}
عروض

جبل الزيتون في نص تركي قديم: مشاهدات بصرية سريعة

صقر أبو فخر

23 مارس 2024


كتاب "جبل الزيتون"، أو "زيتون داغي" بالتركية، لا يعكس عنوانه المضمون إلى حد كبير، فهو غير محصور بجبل الزيتون في القدس، بل هو نثرات من ذاكرة المؤلف التركي فالح رفقي أطاي. والكتاب ليس سيرة ذاتية وليس مذكرات وليس تأريخًا، ولا يُصنف في أدب الرحلة، إنما هو تذكرات لوقائع متناثرة عاشها الكاتب بين 1913 و1918، أي في معمعان المرحلة التي سبقت سقوط الدولة العثمانية. وتكمن أهمية الكتاب في مكانة المؤلف؛ فهو كان السكرتير الخاص لجمال باشا، قائد الجيش الرابع العثماني، وكان يوصف بأنه "رجل جمال باشا". وبهذه الصفة يتوقع قارئ الكتاب أن يعثر فيه على كثير من الأسرار والخفايا التي عصفت بالمشرق العربي في ذلك الزمن. ويتضمن الكتاب وصفًا عامًا لأحوال الدولة العثمانية في تلك الحقبة التي تولت قيادتها جماعة "الاتحاد والترقي"، فيقول: "من بين البريطانيين والروس والإيطاليين والعثمانيين كان أقلهم معرفة وفهمًا لشؤون سورية وفلسطين والحجاز هم العثمانيون" (ص 57). ويرى، نقلًا عن القائد نجيب بك، أنه "لو لم يكن هذا الرجل [أي أنور باشا] وزيرًا للحربية، ونائبًا للقائد العام، ومساعدًا لحضرة السلطان، لكان مكانه الوحيد مستشفى المجانين" (ص 37). ويضيف: "عانينا إما من الفوضوية أو الاستبداد الشخصي تحت حكم لجنة الاتحاد والترقي. ولم نرَ قط فيهم معنى الحكم المتجانس لمنظومة معينة من الأفكار والنظام" (ص 125).
لا يحفل الكاتب بالتواريخ إطلاقًا فيقول: "كنتُ في اسطمبول في ديسمبر" (ص 96). في ديسمبر فهمنا، لكن في أي سنة؟ ومع عدم اهتمامه بالدقة التاريخية يخطئ حتى في تاريخ ميلاده فيروي: "كنتُ أبلغ من العمر عشرين عامًا في السنة الرابعة عشرة من القرن التاسع عشر" (ص 39). وهذا يعني أنه كان في العشرين في عام 1814، أي أنه، والحال هذه، من مواليد 1794. والصحيح أن يقول إنه كان في العشرين من عمره في السنة الرابعة عشرة من القرن العشرين، أي في عام 1914 (والفارق مئة سنة فقط). ولعل هذا الإرباك ناجم عن الترجمة، وما أكثر أغلاط الترجمة في هذا الكتاب الصادر في بغداد عن دار الرافدين (2023، 160 صفحة، ترجمة أحمد زكريا، وملاك أوزدمير).

انطباعات ومشاهدات بعين عابرة
يجول الكاتب فالح رفقي أطاي في ديار العرب من حلب ودمشق والقدس إلى الحجاز والمدينة، ويصف، بقدر ما سمحت له ملكاته، أحوال الناس في تلك البلاد. وهو قليل الخبرة في ذلك، إذ إنه يستخدم عبارة "فلسطين اليهودية"، ويقول إن "المدن والقرى الجديدة في فلسطين هي قطع أثرية يهودية (...). والمختار في القرى يهودي إنكليزي يرتدي بدلة في المساء. والفتيات اليهوديات الألمانيات ذوات الخدود الحمر يَعُدْن إلى القرية من الكرم ويغنين فوق عربة الحصان. أما العرب المسلمون فهم في خدمة هؤلاء السادة: عامل اليومية العربي يعصر العنب، واليهودي البدين يشرب النبيذ" (ص 191). وهذه الصورة غير صادقة، بل فاسدة، وتبرهن على أن الكاتب لم يرَ من فلسطين إلا القليل السطحي. فعدد اليهود في فلسطين عشية الحرب العالمية الأولى بلغ 85 ألفًا منثورين بين صفد والقدس والجليل وبعض حارات المدن هنا وهناك. وقد هبط عددهم مع بداية الحرب إلى نحو خمسين ألفًا.




