}
عروض

ظاهرة الاختفاء في المقاومة الفلسطينية

عمر كوش

27 فبراير 2024



عرفت معظم شعوب العالم ظاهرة الاختفاء والتواري عن الأنظار، في إطار صراعها مع الغزاة والمحتلين والأنظمة القمعية الاستبدادية، وشكلت ظاهرة تاريخية، لجأ إليها أفراد وحركات سياسية كوسيلة مناهضة لممارساتها. وتعود هذه الظاهرة في مجتمعاتنا العربية إلى غابر الأزمان، حيث ظهرت بوضوح تجارب اختفاء للعديد من المناهضين في العهدين الأموي والعباسي وما بعدهما، لكنها شكلت ظاهرة لافتة في العصر الحديث، خاصة في مرحلة ما بعد الاستقلال مع سيطرة أنظمة عسكرية وملكيات استبدادية على مقاليد السلطة والحكم في أغلب البلدان العربية، التي راحت أجهزتها تلاحق كل من يعارضها ويناهض سياستها. أما في الحالة الفلسطينية، فقد ميّزت هذه الظاهرة كل مراحل المقاومة الفلسطينية، قبل عام 1948 وبعده، حيث اضطر الثوار والمقاومون الفلسطينيون إلى التخفي والتواري عن عيون الاحتلال البريطاني، بغية مواجهته، ومواجهة مشاريع الاحتلال الاستيطاني التي كانت تنفذها الحركة الصهيونية، ثم مع إنشاء إسرائيل وتوسع واستمرار احتلالها الاستيطاني للأرض الفلسطينية، باتت ظاهرة الاختفاء ملازمة لآلاف المقاومين من كافة فصائل المقاومة الفلسطينية، خاصة في قطاع غزة والضفة الغربية. وفي هذا السياق، يأتي كتاب حسن نعمان الفطافطة، "تجربة الاختفاء الفلسطينية تحت الاحتلال الإسرائيلي"، الصادر حديثًا عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية، كي يسد نقصًا كبيرًا في المكتبة العربية حول التجربة الفلسطينية بشكل خاص، وظاهرة الاختفاء بشكل عام، إذ على الرغم من أنها ظاهرة مميزة فلسطينيًا وعربيًا، إلا أنه لم يتم تناولها من قبل بالدراسة والبحث، وهنا تكمن أهمية الكتاب في تأريخ وتدوين تجربة الاختفاء في مسار النضال الفلسطيني، وتبيان دورها في رفد المقاومة وتعزيزها وتواصلها لفترة أطول، إلى جانب تناول تجارب الاختفاء وتفاصيلها، حسبما عاشها مقاومون فلسطينيون اختفوا سنوات طويلة، وتابعوا خلالها نشاطهم السري السياسي والعسكري بفاعلية قبل أن تطاول معظمهم يد الاعتقال أو القتل، ولذلك يكتسي الكتاب أهمية إضافية تتجسد في تدوين تجارب العديد من المقاومين الفلسطينيين، وإماطة اللثام عما عانوه خلال فترات التخفي، والتضحيات الكبيرة التي قدموها خدمة لقضيتهم في التحرر من نير الاحتلال الاستيطاني الإسرائيلي، وذلك بالاعتماد على مقابلات مباشرة أجراها المؤلف مع مجموعة من الذين خاضوا التجربة لسنوات، إضافة إلى دراسات وتقارير ومقالات ومقابلات صحافية وأفلام وثائقية تطرقت إلى الظاهرة.

ينطلق المؤلف من الفصل بين ظاهرتي الاختفاء والمطاردة، معتبرًا أنه على الرغم من تشابك الظاهرتين وتداخلهما مع بعضهما البعض، إلا أن ما يفصل بينهما هو أن الاختفاء ينفتح على عالم مجهول يتحرك فيه المتخفي بعيدًا عن عيون الناس، بينما يتحرك المطارد بشكل مكشوف في المحيط الاجتماعي الذي يوجد فيه، لكن صعوبة التمييز بينهما تأتي من أن العديد من المناضلين مارسوا الظاهرتين في نفس الوقت. ويعرّف المؤلف المطاردة بأنها سلوك نضالي يلجأ إليه بعض الأفراد الذين يتعرضون للملاحقة الأمنية من طرف الاحتلال، فيتحركون بصورة شبه علنية ضمن محيطهم الاجتماعي، متخذين جملة من الاحتياطات. أما بخصوص ظاهرة التخفي فيعتمد تعريف الكاتب أحمد قطامش، الذي يعرّفها بالاحتجاب الكلي وعدم الظهور إلا على أهل الشأن، حيث يصبح المتخفي أثرًا بعد عين، فينقطع عن العمل والتعليم والأهل والأصدقاء، ويصبح ملكًا للعمل الثوري الذي يتكفل بتلبية حاجاته الأساسية. وهو تعريف صادر عن صاحب أكثر تجارب الاختفاء الفلسطيني طولًا، حيث اختفى لمدة 17 عامًا، بدأت في عام 1976 وانتهت باعتقاله في عام 1992.

