}
عروض

"سماءُ غزّة تِلالُ جنين": مَرْوِيّةٌ لأصحابِ الأرض

مليحة مسلماني

3 فبراير 2024


في كتابه "سماءُ غزّة تِلالُ جنين"، الصادر مؤخرًا عن الاتحاد العام للكتاب والأدباء الفلسطينيين، وعن دار اليازوري الأردنية، يكمل الشاعر الفلسطيني عبد الله عيسى سردّيته الشّعرية والنثريّة للمأساة الفلسطينية، وللهوية الموزّعة بين الحنين إلى الوطن المسلوب، وشتاتِ وغربةِ المنفى؛ يروي حكاية أصحاب الأرض، الناجين منهم والشهداء واحتمالات الشهداء، وسيرةَ المكان المنتهك بالاقتلاع والقصف اليوميّ. بينما تحضر غزة موضوعًا رئيسًا في عدد من القصائد والنصوص، لتبدو وكأنها أمّ الحكاية الفلسطينية اليوم، ومفتاحها، ومِغلاقها العصيّ على الفتح أو الانكسار، تحضر عنقاء فلسطينية تنبعث بعد كل حربٍ من رمادها.

"وستنتهي الحرب"
يفتتح الشاعر ديوانه بقصيدة بعنوان "وستنتهي الحرب"، والتي وإن كانت تبدو، وللوهلة الأولى، أنها تفاؤليةً تبعث الأمل في عنوانها ومطلعها بانتهاء الحرب، إلا أنها تصوّر قسوةَ واقعها، وحالةَ العجز الإنسانية العامة أمام المأساة الفلسطينية القديمة ــ الحديثة، فقول الشاعر: "وستنتهي، مثلما اتّفِقَ، الحرب هذه أيضًا"، إحالة إلى أن العدوان الحاليّ على غزة، وكلّ عدوان متجّدد في فلسطين، هو امتداد للنكبة الأولى عام 1948.
الشاعرُ، الذي يتكلم في القصيدةِ بضمير الجماعة "نحن"، يضع الذاتَ العربية الجمعيّة أمام المرآة، ولعلّ ضمير جمع المتكلّم "نحن" يتّسع ليحيل به الشاعر إلى الإنسانية جمعاء، التي تشهد لعقودٍ الكارثةَ عاجزة. تنطوي صور القصيدة على دلالات الرفض والغضب تجاه العجز والصمت والقصور؛ فالعالم الشاهدُ على المأساة، جموعٌ من التعساء، والمستضعفين، الفاقدين للرجاء، والعاجزين عن إنقاذ الأطفال من "غرف الموت المغلقة"، مرائين، ومُذَلّين، ومتهالِكين، ومرتعدين، ليس في إمكانهم التألّم كالضحايا، أو نيابةً عنهم، قاصرين عن العمل على تقريب "نُفوقِ القَتَلة"، وعاجزين عن التظاهر أو الموت من أجل الضحايا، فهم، أي هؤلاء الجموع الشاهدة على المأساة، "محضُ موتى".

"لم تَعُد الأعلامُ تكفي"
في القصيدة التالية، وعنوانها "نحن"، ينتقل الخطاب إلى الضحايا، ليرسم الشاعر صورةً للفلسطيني في ظلّ الحرب؛ فتتبدّى من بين سطور القصيدة ملامحُ هويةٍ من اليُتم والحزن، والانهماكِ بحفر قبورٍ جماعية؛ كثيرٌ من القتلى، بحيث "لم تَعُد الأعلامُ تكفي" لتكفينهم، كثيرٌ من الجثث، بحيث "لم تعد أظافرنا كافية" لانتشالهم. هو خطاب هويّةٍ من تحت ركام البيوت، والمشافي التي لم تكن تتسع أصلًا للجرحى. وهو "ركام العالم المنهار الذي لا يأوي معنا إلى العراء... كي لا تُخطئ الطائرات أجسادَنا"، وهو "ركام الحياة" التي فُقدت تحت القصف، و"ركام السماء" التي تمطر ريشًا وبقايا أجنحةٍ مخضّبة بالدم.
يستكمل الضحايا خطابَهم في القصيدة التي بعنوان "لم يَطُلْ ليلُنا كثيرًا"؛ يراقصهم الموت الذي يحيط بهم من كل جانب، لا وقت لديهم للعناق الأخيرِ "تحت ظِلال القنابل المضيئة"، وأيامهم لم تعد كما كانت، والجار يعثر على الجار في شريط الأخبار. يكرّر الشاعر القولَ: "لسنا أرقامًا في قائمة الموتى"، فهؤلاء الضحايا لهم أسماء وذكريات، ويحلمون بغدٍ لن ينتظروه طويلًا، في إحالةٍ إلى الحضور الطاغي للموت.

