}
عروض

"لست حيوانًا": الفدائي داخل الفلسطيني

بسّام سفر

17 مارس 2024

نادرًا ما نجد كاتبًا فلسطينيًا ليس في داخله فدائي خرج من خيمته، أو مخيمه، ممتشقًا سلاحه نحو فلسطين المحتلة، ليعيد حكاية البطولة الفلسطينية منذ بدايات القرن العشرين في مقاومة المستوطنات الصهيونية الأولى. تعزز هذا الاتجاه في الرواية الفلسطينية بعد هزيمة حزيران/ يونيو 1967، في الصراع العربي الصهيوني، والصراع الفلسطيني الصهيوني، وهذا ما نجده في ما كتبه الشاعر والروائي والمسرحي والمخرج السينمائي الفلسطيني وليد عبد الرحيم، هو الذي شهد تلك المرحلة الفدائية في بدايات شبابه في ثمانينيات القرن الفائت أثناء الاجتياح الصهيوني للعاصمة العربية بيروت في صيف 1982، وظهر الفدائي في ما كتبه في مسرحية "رسائل سريعة"، التي عرضت على مسرح معرض دمشق الدولي في خريف عام 2005، إذ يقول: "سجل يا قرن العشرين، عا للي جرى بفلسطين بعام الستة والثلاثين، انطلقت فيها الثورة، واجتمعت كل الأحرار، بأرض جبالك فلسطين".
هذا ما نجده في روايته "لست حيوانًا"، الصادرة عن الاتحاد العام للكتاب والأدباء الفلسطينيين- الأمانة العامة، بدعم من وزارة الثقافة الفلسطينية بمناسبة اختيار بيت لحم عاصمة الثقافة العربية، في طبعتها الأولى في عام 2021، والطبعة الثانية في دمشق في عام 2023.
الفدائي في روايته يتجلى في مسارين: الأول يسرده (ماجد خليل الحلو) بطل الرواية من ذاكرة طفولته في مخيم اليرموك جنوب العاصمة السورية، إذ يعود خاله أحمد إلى اليرموك "شهيدًا فدائيًا شقيًا أزعر"، وهو "الذي كان يغيب مع الثوار لفترات طويلة، ويعود كطائر فينيقي سالمًا في كل مرة، لكن هذه المرة لا، لم يعد وهو لن يعود أبدًا".
والمسار الثاني يشغل ماجد فيه حيزًا كبيرًا من خلال وجوده في أحد مواقع العمل الفدائي في بيروت الغربية مع عدد من الفدائيين الفلسطينيين والعرب، ويذكر عددهم كانوا قرابة خمسة عشر مقاتلًا، أكبرهم أحمد الكويتي الذي "يقاتل بضراوة ندر مثيلها، ويمتلك اندفاعًا ثوريًا جارفًا على الرغم من قلة تدريبه مقارنة بمن هم في مثل سنه".
إلا أن ماجد يقع في يد القوى اليمينية من خلال الاعتقال الذي يدفع ضريبته الموت في تحقيق عنصري يعتمد على تميز واضطهاد للإنسان الفلسطيني، لكن والدته تعيده إلى الحياة، فيتسلل عبر خطوط التماس عائدًا إلى موقعه في بيروت مدافعًا عنه مع صديقه أحمد الكويتي، لكن المفاجأة التي يجدها بعد الخروج من الحصار أنه في عداد شهداء مخيم اليرموك، حيث صوره تملأ جدران شوارع المخيم.
وتعود به الذاكرة إلى شقاوته الطفولية عند دورانه مع الثياب في غسالة الحوض التي كانت تستخدمها والدته في بيتهم في المخيم عندما انتشله منها والده، بينما يترك الأم وكأنها مصابة بشلل، وتولول برعب، ويأخذه في سيارته الشيفروليه القديمة عابرًا امتداد شارع اليرموك في شارع فلسطين نحو جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني، ليدخل إلى غرفة الطبيب الذي يسأله عن الأمر، فيرد: "تكهرب الصبي، فقد وقع في داخل الغسالة وهي تدور".
يضحك الطبيب مخاطبًا الأب بعد أن فحصه: "ما في شي أبدًا، قرد الله يسلمو، يحمله الأب خارج المستوصف".
ويقص حكاية المطهر الصفوري الذي جاء من الحد الفاصل بين شارعي اليرموك وفلسطين، قبالة سينما النجوم حاملًا حقيبته الجلدية التي تصلح للرحيل، لا للطبابة، أو الختان، إلى البيت، وأعد عدته المشحوذة جيدًا للهجوم على الطفل ماجد، وغيرة الشيخ من المطهر في ذاك اليوم، الذي بدأ يقرأ آيات من القرآن الكريم، وختم قرأته بالقول: "الختان مبارك وهو مما يميز الإنسان عن الحيوان"، وما فرغ الصفوري من عمله حتى رد على الشيخ قائلًا: "لا سيد، ليس هذا ما يميز الإنسان عن الحيوان، بل هذا، وبسبابته أشار إلى عقله!".
ويصف مقبرة اليرموك للشهداء في حارة المغاربة، حيث انتصبت في مدخلها خريطة فلسطين الجغرافية ـ تلك التي تشبه الخنجر ـ مبنية بالرخام الفاخر، ومجللة بالخضرة من كل جانب.
وعلى مدخل مخيم اليرموك، بعد حصار بيروت، يجد ماجد عددًا هائلًا من المستقبلين للفدائيين العائدين، النساء يزغردن، الأطفال يتقافزون حاملين الأعلام الصغيرة ذات الألوان المتوحشة، والرجال يبحثون عمن يعرفون من المقاتلين الذين تعج بهم عشرات السيارات، ومن بينهم بعض القادة الهاربين من الجنوب منتصرين.