فعن أي مدن وقرى يتحدث فالح أطاي؟ إن "فلسطين اليهودية" هذه إنما هي مجموعة المستوطنات اليهودية (الييشوف) التي بُنيت كلها في العهد العثماني على أراضي الفلسطينيين. وصورة فلسطين التي ترسمها صفحات هذا الكتاب هي صورة مزوّرة تمامًا، وتبرهن على أن المؤلف لم يعرف من فلسطين غير لمحات عابرة وغير صحيحة ومن الخارج، حتى أنه لم يشر إلى حكاية جمال باشا وعشيقته اليهودية ليئة تاتنباوم في القدس التي زاغ عنها الكاتب وكتمها.
يروي المؤلف انطباعاته عن العرب في بوادي الشام والحجاز، ويسخر من عشائرهم كعشيرة الرْوَلة، ويسرد بعض انطباعاته كالتالي: "البدو الذين قاموا بتهريب الخيول من الجهة البريطانية وباعوها لنا كانوا يسرقون خيولنا ويبيعونها للبريطانيين عند عودتهم" (ص 109). ويضيف: كان لشيوخ حوران "عيب واحد هو رائحة لحاهم الحادة التي لا تخرج من الغرفة التي يدخلونها لمدة أسبوع. ولون اللحية الدرزية يشبه الحنّاء ورائحتها مثل القرفة بالخل" (ص 128 و129). ويحكي عن البطريرك الماروني الذي جاء لزيارة جمال باشا في فندق صوفر أنه حضر ومعه ملعقته ومنشفته الخاصة (ص 128). والمفاجئ في هذا الكتاب ما أورده الكاتب عن وجود فئة في لبنان تُسمى الجهاديين المقدَّسين، وكل قاتل للمسلم هو جهادي مُقدّس. إذا كان أعزب يحصل على أربع ليرات. أما إذا كان متزوجًا فيحصل على ثماني ليرات (ص 56). وهذا من غرائب حكايات الكتاب، وتحتاج هذه المعلومة إلى التحقق والتقصي. ويكشف الكاتب أن جمال باشا كان يعمل على توزيع الأرمن في داخل سورية، وكذلك الأكراد والشركس، لأن من شأن ذلك أن يشكل ضمانًا ضد العروبة (ص 99).

فالح رفقي أطاي

الترجمة وإعتام النص 
المؤلف ليس مؤرخًا، وليس باحثًا، وليس رجل علم، إنما دوّن ما أسعفته عيناه من مشاهدات، وما أتاحته له أذناه من معلومات. وهو لا يضبط مصادر معلوماته البتة، فهو ينقل عن "وثيقة فرنسية"، لكنه لا يذكر شيئًا عن تلك الوثيقة، وأين يمكن العثور عليها، أو الرجوع إليها (ص 56). وعلى هذا المنوال ينقل عن "تقرير فرنسي" أن اللبنانيين لا يمكن أن يقوموا بثورة ضد العثمانيين، فقد طلبوا منا السلاح، ذات مرة، فأعطيناهم. وبدلًا من التمرد باعوا السلاح لعرب الصحراء (ص 58). ومن عجائب الكاتب أنه لا يتردد في القول: "أنا على قمة جبل الزيتون الآن. أنظر إلى بحيرة لوط [البحر الميت] وتلال أريحا. وفي الأمام الضفة اليسرى بأكملها للبحر الأحمر والحجاز واليمن" (ص 49). وهذا الكاتب غير الحاذق لا يصف ما يرى، بل يقرأ الخريطة، لأن الجالس على قمة جبل الزيتون ربما يرى تلال أريحا، أو حتى البحر الميت، لكن من المحال أن يرى الضفة اليسرى للبحر الأحمر والحجاز واليمن.