"مثلَ رَتْلِ أبالِسة"
ينتقل الشاعر في قصيدة "مثلَ رَتْلِ أبالِسة" إلى تأطير صورة للآخرِ، الواقفِ على جبهة التضادّ والعداءِ للوجود والهويّة والذاكرة الجمعية؛ فيصوّره جموعًا من الأبالسة الذين يعدّون لمجزرة جديدة، وهم الخارجون من "الأسفار القديمة"، لينهمكوا "بإنشاء نكبةٍ أخرى لنا... تليق بهم". وهم جبابرة ينبشون المقابر، وطغاة يقتلعون التلال، ويجرفون القرى والحقول، بل "والسماءَ يجزّونها أيضًا"، كي يقتسموا مع أصحابِ الأرض "عُنوةً، هواءً خصّه اللهُ بنا".
يقصفون المدن وذاكرتها، وأشجارًا "تتنزّه مثلَنا في المراعي". هم قَتَلةٌ قلوبهم جافة، وذوو "ذاكرة باردة"، لا تاريخ ولا هوية تجمعهم، فوجوههم وألسنتهم مختلفة، وينحدرون من سلالاتٍ "تُقيمُ في العتمةِ كي تُفقدكَ ظلّكَ". يختتم الشاعر القصيدة بما يمكن اعتباره وصيّة أصحاب الأرض المتوارَثة، يقول: "لا تغفر لهم... إنهم يَدْرون ما يفعلون".


"هنا غزّة"
تحضر غزّة، مكانًا، وشخوصًا، وبحرًا، ومأساةً وأملًا، في عدد من قصائد ونصوص عبد الله عيسى، وذلك ضمن صورتين، غزّة قبل الحرب، وخلال الحرب؛ ففي قصيدة بعنوان "في غزّة"، يكثّف الشاعر من استخدام صور تحيل إلى الموت والدمار والفقد، يفتتحها بقوله: "لم تعد صور الشهداء تسند جدران البيوتِ... تلك التي مالت بعد القصف على جثث القتلى". كما أن البحر لم يعد كما كان "يُطِلُّ على دفاتر رسم الأطفالِ...". بينما المارّة، في وقت الهدنة، لا يعثرون في أحلامهم على مدن أخرى أو أطفال يبتسمون كثيرًا، ويكتفون بالتجوّل في غرف الموتى، ليحكوا سِيَرَهم لصائدي الأخبار.
في غزة، وقت الحرب، يُفقَد الإحساس بالزمن، فالأمّ التي تغزل كنزةً لابنها اكتشفت للتوّ أن الشتاء قد ولّى، وأن ابنها لم يعد من الحرب الأخيرة. وفي غزة، وأمام الكاميرات، تقبّل فتاة خطيبها المسجّى في ثلاجة الموتى. يتعاظم تكثيف دلالات الحضور الثقيل للموت بقول الشاعر إنه في غزة "حتى النوارس لا تموت من الشيخوخة"، بينما يتذكّر الناجون، بعد انتهاء الحرب، أنهم لا يزالون على قيد الحياة.
تقدم قصيدة "هنا غزة" صورًا مغايرة للمكان الغزّي؛ فهو البحر الذي يستيقظ على أصوات الصيّادين، بينما الهواء مفتون برائحة الأسماك. غزة هي بشرٌ طيبون يتزاحمون في بقعة صغيرة، ألوانهم وأحلامهم تشبه قوس قزح. ويقول الشاعر، في إشارة إلى انتمائهم وتجذّرهم في المكان، إنهم "يفكّرون بمدنٍ أخرى كي يكتشفوا أنهم لا يحنّون إلّا إلى غزّة". وغزة هي عاشقٌ يرسم على حائط الجيران وردة حمراء، علّ ذلك يأتي له بحبّ ابنة الجيران.





