في ديسمبر/ كانون الأول من عام 1954، أهدى محمد علي علّوبة كتابه "فلسطين وجاراتها" إلى أرواح شهداء مصر الذين رووا بدمائهم أرض فلسطين، وإلى الذين أوذوا في حريّاتهم أو أجسامهم أو أموالهم، لافتًا إلى أنه "على العرب أن يتخذوا سبيلهم في هذا الكفاح، وأن يعلموا أن مصيرهم بأيديهم، فإمّا بقاءٌ وإمّا فناء".
ومحمد علي علّوبة باشا (1875 – 1956) سياسي مصري بارز، كان أحد أعضاء "الوفد المصري" برئاسة سعد باشا زغلول إلى فرنسا عام 1919، لعرض قضية استقلال مصر أمام مؤتمر السلام، وأحد واضعي دستور عام 1923، وحين تشكلت لجنة دولية من عُصبة الأمم في 1930، بعد اشتداد الصراع بين الفلسطينيين واليهود على محل البراق المجاور للمسجد الأقصى، أرسل مُفتي فلسطين يطلب من السياسي الشهير، وقتذاك، محمد علي علّوبة الذهاب إلى القدس للدفاع أمام هذه اللجنة، وهو ما كان، بحيث أثبتت اللجنة ملكية البراق لهيئة الأوقاف الإسلامية، بعد مرافعات لعلّوبة، فيما توالت مشاركاته الدولية للدفاع عن فلسطين وحقوقها السياسية.
وأصدر علّوبة في عام 1954 كتابه "فلسطين وجاراتها"، وأعادت منشورات الربيع في القاهرة طباعته بعد سبعين عامًا على صدوره، في إطار مشروعها الريادي "كتابات عصر النهضة"، ويجمع فيه خيوط القضية التي شهد على أخطر فصولها، موثقًا لتاريخ ذلك الصراع منذ بدايته، تاريخيًا ودينيًا وسياسيًا.
وأشار علّوبة في مقدمة الكتاب إلى أن له "بفلسطين صلات لا تنفصم عراها، فقد كانت ولا تزال عزيزة عليّ وعلى غيري، بحكم العروبة والجوار واشتباك المصالح، ووحدة العادات والتقاليد، وهي وحدة مزجت آمالنا وآلامنا، فما يُصيبها من خيرٍ أو شر يُصيبنا جميعًا... وتوثّقت صلتي الخاصة بفلسطين وأهلها من يوم أن قامت فكرة الدفاع عن البراق الشريف في صيف 1930، ذلك أن عصبة الأمم، حين اشتد النزاع بين العرب واليهود على "محل البراق" الملاصق للمسجد الأقصى، تقرر تأليف لجنة محايدة من ثلاثة وزراء هم: وزير سابق لوزارة خارجية السويد رئيسًا، ووكيل محكمة استئناف برن السويسري، وآخر هولندي كان حاكمًا لأندونيسيا، كعضوين".
وجاءني المرحوم أحمد زكي باشا المعروف بشيخ العروبة، والحديث لعلّوبة، ومعه المرحوم الدكتور عبد الحميد سعيد، الرئيس السابق لجمعية الشبّان المسلمين، برفقة مندوب فلسطيني أرسله "المجاهد الكبير السيد محمد أمين الحسيني مفتي القدس الأكبر وزعميها، وطلبوا منّي الذهاب إلى القدس، للدفاع أمام هذه اللجنة الدولية المُحايدة، فلم أتردّد في القبول".
ويواصل علّوبة سرد حكايته هذه، التي يسلط فيها الضوء على جوانب خفية من تاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، أو العربي الإسرائيلي، فيسرد: ذهبنًا جميعًا إلى القدس، وأقمت هناك زهاء عشرين يومًا، وكان يدافع عن اليهود ما يعرف بلقب حاخام فلسطين، ومحُامٍ هناك، وثالث هو أستاذ يهودي نمساوي من كبار المحامين، حضر خصّيصًا للدفاع في هذه القضية، وبعد مرافعاتٍ طويلة وأخذٍ ورد، وتقديم مذكرات منّي ومن زكي باشا، قررّت اللجنة الاعتماد على الحُجج الرسمية التي قدّمناها أن البُقعة المتنازع عليها مِلك للأوقاف الإسلامية، وأن لليهود أن يذهبوا إليها لتأدية عباداتهم وصلواتهم، باعتبار أن هذا كله مِنحة من سلطان تركيا، وتسامحًا منه في الماضي.
