}
عروض

"أنا أتهم": العدالة المفقودة من "درايفوس" لحرب الإبادة بغزة

يوسف الشايب

18 مارس 2024

في الحادي والعشرين من مايو/ أيار 2010، هاجمت قوّات الاحتلال الإسرائيلية قافلة سفن إنسانية متوجهة إلى غزة. وفي نهاية الهجوم، كان تسعة من ركّاب أكبر سفن القافلة "مافي مرمرة"، قتلوا، فيما تُوفي راكب عاشر لاحقًا متأثرًا بجراحه، إضافة إلى إصابات العشرات بجروح مختلفة، وتعرّض مئات آخرين إلى التعذيب ومعاملة لا إنسانية.
يضم كتاب "أنا أتهم: كيف أجحف الادعاء العام في المحكمة الجنائية الدوليّة بحق غزة"، لمؤلفه نورمان ج. فنكلستين، الصادر حديثًا عن دار فضاءات للنشر والتوزيع في العاصمة الأردنية عمّان، من ترجمة أيمن حدّاد، إدانة قائمة على بحث دقيق لباحث يشتهر بمهاراته البحثية ومعارفه الواسعة، موجهة إلى فاتو بنسودا، رئيسة الادعاء العام في المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، وقتذاك، موضحًا كيف دنّست المدعية العامة منصبها، عبر رفضها إجراء تحقيق بشأن ما هو موثق بخصوص الإجرام الإسرائيلي.
وفي التفاصيل، يشير فنكلستين إلى أن لجنة تحقيق إسرائيلية برّأت مرتكبي الجريمة التي أثارت شجبًا عالميًّا من "أي خطأ"، وفي 14 مايو/ أيار 2013، أحالت دولة اتحاد جزر القمر القضية إلى محكمة الجنايات الدولية، إذ تحمل السفينة الرئيسية في قافلة السفن علم هذه الدولة.
وأصدرت المدعية العامة قرارًا وصفه المؤلف بالصادم، باعتبار أن "الحادثة ليست على درجة من الخطورة الكافية، بحيث تستدعي حتى إجراء تحقيق رسمي بشأنها"!
ولفت فنكلستين إلى أن بنسودا توصّلت إلى هذه النتيجة، حصريًا، من خلال تشويه وقائع الهجوم بشكل واضح، إضافة إلى انتزاع الهجوم من سياقه المحوري، أي الحصار الإسرائيلي غير القانوني والكارثة الإنسانية في قطاع غزة.
وبينما أعلنت المدعية العامة عن إغلاق القضية ثلاث مرّات، إلا إن مقاومة غير مسبوقة برزت داخل المحكمة الجنائية الدولية، ما أجبر المدعية العامة على إعادة النظر في قرارها، حيث يمكن العثور في السجل الهائل للمحكمة على برهان قاطع على أن العدالة مُنعت من أن تأخذ مجراها.




ويوثق الجزء الأساسي من هذا الكتاب ما تضمّنته المواد التي قدّمتها المدعية العامة للمحكمة من أخطاء "فادحة" بخصوص الحقائق، ومماحكات ذهنية، وخروقات قانونية، ما دفع رافضي قراراتها إلى القول بأن الضغط الأخلاقي قد لا يكون كافيًا لدفع بنسودا إلى إجراء تحقيق.
وفي الأول من يناير/ كانون الثاني 2015، أحالت دولة فلسطين وضعًا منفصلًا إلى المدعية العامة، وكان تركيز هذه الشكوى حول المشروع الاستيطاني الإسرائيلي في الضفة الغربية المحتلة، باعتباره يمثل عملية شرسة لسلب الأراضي تتواصل منذ احتلال عام 1967، وعملية "الجرف الصامد"، وهو تسمية العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة عام 2014، خاصة أن ثمّة دلائل عدّة على أن إسرائيل ما انفكت تسعى لإخماد التحقيقات خشية من تبعاتها.
وكشف الكتاب عن الموقف "الفاسد جدًا" للمدعي العام السابق للمحكمة الجنائية الدولية، لويس مورينو أوكامبو، والذي زعم أن الوضع القانوني للمستوطنات الإسرائيلية، "مسألة جديدة تمامًا، ومفتوحة للنقاش"، وبأن عملية "الجرف الصامد" عملية "معقدة جدًا" قانونيًّا، في حين أن القضاة الخمسة عشر، الذين يبتّون في القضايا أعلنوا بالإجماع، ومنذ قرابة العقدين، بأن المستوطنات الإسرائيلية غير قانونية، كما أكد مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في وقت لاحق بأن إنشاء إسرائيل للمستوطنات "ليس له أي شرعية قانونية، ويشكل انتهاكًا صارخًا بموجب القانون الدولي".