في غزّة، يتعب الأطفال من حمل حقائبهم المدرسية، يبدون وكأنهم يحملون العالم على ظهورهم، "ويخجلون من أنفسهم... حين يخطئون بإعراب: بلادُ العرب أوطاني". وفي غزة، يسخر صاحب ورشة الحدادة من صاروخٍ أتت به حرب جديدة ليقطع رزق أطفاله. هي غزة التي يرجو أعداؤها رؤيتها غارقةً في البحر، ولكنها تبقى تغيظهم، برائحتها التي لا تشبه روائح المدن الأخرى، تُباغِت أعداءها في نومهم، بأطفال يمدّون ألسنتهم لهم، فتُفسد عليهم أحلامهم.

"هناك جنين"
تتبع القصائدَ حول غزّة قصيدةٌ بعنوان "هناك جنين"، لتبدو وكأنها خيطٌ يصل به الشاعر تقطّع أوصال المكان الفلسطيني في داخل الوطن، إضافة إلى شتات المنفى. تتضمّن القصيدة مقاطع قصيرة في حروف اسم المدينة، التي عُرفت بمقاومتها للاحتلال وبتضحياتها الكبيرة، فيقول: "ج: جُعلت شجرةً لأسمائنا كلّنا... كي نناديكِ: يا أختَنا كلّنا". والقصيدة هي سيرة أصحاب المكان الذين يشبههم النهر، والغَيْم يتبعهم، وهم مجرى النهر، وهم المصبّ، في إشارة إلى كونهم أصل الحكاية والتاريخ. يصعدون مثل جنين أعلى الصلبان، ليقصّوا ذاكراتهم، بينما تتجوّل رائحة اللوز بين بيوتٍ تنتظر منذ زمن طويل عودة ساكنيها. يحرسون البئر القديم "من شبحِ الهدهد الأعمى"، الذي قد يحيل به الشاعر إلى لصوصِ سيرةِ المكان.
في ياء "جنين" يقول إنهم يعزمون على الخروح من الكهف والعتمة، كي لا يبقوا هامشًا في أحاديث الرواة. أما نون جنين فهي "نَحْنُ... مجرّد: نَحنُ"، وهم الذين يتهيّأون لأن يكونوا "قرابين لائقة". لا يندبون أقدارهم، ولا يشكون سوى لله "ضياعَ مدارِ الأرض".

ما قاله الطينُ للطير
ضمّ كتاب عبد الله عيسى قصائد قصيرة كثّف فيها من استخدام الصور الشعرية التي صيغت بأسلوب اختزاليّ رمزيّ، كما في قصيدة بعنوان "أصدّق في المرآة أنّي ما أزال"، التي تتراوح دلالاتها في المسافة بين مفهوميْ الموت والحياة، وتترك أسئلة تأمّلية حولهما باعتبارهما ضدّين، ولكنهما يبدوان شديديْ الاقتراب من بعضهما؛ فالمتكلم في القصيدة هو الميّت الحي، الذي يصدّق في المرأة أنه لا يزال حيًّا، كفُّه تعيد له الأرض، ويخاطب جنديًا فيقول له: "عُدْ سالمًا من حيث جئتَ... وَدَعْني أزرع الحَبَق البرّي فوق قبورِ من قتلتَ"، فهؤلاء القتلى هم من سيعيدون له الروحَ لتتمثّل بشرًا مثلَه سويًّا.
يتكرر الخطاب للجندي في القصيدة التالية، التي عنوانها "ينبغي أن أَحُّلَ"، يقول له إن العابرين مرّوا قبله على ركام البيوت، ولكنهم "لم يعثروا أبدًا على ظِلال خُطاهم"، في إشارة إلى أن مصير الغزاة هو الاندحار الحتميّ. يقول: "سيرتي كلّها فوق الحجارة... تحت الرمل"، هذا ما رواه الطينُ للطير، في مطر صيفيّ، يغسل الأرض ويمحو منها آثار العابرين ليمضوا "من حيث جاؤوا إلى قبورهم".

