}
عروض

الجسد المُعاق مُربِكًا للنّص الحداثيّ

فدوى العبود

2 مارس 2024

تكتب دونا هاراوي في مانيفستو سيبورغ: "أجسادنا هي ذواتنا، وهي خرائط السلطـــة والهويــــّة". يعكس ذلك أهميّة الجسد الإنساني الذي صودِر لصالح الميتافيزيقا والعقل والسلطة كما تنحاز الجماليّة التقليدية ـ عبر نفي القبح ـ إلى مفهوم الكمال الجسديّ ضدّ الجسد المــُعاق بنسيان الأخير وتهميشه؛ ولم تنجُ المقاربة الروائيـــّة التي ظلت حتى وقت قريب أسيرةً للخطاب السلطويّ من هذا التحيّز.
وفي هذا السياق، يحاول كتاب "العاهة في الرواية العربية" لمؤلفه د. قيس عمر (منشورات اتحاد الأدباء، بغداد، 2022)؛ أن يتحرى تمثلاّت الجسد المعاق في الخطاب الروائيّ، والذي بقي أسيرًا لفكرة الكمال، فلم يخرج في تصويره عن (الجسد الأيروسيّ وثنائية المقدّس والمدنّس)؛ وما يضاعف المأزق هو الميديــا وجوهرها الماثل في الصورة، فمراكز التجميل والصحة البدنيّة تسوّق للكمال الجسدي، ويسقط من حساب الوجود الجسد النقيض ويُهّمش انطلاقًا من السائد.
وهنا سيأتي السؤال عن هذا الجسد المستبعَد وعبر تتبُّع السلاسل الدلاليـــّة والثقافية لرصد تاريخ نشوء المصطلح وأشكاله حدّ اعتباره كالشذوذ، والذي يعني الخروج عن المألوف، حتى اعتبرت الإعاقة فاصلة نفسيّة واجتماعيّة تعوق تواصل الفرد وتحجب فاعليته وتحبسهُ في مظهره. كما أصبحت مفردات الوصم والعار والعيب نتاج ثقافة محدّدة، ولا تعبر عن حقيقة الوجود، بل إنها تحمل دلالةً قاسية تشير إلى الازدراء الذي يقع على الفرد من قبل آخرين.
وفي محاولة للبحث عن أسس هذه النظرة، يتفحص المؤلف النصّ الديني والفلسفي والأسطوري، ويخلُص إلى أن الخطاب الديني لا ينطوي على أي تمييز، فالسويّ وغير السوي فيه "يحددهما التفاضل في القلب وصلاحه"، كما يبدو في آيات صريحة تحتفي بنقاء الباطن وتنهى عن المظاهر وتشجب السخرية من الهيئة الجسدية. وإذا حمل في مرحلة لاحقة أي إجحاف، أو مفاضلة، فقد حدث ذلك لحظة تطويع الدين لمآرب سياسية، وعلى طول الخط تبدو فلسفة الفارابي، وابن رشد، انعكاسًا وأساسًا ليوتوبيا السلطة بتحديدها خصال الرئيس في كماله الجسدي؛ وعلى النقيض تبني الفلسفة التفاضليّة لصالح العقل انطلاقًا من مقولة طاليس الملطيّ: العقل السليم في الجسم السليم؛ ما يجعل أي تشّوه في الجسم نقصًا في مشروعيته الوجودية لصالح فكرة الكمال.
وبهذا يكشف حضور الجسد المعاق في النسق الحضاري (الأسطوري، الفلسفي) عن معاملة غير إنسانيّة؛ ويتجه المؤلف لتحرّي تمثلاته في النص الروائي، وعما إذا استطاع الأدب تجاوز السائد، أم أنه نكص بوعيٍّ، أو من دونه؟
يتطرق الكتاب، وعلى مدار فصلين وخاتمة، إلى صورة المعاق في المتخيّل الروائيّ، حيث المغايرة، أو الاختلاف الجسدي، يرضّ الهوية الذاتيّة للإنسان الذي يعاني من النظرة التي تقيده بالعاهة، وتحاول بعض النصوص تجاوز العاهة الجسدية لما يفوقها، وقد تمثل هذا في نماذج متعددة: "الريح الشتوية" لــ مبارك سعيد، "نصف وجهي المحروق" لــ عبد القادر شرابة، "الآخرون" لـــــ حسونة المصباحي، "تلك العتمة الباهرة" لــــ الطاهر بن جلون. وفي هذه الأعمال طموح لإعادة الاعتبار والسعي للمصالحة مع هذه الوضعية الوجودية، عبر تمثل الموروث الذي يضفي على صاحبها سمات فوق إنسانية، تتعلق بالديني والمقدس، أو التوتر الجمالي؛ كتقديم الجسد المعاق بطريقة عرفانيّة ترى فيه مجرد حجاب؛ لذلك ينحو السرد إلى اللامرئيّ وما لا يرى بالعين ويلمس روحيًّا؛ فتمتزج جماليات اللغة العرفانيّة مع الجسد المنبوذ بفعل عاهته وتُبرِز هذه النصوص جماليّات الداخل التي تضفي على العاهة الخارجية مسحةً فوق بشريّة.