ويعترف صاحب "فلسطين وجاراتها": شجّعني هذا الفوز، وهو انتصارٌ للحق والعدل من رجال مُحايدين ذوي مكانة، أن أوالي خدماتي لفلسطين، فساهمتُ بعد فترة من الزمن في إقامة المؤتمر العالمي بالقدس في عام 1931، وقد جمع عددًا غفيرًا من أولى الرأي والمكانة من العرب والمسلمين من جميع الأقطار، وأصدرت قرارات أملًا في أن تكون هذه أدلة كافية،، تُقنع إنكلترا المُنتدبة وغيرها بحق فلسطين في حُريّتها واستقلالها، وفي عام 1933 ذهبتُ مع سماحة المفتي إلى شرق الأردن، ومنه إلى العراق، ثم إلى شبه القارة الهندية، للدعاية لإنشاء جامعة عربية في القدس (وهو ما تحدث عنه بالتفصيل في هذا الكتاب)، ثم قمنا بعقد مؤتمرات أخرى منها مؤتمر "بلودان" في سورية عام 1937، وقد حضره كثيرٌ من العلماء والوزراء والكُبراء، وأصدرنا فيه قرارات مهمة.
يجمع محمد علي علّوبة في كتابه خيوط القضية التي شهد على أخطر فصولها، موثقًا لتاريخ ذلك الصراع منذ بدايته، تاريخيًا ودينيًا وسياسيًا |
"وقد رأينا الاستمرار في الدفاع عن فلسطين، ثقة منّي بأن العدل يفوز ولو بعد حين، ففكرتُ في عقد مؤتمر كبير دعوناه المؤتمر البرلماني العالمي للبلاد العربية والإسلامية، ويختلف عن باقي المؤتمرات في أنه يجمع أعضاء البرلمانات العربية والإسلامية، كما يجمع رؤساء العشائر، ووجهاء البلاد المحرومة من التمثيل البرلماني باعتبارهم متحدثين عنها، وبذلك تكون قراراته مُعبّرة أدق تعبيرٍ عن رغبات الأمم العربية والإسلامية، ويكون لها أثر مرموق، وأرسلتُ الدعوة إلى أعضاء البرلمان المصري والعراقي والسوري، وإلى الكُبراء في لبنان، والهند، والمغرب، واليمن، ويوغوسلافيا، والصين، وفلسطين، وبلاد المهجر بأميركا وغيرها، ورغم العقبات التي أقيمت في سبيل انقعاد هذا المؤتمر فإنه نجح نجاحًا باهرًا، وأتت إليه الوفود من جميع هذه البلدان، وكان انعقاده يوم 17 تشرين الأول/ أكتوبر 1938 والأيام التالية، في سراي آل لطف الله بالجزيرة بالقاهرة... وبعد أن ألقيتُ كلمة الافتتاح، رأيت أن أضفي على المؤتمر صفة شبه رسمية، ليكون كأنه برلمان عربي إسلامي عام، فطلبت إلى صديقي الدكتور محمد بهي الدين بركات، رئيس مجلس النواب المصري، حينذاك، أن يترأس المؤتمر في يوم انعقاده الأول، كما طلبت إلى القائد مولود مخلص رئيس مجلس النواب العراقي أن يترأس انعقاد اليوم الثاني، وطلبت إلى الأستاذ الكبير فارس الخوري رئيس مجلس النواب السوري أن يترأس اجتماع اليوم الثالث، فتفضلوا بالقبول مشكورين".