يجري التركيز على تجارب الاختفاء تحديدًا، مع اعتبارها ظاهرة أفشلت تحويل كادرات أساسية في العمل الوطني الفلسطيني إلى لقمة سائغة للاحتلال، ومكنتهم من مواصلة نشاطهم المقاوم لسنوات إضافية، سهلت خلق بدائل تحل مكانهم بعد غيابهم، وتحفظ استمرارية العمل النضالي، حيث مارسها آلاف الفلسطينيين خلال محطات النضال المختلفة، خاصة بعد أن لجأت قوى المقاومة الفلسطينية إلى استخدام هذا الأسلوب من المواجهة مع قوات الاحتلال الإسرائيلي، في محاولة منها للاستمرار في أداء رسالتها وفعلها النضالي، بعيدًا عن حجز طاقتها خلف جدران المعتقلات والسجون أو في المقابر والمنافي في بلدان الشتات.

تظهر تجارب الاختفاء الفلسطيني في ظل الاحتلال الإسرائيلي، أن المتخفين قبل عام 1948 كانوا يلجؤون إلى دول الجوار مثل سورية ولبنان والأردن، لكن بعد قيام السلطة الفلسطينية بدأوا بالتوجه إلى مناطق "أ" قبل أن تستبيح إسرائيل كافة المناطق، وتطاردهم في كل مكان. ويركز المؤلف بشكل خاص على تجارب الاختفاء منذ عام 1967 وحتى عام 2022، حيث يرصد تلك التجارب العملية في أكثر من محطة، وخاصة مع اندلاع الانتفاضة الأولى ثم الانتفاضة الثانية، حيث كان هناك تداخل كبير في الحالتين، بالنظر إلى أن نفس الأشخاص الذين مارسوا الاختفاء في لحظات معينة كانوا مطاردين، وبعدها مارسوا الاختفاء، وبالعكس. وقد مرّت تلك التجارب بعدة مراحل على امتداد سنوات الاحتلال الإسرائيلي، والتي انطلقت في الأصل على شكل تجارب فردية، قبل أن تتبناها مختلف التنظيمات الفلسطينية، حيث مارستها العديد من المجموعات في الضفة الغربية المحتلة وقطاع غزة، وشهدت صعودًا وهبوطًا تبعًا لظروف سياسية وميدانية وتنظيمية. وقد برز بعض أبطالها في مراحل مختلفة بينها تجربة "الدوريات"، وتمثلت في قدوم نشطاء من خارج فلسطين إلى الأراضي المحتلة والمكوث متخفين لفترات معينة في مناطق شمال الضفة، وكان من بينهم ياسر عرفات وأبو علي مصطفى وآخرون. وبرز في قطاع غزة محمد الأسود، الذي عُرف بـ"غيفارا غزة"، وخاض تجربة مميزة في التخفي ومقاومة الاحتلال خلال قيادته قوات الجبهة الشعبية في القطاع. كما برزت تجربة "الشيوعيين الفلسطينيين" بقيادة عربي عواد وسليمان النجاب، وتجربة "الجبل" بقيادة باجس أبو عطوان، وتجربة "الجبهة الشعبية" بقيادة أبو منصور، وأيضًا تجربة أحمد قطامش الذي ضرب رقمًا قياسيًا في الاختفاء، وتجربة كتائب القسام التي برز فيها عماد عقل ويحيى عياش وسواهما. ولا يغيب عن المؤلف تبيان دور المرأة في التجربة في قطاع غزة، حيث انضم عدد من النساء الفلسطينيات إلى قوات التحرير الشعبية وساهمن في أعمال نضالية ولوجستية، وكان من بينهن رحيمة أبو شمالة، فاطمة الحلبي، سعاد أبو السعود، ومنهن من اشتركت في عمليات فدائية مثل عايدة سعد ودلال أبو قمر. وبرزت كلّ من فيروز عرفة ومريم أبو دقة وخضرة قاسم وغيرهن. أما في الضفة الغربية فقد اقتصر دورهنّ على القيام بدور الرسول بين المختفين والمطاردين في جبال الخليل وقباطية، فيما حضر دور المرأة جزئيًا بين صفوف الجبهة الشعبية عبر الإسناد، وغاب هذا الدور في تجربة "كتائب القسّام".