وعلى النقيض، قد تستخدم الرواية العنف اللغوي والمهانة اللفظيّة كـ"أريانة" لـ الميلودي شغموم، و"سرير الأسرار" لـ البشير الدامون، من أجل وصف الملامح الجسديــّة للشخصية (أعرج، معوق، أبكم، أعور). حيث تعكس هذه السمات العنف اللغويّ الذي يمارس على جسد الغير، باعتباره مختلفًا، أو ناقصًا، وبعيدًا عن فكرة الكمال؛ وفي بعض الأحوال قد تمارس الذات التي تعاني الإعاقة هذا العنف تجاه ذاتها.
كما يحضر الجسد في المتخيل الروائي العربي عبر الجانب الحميمي والخصوصيّ، كقضايا الختان، أو سرطان الثدي، والعذرية، التي وحين تُزال بطريقة غير متعارف عليها تصم صاحبتها بالعاهة.
هذا، وتتأرجح النماذج الروائيّة بين ثنائية المقدّس والمدنس؛ وقد تتقمّص من دون وعي النظرة التقليدية التي يشكلها الهابيتوس الاجتماعي والأخلاقيّ، بقوته التي تطبعنا بشكل عفوي وتلقائي ولا شعوريّ؛ حيث نتشرّب في عمقنا الوجداني مكونات بيئتنا فيصبح السائد نسقًا يصعب علينا تجاوزه، أو الخروج عليه؛ حتى القيم الجماليّة هي حصيلة هابيتوسات مجتمعّية، كمقبوليّة اللون الأبيض ونبذ الأسود، وبهذا يفترض بالرواية أن تخلخل العلاقة المتعارف عليها، وأن تغوص في المسكوت عنه لتفكك هذه القيم التي صنعها المجتمع؛ ولعل أهمها خديعة النوع التي ترى في المرأة كائنًا أقل حدّ أنها قد تتماهى مع صورتها المنقوصة التي رسمت لها بوضوح في الفكر الأسطوري وفي قصة الخلق التي شابها كثير من الجدل باعتبارها اختراعًا ذكوريًّا. بحيث تبقي التمييز قائمًا من خلال جدليّة الخير والشر، الطاهر والمدنس التي تتحول لثنائية الذكوريّ والأنثويّ وغيرها من النظريات المشبعة بالحمولات الأبويّة.
ويرى المؤلف أن بعض الروايات كرّست الصورة الدونيّة تجاه المرأة، ويدلل على ذلك عبر تفكيك العنف اللغوي، أو الرمزي، في هذه الأعمال، ومقابل هذه الأعمال ثمة نصوص تحاول أن تكشف الأنساق الفوقيّة الذكورية من دون أن تقع في فخ السياق الثقافي.
وما يلفت النظر في هذا الخصوص أن حرمان فاعليةٍ إنسانية من التحقّق لا يمنع تفجّرها؛ حيث يجعل الجسد المخان من حرمانه تحققًا، ومن عدم الوجود وجودًا مضاعفًا، وهذا الغياب للفاعلية الجسدية سيقابله "تفجرٌ من الداخل".
وبذا فإن السؤال الذي يطرحه النص في هذا الخصوص موجّه لقدرة الرواية على اختراق الصورة التقليدية للإعاقة، وتجاوز الذهنية السائدة التي ترى فيه خللًا ونقصًا يحرم الإنسان من حضوره. فهل في إمكان الرواية العربية أن تفي بالتزاماتها تجاه المسكوت عنه، أم أنها تمثلت قيمه وتشربتها؟
هذا السؤال سيضع النص الروائي الحداثيّ في مأزق، لكون فكرة الكمال التي يقوم عليها تعني نفي نقيضها. كما أن هذا النص أثبت أنه عرضة للوقوع في الهابيتوس بمختلف تمثلاته (الاجتماعية، والجماليّة، والأخلاقيّة، والمعرفية).
لقد قدمت هذه الدراسة ومن خلال الوصف، المفاتيح الضرورية لتمثلات حضور الإعاقة في النص الروائي العربي ـ ولا سيما المغاربيّ ـ وتحرّت الأسس الثقافية لهذه النظرة؛ تاركةً لقارئها الخلاصات؛ التي تتحول بدورها لأسئلة جديدة عن طبيعة الجسد الذي يبدو كلحظةٍ باشلارية؛ تأتي من خارج السياق المتعارف عليه؛ حيث تحتوي كينونته المرئيّة على نزوعٍ قويّ لتوكيدِ الذات التي تحوِّل عزلها ونفيها لقوةِ تفجُّر داخليّ.
يفتح هذا الكتاب الباب لمساءلة النص الروائي مفاهيميًا وثقافيًا بتفكيك الأنساق الخفية فيه، وعبر تفحص جذور هذا العنف تجاه الجسد المخان؛ هذا الجسد الذي يكشف تحت النقص الظاهر عن قوة تفجرّ داخليّ، بحيث تنطبق عليه العبارة التي كتبها نوفاليس في ليلة ماطرة: "كل ما هو مرئي يقبع فوق خلفيةٍ غير مرئية، وما هو ملموس فوق خلفيةٍ غير ملموسة".

*كاتبة سورية.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.