كُتبتْ فصول هذا الكتاب بأسلوب أدبي، لكن الترجمة قضت على ذلك الأسلوب، وأحالته إلى عبارات مغلقة ومعتمة وغير مفهومة في أحيان كثيرة، وافتقرت نصوصه المترجمة إلى الرشاقة والدقة معًا. وعلى سبيل المثال هذه الفقرة: "أما القدس فهي مسرح غربي قام بمسرحة الدين (...)، واعتقدتُ أن قساوسة القيامة لديهم لحى مستعارة. عندما ينحنون قليلًا يمكن للمرء أن يرى انتفاخ قبضة المسدس تحت ردائهم" (ص 87). أما الترجمة الصحيحة فهي على النحو التالي: "أما القدس فقد تحولت إلى مسرح غربي نشاهد الدين فيه وكأنه مسرحية إلى حد أنني تخيلت كهنة كنيسة القيامة كأنهم أصحاب لحى مزيفة. وعندما ينحنون إلى الأسفل نستطيع أن نشاهد بوضوح مسدساتهم المخفية بإحكام تحت أثوابهم الطويلة" (ورد النص المترجم أعلاه في "سليم تماري، "عام الجراد"، بيروت، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2008). وعلى غرار ذلك وردت في كتاب "جبل الزيتون": "نادرًا ما صادفتُ تركيًا لم يصبح عربيًا" (ص 50). أما في كتاب "عام الجراد" فقد وردت على النحو التالي: "لم أرَ خلال إقامتي كلها عربيًا واحدًا تترّك، بينما لم أرَ إلا عددًا قليلًا من الأتراك تعرّب" (ص 50). والواضح أن الجملة الأولى تخالف الثانية تمامًا، وتعاكس المعنى.

جمال باشا السفاح (Getty)

افتقر الكتاب إلى محرر خبير لضبط عباراته وجلاء ما استشكل منها وشرح غوامضها. وكان من المفروض وضع الهوامش الإيضاحية لعبارات مثل "مدرسة تشاركتشي"، و"تشاتلجا"، و"تيوتونيا"، و"ديميتوكا"، و"بوزانتي"، و"كوينات"، وغيرها كثير جدًا. وترد كلمة موسكوفيا في القدس (ص 13 و18) وهي المسكوبية، وكذلك روميليا (ص 31) وهي الروملّي. وكذلك "جبال الصخر الأسود" (ص 77)، وهي الجبال البركانية. والواضح أن مترجمَي الكتاب لم يعتنيا بالمضمون والأسلوب، فاستخدما، على سبيل المثال، العبارة التالية: "مرتديًا نعلًا" (ص 26)، والنعل لا يُرتدى، بل يُنتعل: يُقال انتعل حذاء، أو مداسًا. وفي ص 34 وردت الجملة التالية: "لم يكن يأتي إلى عقلي". ما ضرّ المترجميَن لو استخدما عبارة: لم يكن يخطر في بالي؟ ويستعمل المترجمان عبارة "عصر المشروطية" (ص 35 و41)، وهذا التعبير شائع في بلاد فارس، فيما تُستعمل في البلاد العثمانية عبارة "العهد الدستوري". ومن العبارات المهلهلة "أخذنا القطار من عمان" (ص 77)، والمعروف أن لا أحد يستطيع أخذ القطار، بل يقال: أقلّنا القطار من عمان، أو ركبنا القطار في عمان. ومن فكاهات هذه الترجمة الجملة التالية: "تُباع الشموع للمسيحيين بعد حرقها بالنار المقدسة" (ص 88). يا للعجب! كيف تُباع الشموع بعد حرقها؟ المقصود "بعد إضاءتها" (أو إشعالها) بالنور المقدس، وهو طقس مسيحي يمارس في كنيسة القيامة في ليلة الميلاد. ولا يفرق المترجمان الحنجرة عن الحلق في الكلام على الأغاني العربية (ص 112): "كنا نسمع الأغاني للحلق العربي"، وربما كان الصحيح "الجوق العربي"، وليس "الحلق العربي". ولا يفرّقا التبن عن العشب (ص 107)، ويورد المترجمان مدينة هائل (ص 131)، والصحيح: حائل، ووادي الجحيم بجوار القدس (ص 156)، والصحيح: وادي إبن هنوم (غيهنوم = جهنم)، وبئر السبيل (ص 157)، والصحيح: بير السبع. ومن غرائب الترجمة في هذا الكتاب ما يلي: "منذ الأيام الأولى للمسيح وقف الأتراك بيقظة وشجاعة وهدوء كخط حديدي على القضبان، وقاموا بتفريق جميع الهجمات، واحدة تلو الأخرى، بالحراب في أغلب الأحيان" (ص 160). السؤال الآن: هل كان هناك أتراك منذ الأيام الأولى للمسيح؟

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.