}
عروض

"الجراح تدلّ علينا": قسوة الواقع وجماليّات السرد

راسم المدهون

28 فبراير 2024


بين أصوات لا تحصى من كتاب القصة الفلسطينيين يختار زياد خداش أسلوبًا مغايرًا بل وعوالم مغايرة تأخذ معها القصة قارئها إلى استعادة صورة العالم وبالذات صورة الواقع الفلسطيني كما تبدو من عدسة المخيلة، ما يجعل الكتابة القصصية وفن السرد بالذات أقرب إلى مغامرة في الشكل والمحتوى على حد سواء.

في سبيل سرد قصصي مغاير يحشد خداش أدوات فنية و"وقائع" تنتمي إلى الحياة بالتأكيد ولكنها الحياة التي تتحد مع غرائبيتها فتشكل بها ومعها أفقًا يتسع لكثير من الهواجس والأحلام وحتى الكوابيس مثلما يتسع لبنائيات قصصية تحتفل بالجزئي وما يمثله من تفاصيل قد تبدو في العادة "هامشية" أو قليلة الأهمية في سياق واقع عام وطني وحياتي عنوانه الأبرز العيش اليومي تحت حراب الاحتلال وفي ظل قوانينه وحتى في ظل غرائبية تلك "القوانين" وخروجها عن المألوف. هي بهذا المعنى "مواجهة" فنية وأدبية مختلفة مع الاحتلال، تنجح في "تفكيك" صورته العامة ورؤيتها بتفاصيلها وصورها التي قد تبدو جزئية ولكنها تجتمع إذ تكتمل لتشكل لوحة السواد التي يجسدها العيش تحت حراب بنادق الجنود المحتلين وقطعان مستوطنيهم. هنا بالذات تتواشج صور وحكايات الطفولة وما تحفل به عادة من "لعب" يبدو للرائي العابر بريئًا وقليل المغزى، لكنه في احتمالاته الأعمق يشكل رؤى جديَة بل بالغة الخطورة والأهمية.

زياد خداش في كتابه القصصي الجديد "الجراح تدلّ علينا" ( منشورات المتوسط – ميلانو، إيطاليا 2023) يزجُ أحداث الحياة اليومية تحت الاحتلال في مرايا الفانتازيا برشاقة تمنح السرد "ألفة" التماهي المتمرد على ذلك النشاز الذي يلعب بمصائر الفلسطينيين كأفراد وكشعب معًا، ونحن كقراء نرى تلك الفانتازيا الشائكة بل والدامية غالبًا في سردياته منذ العناوين التي تنتظم كل قصة أو لأقل كل "نص" حيث تعتمد خياراته لعناوين القصص مفارقات ما تبدو عادية أحيانًا ولكنها في الأحيان كلها بالغة الدلالة وتنتظم تلك الإحتمالات المتخمة بالمعاني كما بالآلام والقسوة.

يختار زياد خداش لكتابه القصصي عنوانًا لافتًا "الجراح تدلّ علينا"، إذ نحن كشعب وكأفراد متفرقين ومجتمعين ننتمي بشكل أو بآخر لذلك الجرح الكبير الذي يبدو لنا نقطة ضوء تنفتح على سرديات فانتازية تشكل بمجموعها وبمآلاتها تراجيديا غير مسبوقة في التاريخ، بل لعل فرادتها تلك تجعل كثيرًا من فصولها عصية على المنطق السليم، بل غير قابلة للتصديق. وخداش يفعل كل ذلك وفي خزائن وعيه عشرات القصص القصيرة التي كتبها مبدعون فلسطينيون كبار سبقوه بأجيال منذ نجاتي صدقي وسميرة عزام مرورًا بغسان كنفاني ومحمود شقير وماجد أبو شرار ويحيى يخلف ومحمود الريماوي إلى كتّاب مرحلتنا الراهنة، وكلهم نهلوا من تلك "الجراح" وبرعوا في إطلاق سردياتها حسب رؤاه وموهبته وحتى أفكاره وثقافته ناهيك عن تأثر كل واحد منهم بمكانه الخاص وذائقته الفردية.

ينتبه قارئ "الجراح تدلّ علينا" ما يشيع في قصص الكتاب من مفارقات حدثية تتكئ على غرائبية لها صلاتها العميقة بالواقع السياسي والاجتماعي، وخداش في هذا يعكس رؤية فنية تقوم على "السخرية" من الواقع ذاته الذي يبدو "نشازًا" في عالم اليوم بما فيه من وقائع وأحداث لا تقع إلا في فلسطين. ميزة قصص زياد خداش أنها تمثل مقاربات فنية عالية لصورة المجتمع الفلسطيني "الأخرى" بكل ما تحمله من تفاصيل غريبة عن عالم اليوم، وسنلاحظ دون عناء أنه كاتب عميق الصلة في كل ما يكتبه بالطفولة وعوالمها وبالذات ما يتصل بعلاقة الطفولة والأطفال بالاحتلال وما تعيشه من مفارقات تجعل القصص ذاتها مسرحًا للغرائبي، وأكاد أقول اللامعقول. قصص تناوش "العادي" وتعيد تأمله بعمق ينجح في تعريته وكشف مفارقاته وإعادة تقديمه في سياقات سردية تقبض بقوة على العنصر الأهم في القصة كجنس أدبي وأعني به التشويق. هنا بالذات نلحظ أن زياد خداش "يقارب" فن القصة القصيرة جدًا، ولكنه يذهب نحو "نسخته" هو من القصة القصيرة جدًا، ولكنه يقارب دون أن يلتزم بها أو بالأحرى دون أن يفارق فن القصة القصيرة، ولعل مصدر تلك المقاربات يكمن بالذات في انحيازه لفن "اللقطة" التي تحضر في قصصه كبقعة ضوء ساطعة، كاشفة بحدثيتها وحركيتها والتي تتكامل حلقاتها إذ تأخذ كل واحدة بيد الأخرى على نحو يمتحن السرد القصصي في سياق الكتابة الرشيقة والجملة ذات التكثيف والتي توظف فانتازيتها المباشرة والسهلة في كتابة لها جمالياتها البسيطة ولكن العميقة وغير العابرة.