برز في قطاع غزة محمد الأسود، الذي عُرف بـ"غيفارا غزة"


يحدد المؤلف عدة شروط لنجاح نمط التخفّي، وخاصة توفير بيوت سرية آمنة على الصعيد الأمني والاجتماعي، إلى جانب تأمين طاقم لوجستي وفنّي لتلبية المتطلّبات والحاجيات الضرورية للمتخفّي، وامتلاك المتخفّي جملة من السمات والمواصفات تؤهله للتخفّي، مثل القدرة على التحمّل والصبر على حياة العزلة، وامتلاكه مهارات أساسية في البناء والعمل التنظيمي، وضرورة ضبط المتخفّي حركته وتنقّلاته خارج حدود البيت السري الذي يعيش فيه. ويلاحظ المؤلف أن المتخفّين في قطاع غزة أبدعوا في ابتكار وسائل التمويه والتنكّر في الشكل والسلوك، مستفيدين من كثافة حجم السكان، حيث سهّل تعرّفهم على بعضهم البعض تخفيهم، أما في مناطق الضفة الغربية فكانت الظاهرة محدودة إلى حدّ ما، بالنظر إلى أن الأغلبية اتخذت الجبال ملجأ لها. وكانت وسائل التنكّر والتمويه تتجسد في تغيير اللباس ما بين ارتداء ثياب امرأة مقنعة، أو لبس بدلة وربطة عنق، وأحيانًا يجري تقمّص أدوار الأطباء، أو عاملي الكهرباء، قارئ عدّاد الكهرباء، أو ارتداء ملابس فلاح أو عجوز يحمل بيده عصا. ويسوق أمثلة على ذلك، فقد تعود عباس السيد على التنقل بالسيارات ولم يكن يمشي، وتخفّى بزي امرأة، فيما حمل عبد الله البرغوثي هوية مزوّرة. واستخدم المتخفون الفلسطينيون طريقة التحايل على السياج الإلكتروني للعبور بين الأردن والضفة الغربية، من خلال إزالة الآثار بأحذية مصنوعة من جلود الأغنام، أو السير بطريقة عكسية بغية إعطاء انطباع أنهم خرجوا من فلسطين ولم يدخلوا إليها. وكانت آليات ووسائل التواصل مع الأهل في قطاع غزة تتم بترتيب من التنظيم من قبل النساء على الأغلب، فيما أنها كانت في الضفة الغربية تتم بطريقة عفوية وغير منتظمة. أما قرار التخفّي فكان يتخذ بقرار تنظيمي، وأحيانًا فردي لدى الجبهة الشعبية، أما بقية الفصائل الفلسطينية فكان الأمر شخصيًا إلى حد كبير. ونهض نمط التخفي لدى الجبهة الشعبية خلال الفترة 1976-1994، على الاختباء في بيوت سرية داخل المدن، مع قطع صلة المتخفي بالمرحلة السابقة وبدء مرحلة جديدة، وكان المتخفّون من الكوادر الهامة في الجبهة على الأغلب. وتميز نمط الاختفاء لدى كتائب القسام في الفترة 1991-2000 بتنوّع أماكن الاختفاء، ما بين الشقق المستأجرة والبيوت السرية والكهوف والمغاور في الضفة الغربية، بينما كان الاختفاء في قطاع غزة يتم لدى عائلات موثوقة. وقد تميزت فترة الانتفاضة بأن المتخفين لجأوا إلى الحاضنة الشعبية، التي شكلت بالنسبة إليهم ملاذًا آمنًا في ظل تراجع الرعاية من طرف التنظيمات.
ومع انتهاء الانتفاضة الثانية مع بداية 2005، بدأت ظاهرة الاختفاء بالتراجع، خاصة بعد صدور عفو عن بعض المطلوبين من طرف إسرائيل، ثم تلاشت تقريبًا بعد التعاون الأمني بين السلطة وإسرائيل، إضافة إلى توسع شبكة العملاء، وانتشار كاميرات الأقمار الاصطناعية، ولكن ظاهرة التخفي والمطاردة عادت من جديد في عام 2021 في شمال الضفة الغربية بظهور خلايا مسلحة، حيث يتوقف المؤلف عند تجربة الاختفاء في الفترة 2000-2022، في الضفة الغربية، عندما لجأ كثير من المطلوبين إلى المناطق المصنّفة "أ"، كون الاحتلال لم يكن يدخلها في ذلك الوقت، في حين أن السلطة الفلسطينية كانت تعتقل بعضهم، وكانت تطلق سراحهم أحيانًا إما تحت ضغط الشارع، أو بسبب قيام قوات الاحتلال بقصف مقارها الأمنية.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.