وعند مدخل حارته، يقفز من السيارة ويدخلها، والذهول في نظرات جيرانه، ومنهم محمد العبد، الذي التصق بالحائط الذي عليه ملصق كبير مزدان بالأعلام تزينه صورة ماجد خليل الحلو، مع عبارة الشهيد البطل، ويقع الأب من المفاجأة أرضًا، والأم تركض نحوه بسرعة صاروخية حافية القدمين متسخة الثياب، تسقط أرضًا متعثرة، فيحملها ماجد، تستجمع قواها وتقبله، ويتمالك الأب نفسه ويعانقه فرحًا بعودته.
يبقى مخيم اليرموك في رواية "لست حيوانًا" للروائي عبد الرحيم منبع الفدائيين الدائم، ومستقر الشهداء، ومولد لحظات الفرح في حياة كل فلسطيني عاش فيه، حيث ينهض المخيم وطنًا في تكثيف ملغوم للزمكان، مشدودًا بوتر الحنين والتنهيدات الحزينة والأهوال الزاحفة، رغم ما حدث به من خراب وهدم في عام 2018، وهو الذي فقد بيته، ولم يجد فيه أية قطعة أثاث.

حب ملحمي
المسار الثاني للسرد في الرواية يتوضح من خلال علاقة الحب التي نشأت بين منال موفق باكير المولودة في مخيم صبرا في بيروت عام 1964، وماجد الحلو الذي تعرف عليها، وانطلقا معًا كسهمين جارفين إلى السماء في رحلة من بيروت إلى فوق عمارات نيويورك إلى فضاءات كوبا والبرازيل، بينما أحمد الكويتي يعلن للفدائيين في الموقع أن ماجد ذاب في خضم الفراغ، وهو كان يمسك بمعصم منال، ويصارع الريح في زيارة الصين، وماليزيا، سابحين بقوة غير مرئية، وعندما يصلان سماء فلسطين يظهر لهما الكائن القمري الذي يحولهما إلى كائنين لا أرضيين، فالحيوانات والقطط والفئران في ميناء حيفا تعرفت عليهما، لأن بينهما جذورًا عائلية تمتد لتسعة آلاف عام مضت، ليرحب بهما القط الجد، ويأخذهما إلى منطقة قريبة من الشاطئ.
ويعود الروائي عبد الرحيم إلى إصابة ماجد الحلو في بيروت، ودخوله مشفى غزة في مخيم صبرا، ووجود منال، وأحمد الكويتي، إلى جانبه، منال التي طلبت منه عدم التدخين، وخاطبته بعد خروج الكويتي من غرفته "لا تهتم... عمري أنت... مهما حدث أنا معك حتى الموت، ثم طبعت قبلة على جبينه"، وكانت تلك أول قبلة من منال.
أما في البيت الكنعاني في حيفا فيفتح القط الجد الصندوق المزخرف البهيج بحركة انسيابية هادئة ورشيقة ومنتظمة السرعة، ويلتفت إلينا وبنغمة محببة قال: "سترحلان الآن في هذا الصندوق، لن نراكما بعد اليوم حتى انتهاء فترة الحياة الدنيا بالنسبة لكما، إنها بالنسبة لنا غدًا، وبتقديراتكم هي سنوات طوال، ويطلقهما في سماء حيفا من جديد إلى جانب نوارس حيفا، ومنال تعلقت بأرجل نورس".
ليعود إلى عمل منال في مشفى غزة ومساعدتها في إسعاف الناس نتيجة القصف الصهيوني مع احتلال بيروت والسيطرة الصهيونية وخروج المقاومة حدثت مجازر صبرا وشاتيلا، وهي في المخيم والمشفى قرب عائلتها التي استشهدت في هذه المجازر، بينما ماجد في مخيم اليرموك، يسمع صوت جورج قرداحي وهو يصدح بالبكاء والإدانة، ويتحرك ماجد إلى بيروت ليجد جسد منال في كيس أسود مرقم بـ 2012.

السرد
يوظف الروائي الراحل وليد عبد الرحيم السرد متنقلًا ما بين الشخصيات الساردة، وأبرزها في مرحلة الغرائبية والعجائبية ماجد والجد القط، التي تتعاطى مع قيمة الحياة السردية من زاوية حب فلسطين والعودة إليها من خلال استخدام التحول من حالة الإنسان إلى حالة الأسطرة الحيوانية للدخول إلى فلسطين المحتلة من قبل الاحتلال الصهيوني، فالاستخدام الغرائبي المنظم في رحلة زيارة عالمية تستقر في نهايتها من حيفا إلى مخيمات الشتات في لبنان (صبرا وشاتيلا) والمجزرة (الشارونية بذراع قواتي لبناني) جعلت السرد يعود إلى ماجد الحلو.
سرديات فضاء رواية "لست حيوانًا" تبدأ من الخيال الثلاثي للمكان الواصل بين مخيم اليرموك في سورية، إلى بيروت والجبل في لبنان، وإلى ميناء حيفا في فلسطين، وفضاءات السماوات التي جعلت من العالم مكانًا سرديًّا واحدًا قابلًا للحياة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.