة واسعة من الشخصيات، يحضر الشاعر أيضًا، الذي يفضحه الوصف لمن يعرف المدينة، ويجد القارئ نفسه أمام شاعر معروف رفض أن يغادر المدينة، وظل يعيش في شارع الحمرا، يغير المقاهي، ولا يغير البيت، ومع كل ما أصابها من تخريب، بقي على علاقة حب معها. وهو إذ يميزه هنا عن بقية كائنات المدينة، فهو لا يهمشه، ويبقى أن ما يقرب بين لبنان وتونس هو "بريق الممكن في حدس الشاعرين".
التجربة الروائية الأولى للطاهر لبيب، الذي حاول أن يعفي نفسه من "عناء الرغبة في الكتابة"، ناجحة في أنها تصل للقارئ، بلا تكلف، أو وسيط، ليس في المباشرة، بل لأنها تأخذه بود إلى عالمها المفتوح. وهذا يعني، أن الرواية مكتوبة بلغة سرعان ما يألفها القارئ، كونها مشغولة ومدروسة بعناية، لا لتقول فكرتها فحسب، بل لتشهد أن العربية ذات حساسية عالية، وتمتلك طاقة جمالية هائلة. ويبقى السر الكبير في ما اعترف به حيال الكتابة والسيرة الذاتية: "نحن لا نكتب فقط لنقول ما نقول وإنما، أيضًا، لنقول ما لا نقول. ما يبقى، خارج القول، هو الأكثر، دائمًا". لكنها في لزوم ما يلزم هي "سحر الجمع بين دقة المعنى وجمال المبنى"، وتلك هي خلاصة الرحلة.