في قصة "مجنون البيانو" يذهب الكاتب نحو حد قصي من الفانتازيا حيث يتوحد بطل القصة بآلة البيانو الموسيقية فيقدم قصة جاءت مزيجًا متماهيًا بين الفكرة السردية وجنون الموسيقى، فالفكرة السردية الواضحة وذات العلاقة المباشرة بالواقع تتحد مع موسيقى فن التجريد شبه الكامل والتي ترمز في بعض جوانبها لتدفق الحياة وما فيها من جمال. في القصة، نلحظ قوة حضور رمز الموسيقى وعلوه إلى مقام يمنح السرد رشاقة ويضيف للمغزى الفكري آفاقًا لا محدودة.

توقفت طويلًا أمام قصة "محل ألعاب" التي جاءت أقرب إلى القصة القصيرة جدًا:

"بقوة أحصنة يدفعان عربة الخبز باتجاه شارع ركب، طفلان بتسع سنوات صاعدان من (رام الله التحتا) حيث فرن الأب. أقف احترامًا لهذه القوة ويقف آخرون معجبين. ولكن في رأس طلعة الكلية الأهلية الحادة كانت قوة الدفع تخور رويدًا رويدًا، فتتراخى أيادي الطفلين، وتقف العربة في منتصف الشارع، تنفجر زوامير السيارات محتجة، وأستغرب:

- لماذا تقف العربة دومًا في تلك البقعة المحددة؟

أنظر حيث ينظر الطفلان. كانت قوة دفع اليدين قد انتقلت إلى العينين، تندفع باتجاه محل محدد على الرصيف الآخر، نظرتُ إلى حيث ينظران.

كان هناك محل ألعاب"...

هي تختصر سرديتها في لقطة أو إذا شئنا الدقة مشهد، وهو مشهد يختصر بدوره دولاب الحياة اليومية في مدينة تحت الاحتلال يغادر الأطفال طفولتهم فيها على عجل ويذهبون بكليتهم وقواهم في العمل القاسي، لكن نداء الطفولة المراوغة يتربص بهم في واجهة محل ألعاب يرونه فجأة فيتوقفون عن العمل. هي قصة "تناوش" الأسى العميق، اليومي وشبه الروتيني الذي جعل الاحتلال للمدن والقرى الفلسطينية يطبع الحياة بقسوة خاصة تتداخل مع كل التفاصيل البسيطة للناس ومنهم الأطفال.

سأقول هنا إن زياد خداش تركنا بتلقائية محكمة ومدبرة نتوقف طويلًا أمام حدقة موهبته القادرة على التقاط اليومي وما قد يبدو عابرًا أو هامشيًا قليل الأهمية، وذلك يعيدنا مرَة أخرى لبعض اهتمامات الكاتب الشهيد غسان كنفاني في رسمه حياة الأطفال والصبية الفلسطينيين بريشة بارعة انتمت لمرحلة الخمسينيات والستينيات وخصوصًا في قصته الشهيرة "خمس ليرات"، ولكن زياد خداش يذهب نحو مقاربة فنية جديدة ومختلفة تقبض على ما يبدو للوهلة الأولى تجريديًا أو حتى رمزيًا لكنه مع ذلك يظل ينتسب للواقع اليومي ببراعة فنية ورشاقة بناء وسرد.

هنا بالذات نلحظ بوضوح احتفاء الكاتب بفكرة التعبير القصصي بأساليب تفارق السائد وتعتمد أشكالًا تتوافق مع مضامينه الجديدة التي تطلع من المخيلة ومن فكرة توظيف هذه المخيلة في "لعبة" فنية بسيطة وإن تكن عميقة وتحمل دومًا شجنها الخاص.

بين كتاب القصة في فلسطين اليوم يقف زياد خداش وحيدًا برؤاه وأساليبه وبدأبه على محاورة الشكل الفني وجره نحو موضوعات متنوعة تزدحم في شوارع الحياة الفلسطينية الراهنة بكل ما فيها من مواجهات يومية مع الاحتلال تقع في المدن والقرى والمخيمات ولكنها تسكن مع أصحابها وترافقهم في حلهم وترحالهم.

"الجراح تدلّ علينا" وجد فني يمنح السرد القصصي جمالًا قاسيًا إذ هو يعبر عن قسوة نراه يكتبها بصورة جميلة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.