رسائلٌ بين وطنٍ ومنفى
يحتوي القسم الأخير من الكتاب على نصوص نثريّة من ضمنها رسائل يوجّهها الشاعر لأصدقاءَ فلسطينيين، ومن بينهم أصدقاء له في غزة، وهم الذين يُهدي بعضَهم كتابَه. في رسالة إلى الشاعر ماهر المقوسي، يقول له الشاعر إنه يكاد يصرخ من الفرح كلما قرأ شيئًا على صفحته، فذلك يعني أنه ما زال على قيد الحياة. يحاول تخيّل حياة صديقه خلال الحرب، حيث في الغرفة التي تناولا فيها العشاء معًا، قبل أن يرحل الشاعر إلى منفاه، يحتضن ماهرُ ابنه، علّه يحميه من "قذيفة لا تُخطئ الأجساد البريئة". يعبّر الشاعر عن اندهاشه من الجملة التي قالها له ابن صديقه في المكالمة الأخيرة "دِير بالَك على حالك"، فيشعر بالعجز أكثر، فكيف لمن هو تحت النار أن يفكر بحياة الآخرين "حياتنا التي تجري إلى مستقرّ آخر، أشبه بزورق من الورق، رماه ابنك الأصغر المشاكس أَيْهم، في بحر غزة المحاصرة بِراجماتِ الموت".
وفي رسالة يوجهها إلى الشاعر الراحل أحمد يعقوب، يستحضر عبد الله عيسى مرحلة الثورة الفلسطينية في بيروت، حينما كانا هناك معًا، يقول له إنه لا يزال يفكّر، كما كان يعتقد كلاهما في بيروت، أن الكتابة تحت القصف ليست ترفًا، وأن القصيدة تصبح "مُعادِلًا نوعيًا" للوجود في أتونِ الحرب. ومع ذلك، فإن أعتى القصائد، وحتى الحماسية منها، لم تستطع تثوير الناس ليخرجوا في مظاهرة، ولم توقظ الضمير العربي والإسلامي، بينما العدوّ مستريح في البيت القديم في الأرض المحتلة. ومن الرسائل ما يوجهه إلى الشاعر شجاع الصفدي، الذي يراه موغلًا في مأساة فلسطين، يسرد تفاصليها ليذكر "أن الرواية ليست من صنع أبطالٍ تراجيديّين".
كتابُ "سماء غزّة تلال جنين" هو سيرةٌ أدبية لأصحاب الأرض، يرويها عبد الله عيسى لغةً تتدفّق من نهر ذاكرةٍ، تواصل بتحدٍّ وعنادٍ رسمَ صورها شعرًا ونثرًا، وتصل تاريخها المأساويّ بواقعها الذي لا يزال موغلًا في المعاناة، وتلمّ شملَ شتاتِ أمكنةِ الوطن الموزّع بين غزّة الثكلى، وجنين الجريحة، والقدس الأسيرة، والمنفى البارد، والغريب. وإذ بدت صور واقع الحرب، في بعض القصائد، مُصاغةً بأسلوبٍ يقترب من الواقعية، إلا أن التجربة بشموليتها تمتاز بثراء دلاليّ، ورمزيّ جماليّ، وبغنىً ثقافيّ ومعرفيّ، بل ومنح توظيفُ صورٍ من الحياتيّ واليوميّ المُعاش القصائدَ والنصوصَ أصالتها وواقعيتها.
أخيرًا، نَشَر عبد الله عيسى كتابه "سماء غزّة تلال جنين" بالتزامن مع العدوان على غزة، مُضمِّنًا فيه قصائد ونصوصًا كُتبت خلال العدوان الحاليّ، وأخرى كُتبت في حروب سابقة، ليُقرأ فعل النشر هذا على أنه شكل من أشكال المقاومة الثقافية، التي تضع الشاعر والمثقف والمبدع الفلسطيني في مكانه المفترض والصحيح في أتون الحرب، على جبهة المواجهة، مقاوَمةً للمسار الاستعماريّ في إبادة الوجود ومحو السيرة والهوية والذاكرة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.