جثة الطفل الفلسطيني سند أبو شعر (عمره شهران) بين يدي والده. قُتل سند في هجوم إسرائيلي على دير البلح في غزة (17/ 3/ 2024/ الأناضول)


وأشار فنكلستين، في الكتاب الذي أصدره بالإنكليزية عام 2020، إلى أن المدعية العامة، وللتملص من التزاماتها القانونية، أثارت مبدأ "التكاملية"، ويعني أن الولاية القضائية للمحكمة الجنائية الدولية، تبدأ في حالة فشل المحاكم الوطنية في إجراء تحقيقات فعلية، بحيث أعلنت أنه "فيما يتعلق بالجرائم التي يُزعم أنها ارتكبت من قبل أفراد من قوّات الدفاع الإسرائيلية أثناء عملية الجرف الصامد، تشير المعلومات المتوفرة إلى أن جميع الأحداث ذات الصلة تخضع حاليًا، أو خضعت سابقًا، لشكل من أنشطة التحقيق على المستوى الوطني، ضمن النظام العدلي للجيش الإسرائيلي".
ووصف ما تشير إليه المدعية العامة بأنه "شكل من أنشطة التحقيق" لا يعدو كونه تلفيقات "صفيقة" و"مخزية"، وذلك "لتبييض صفحة إسرائيل"، وهو ما يتضح في ملحق الكتاب الذي يوثق توثيقًا شاملًا لما تشكله هذه التحقيقات "المزعومة" من "افتراء واضح".
ويخلص كتاب "أنا أتهم" إلى أنه "إذا أردنا للعدالة أن تنتصر يتعيّن على المدعية العامة في المحكمة الجنائية الدولية إمّا أن تحقق في الجرائم الإسرائيلية وفق الدعاوى المرفوعة، أو أن تستقيل من منصبها"، وهو ما كان، بحيث انتهت فترة عمل فاتو بنسودا في المحكمة، في يونيو/ حزيران 2021.
وذهب المترجم إلى أن الاتهامات والإدانات التي وجهها فنكلستين في كتابه هذا لا تقتصر على بنسودا، بل تطاول المحكمة الجنائية الدولية بمجملها.
ولعل أهمية إصدار هذا الكتاب حديثًا تكمن في تعاطي محكمة العدل الدولية، هذه الأيام، مع الدعوى الجنوب أفريقية ضد حرب الإبادة الجماعية التي تمارسها إسرائيل على قطاع غزة، منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، حيث لم يصدر من المحكمة قرار يلزم سلطات الاحتلال وقوّاتها بوقف إطلاق النار، بشكلٍ فوري أو غير فوري، رغم الترحيب حتى الفلسطيني بالقرار الذي وجده بعضهم يفضي إلى المنشود في وقف الحرب، في حين انتقد آخرون القرار باعتباره دون مستوى الطموحات، ولا يرقى إلى حجم تضحيات سكان قطاع غزة.





وعبارة "أنا أتهم"، هي عنوان رسالة مفتوحة نشرها الروائي الفرنسي الشهير إميل زولا (1840 ـ 1902) في صحيفة فرنسية عام 1898 بخصوص "قضية درايفوس" الشهيرة التي شغلت الرأي العام الفرنسي، في نهاية القرن التاسع عشر، وهو ضابط من أصل يهودي عمل في الجيش الفرنسي برتبة نقيب، كانت السلطات الفرنسية قد أدانته بتهمة الخيانة في عام 1894، بعد أن اتهمته بتسريب أسرار عسكرية إلى السفارة الألمانية في باريس. وفي عام 1896، ظهرت أدلة تشير إلى أن من قام فعلًا بتسريب المعلومات هو ضابط فرنسي آخر، إلا أن السلطات العسكرية الفرنسية أخفت الأدلة، وبرّأت الضابط المعني، كما وجه الجيش لاحقًا اتهامات أخرى ضد "درايفوس"، استنادًا إلى وثائق مزورة... وفي عام 1906 صدر حكم ببراءة "درايفوس"، وأعيد إلى صفوف الجيش الفرنسي.
اتهم زولا في رسالته السلطات الفرنسية باللاسامية، وسجْن "درايفوس" ظلمًا، وأشار إلى الأخطاء القضائية التي اعترت المحاكمة ونقص الأدلة المادية، وبعد ذلك حوكم زولا، ودانته المحكمة بتهمة التشهير، وحكمت عليه بالسجن، ما دفعه إلى الفرار لبريطانيا.
وأدّت رسالة زولا إلى تشكيل اتجاه في الرأي العام يدعم "درايفوس"، ما وضع ضغوطًا على الحكومة الفرنسية لإعادة فتح القضية، وقد ظهرت براءة "درايفوس" في نهاية المطاف.
ونظرًا للانتشار الواسع لرسالة زولا، أصبحت عبارة "أنا أتهم" رائجة للتعبير عن السخط إزاء ظلم السلطات والممارسات اللاساميّة، وما زالت هذه العبارة مستخدمة إلى يومنا هذا.
وفي كتاب "أنا أتهم"، استخدم المؤلف العبارة ذاتها، لكنها هذه المرّة بغية اتهام مسؤولين في المحكمة الجنائية الدولية بإجهاض العدالة وارتكاب الظلم ضد الفلسطينيين، ولتمكين إسرائيل من الإفلات من العقاب على الجرائم التي ارتكبتها بحق غزة وشعبها.
ونورمان ج. فنكلستين هو أستاذ جامعي أميركي يهودي مختص في العلوم السياسية، من مواليد عام 1953، وهو أيضًا كاتب وناشط سياسي معروف عنه مساندته للقضية الفلسطينية، وكُره استخدام اليهود للمحرقة كوسيلة لجذب التعاطف العالمي والتغطية على جرائم إسرائيل ضد الفلسطينيين.
والقضية الفلسطينية هي أبرز مجال أبحاث فنكلستين الرئيس، علاوة على السياسات الحالية المتعلقة بالمحرقة النازية لليهود في الحرب العالمية الثانية، وكانت التجربة التي خاضها والداه، إذ كانا من بين الناجين من المحرقة، دافعه إلى تلك الدراسات.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.