}
عروض

"كتاب الأمهات": حنين إلى الأم في وحشة الليل

صدام الزيدي

1 مارس 2024


يستهل الشاعر العراقي حمدان طاهر كتابه الشعري "كتاب الأمهات" الصادر حديثا عن دار الشئون الثقافية العراقية باقتباسات تتحدث عن الأم لكل من أبي العلاء المعري: "مضت وقد اكتهلتُ فخلتُ أني رضيع ما بلغت مدى الفطامِ"، ومواطنه الشاعر العراقي حسب الشيخ جعفر، الذي قال: "دعني أحسك يا إلهي/ كحليب أمّي في شفاهي"، والشاعرة الأميركية الحاصلة على جائزة نوبل، لويز غليك، التي تقول: "أقول للأرض/ ارأفي بأمي،/ الآن وفيما بعد./ حافظي ببرودك/ على جمال كنا جميعا نحسدها عليه".
يحتوي الكتاب الواقع في نحو 100 صفحة، على 51 نصا، يخصصها الشاعر لأمه (وللأمهات عمومًا)، التي رحلت عن الحياة مؤخرًا تاركة مسحة حزن واسعة على الابن الذي لا يجد سوى الكلمات ليترجم أحزان الفراق المشتعلة في داخله، مما انعكس في كتابة شعرية يستهلها بنص عنوانه: "بيت أمي"، وتستمر النصوص بأسلوب شعري يقوم على الإيجاز والتكثيف وبلغة رقيقة تتأمل الوحشة الموغلة في الروح وفي الأشياء والزوايا بعد هذا الرحيل المؤلم.
في ليل بالغ الوحشة، تتضاعف مشاعر الفقد ما يدفع بالشاعر للخروج ليلًا للتأمل ومحاولة استقراء ما بالأفق من حيوات يعبر عنها الضوء المندلع الآتي من بعيد حاملًا بين ثناياه أطيافًا وأشكالًا ووجوهًا فثمة قمر هنا وأنجم هناك، ومن بين النجوم نجمة هي أم الشاعر، أو هكذا يتخيلها ويلوح لها: (وما بي من تعب/ لكنني ضجر/ من وقوفي وحيدًا/ أرقب نجمة تشبهك).
تنتهي رحلة التأمل في وحشة ليل طويل يغالب فيه الشاعر مشاعره واشتياقاته وذكرياته عن أمه التي هي أهم من كل أحد، في حضورها وفي غيابها، على السواء، فلا الأصدقاء يستحقون ما تستحقه هي من الحب والاستذكار، بما في ذلك رفاق الكتابة من قاصين وشعراء، فالقاص قد يدسّك في قصة لا يمكنك الخروج منها، إن أنت حدثته عن بعض تفاصيل حياتك، والشاعر أيضًا لا ينبغي معاداته، وإن فعلت، فسيلصق بك ذيل ثعلب لأنه بارع في استخدام الكلمات وتشكيلها، لكن ثمة أيضًا النساء، فإن بالغت في مدح امرأة، استحالت أداةً لإلحاق الأذى بك، وفي هذا الخضمّ من الفقد الذي تكون أنت أحيانًا سببًا في حدوثه، تجد نفسك عرضة للأذى من الآخرين، ووحدها أمك فقط هي من يستحق أن تمدحه وأن تكتب له القصائد والتأملات: (إن رافقت قاصًا لا تحدثه عن حياتك)، و(لا تعادِ شاعرًا)، و(لا تمدح امرأةً)... وكل هذه تحذيرات يخلص إليها الشاعر وقد صار لليل الكثير من النور ممعنًا في دروس الحياة واشتياقات الروح والقلب لأغلى الأمهات، حيث ينتهي نص "آخر الوصايا" بالقول: (لا أحد يستحق ذلك غير أمك).




وفي رحلة البرزخ الغامض الذي لا نعرف شيئًا عنه، حيث صارت أم الشاعر واحدة من مرتاديه وضيفة من ضيوفه الطيبين رفقة أمهات كثر كنّ قد سبقنها بالالتحاق بعالم الموت الغامض والبعيد، كيف يمكن لمشاعر الحنين أن تخترق جدران هذا العالم البرزخي لتطمئن إلى حال الأحبة هنالك لولا أن ينبثق طير من بين الكلمات في مغامرة خيالية ترفرف أجنحته في سماء الأرض الغريبة كي يؤنس وحشة الأم التي: (يقولون إنها تغيّرت كثيرًا/ فلم تعد تستيقظ لتطعم الطير/ ولا مزاج لها لتناول الدواء)، ومن هنا يستدعي الشاعر طيور خياله المتيقظة ذاهبًا إلى أرض غريبة، مُحدثًا انتقالة في النص من الحنين والاشتياق وتتبع أخبار من رحلوا، إلى ابتكار حياة بالقرب منهم، حيث طير الحب (الابن المكلوم تحت طائلة رحيل أمه عن الحياة) قد صار وحيدًا تتناهبه الأسئلة وأشباح الصور في مطالع النجوم والسماء الواسعة التي تشرق منها روح أمه المشعة الغائبة ـ الحاضرة، يستعيرها الشاعر كي يرمم فجوة أحزانه، لكن ذلك يشبه الأحلام، ولا بد من إطعام طير الموت في تلك الحقول البعيدة الخضراء: (كانت تعيش معي/ لكنني الآن أعيش معها/ أطعم الطير/ وأزيحُ بيدٍ مُتعبةٍ أيامي الثقيلة/ أشربُ خفقة أجنحة الطيور/ وأنام على وسادة صوتها البعيد).
وتسهم النصوص منذ عناوينها في إضاءة كتابة شعرية مغايرة كلما أوغلنا في قراءتها وجدنا أنفسنا في رحلة حنين دائمة إلى أمهاتنا، فأم الشاعر التي حضرت في جميع نصوص الكتاب هي كل الأمهات في رحيلهنّ وفي حضورهنّ بين ثنايا القصائد والكلمات. والأم هي الوطن أيضًا وهي القصيدة وهي الباب الذي يفضي بنا إلى مشارف الله.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.