ولفت علّوبة إلى أنه كان لهذا المؤتمر أثر إيجابي كبير، وتشكلت منه لجان اطلعت على التقارير والمُكاتبات المقدمة من الأفراد والجماعات العربية والإسلامية في أوروبا وآسيا وأفريقيا والولايات المتحدة وتشيلي وفنزويلا، وأصدرت قرارات منها تكليفه برئاسة لجنة مكونة من فارس الخوري، وخليق الزمان، وهو من كبار مسلمي بلاد الهند، وأصبح بعد ظهور دولة باكستان رئيس الرابطة الإسلامية فيها، ثم حاكمًا لباكستان الشرقية، وعبد الرحمن صديقي، من كبار رجال الأعمال في كلكتا، ومن زعماء المسلمين في الهند، وكانت مهمة اللجنة السفر إلى إنكلترا لإقناع "ولاة الأمور فيها" بحق عرب فلسطين، وبعد تعثر لقاء رئيس الوزارة البريطاني ووزير الخارجية، تمكن علّوبة أخيرًا من مقابلة وزير المستعمرات البريطاني منفردًا، وتحدث عنها في "فلسطين وجاراتها" بالتفاصيل.
ويشير السياسي المصري البارز في زمنه، إلى أنه وعندما "دخلت الجيوش العربية فلسطين لإنقاذها، بعد انتهاء الانتداب البريطاني، وقامت الحرب بين العرب واليهود"، ساهم في تكوين هيئة باسم "هيئة وادي النيل العُليا لإنقاذ فلسطين"، تألفت من "كبار القوم، وذوي النفوذ فيهم، يمثلون جميع طبقات الشعب المصري"، وكان لها فروع في الإسكندرية وغيرها، وقد جمعت من المال "شيئًا كثيرًا"، أمدّت به الشعب الفلسطيني بالغذاء والكساء والدواء، وجهّزت كذلك نفرًا من شباب مصر جاهد في فلسطين، وكانوا "مثلًا في البطولة والفداء، واستشهد كثيرٌ منهم، واستمرت هذه الهيئة زمنًا طويلًا أدت واجبها كاملًا، وكان الاتحاد العربي بالقاهرة صاحب الفكرة وراعيها".
وشدّد علّوبة: "وبهذا كله كان صِلتي بفلسطين وثيقة، وأصبحتُ خادمًا لقضيتها، وسأبقى كذلك ما دمت حيًّا، وبما أنني وقفتُ على كثير من تطوّرات هذه المأساة التي لا مثيل لها في الأجيال الأخيرة، فقد دفعني ضميري إلى تحرير هذا الكتاب، للكشف عن بعض الحقائق، وإظهار ما حاق بفلسطين من نكبات، كي يطلع الرأي العام العالمي على جانبٍ من هذه القضية المؤلمة".
وأمِل علّوبة أن يستيقظ الضمير العالمي، ويطالب برد الحق إلى أهله، ورفع الظلم عن المنكوبين، لقناعته بأن تأييد السلام لا يكون بالظلم والصلف والجبروت، فالقوة، وفق ما يرى، يجب أن تكون خادمة للعدل، معتقدًا أن كثيرين في العالم يرون مصلحة الأمم ومصلحة السلم في أن يرقى الإنسان، وترقى الدول إلى مستوى النزاهة والإنصاف، لا أن ينساق العالم إلى اختراع المواد المهلكة، وجعلها تتحكم في مصير الأمم... "لعلي بوضع هذا الكتاب أنبّه الغافلين، وأبغي مصلحة فلسطين والعرب، ومصلحة العالم بأسره، وأنا كبير الأمل أن فهم الحقائق سيُضفي على العالم ضوءًا وهّاجًا، تنقشع أمامه ظلمات الجهل والغدر والظلم، وتزال به أسباب التطاحن في عالمٍ مضطرب".
وتوزّع الكتاب على عدّة فصول، منها: "فلسطين والضمير الإنساني"، و"الخليل إبراهيم"، و"خروج اليهود من مصر"، و"الاعتداء اليهودي الأول على فلسطين"، و"حكم داود وسليمان"، و"الفتح العربي"، و"أسباب تماسك اليهود"، و"اليهود أمام العالم"، و"الماسونية اليهودية"، و"أندية الروتاري"، و"قرارات حكماء صهيون"، و"عودة إلى مؤتمر بال"، و"الحرب العالمية الأولى"، و"وعد بلفور"، و"بين الحربين العالميتين – معاهدة فرساي"، و"ظهور هتلر والنازية والحرب العالمية الثانية"، و"مأساة فلسطين"، و"جامعة الدول العربية"، و"حرب فلسطين"، و"الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل"، و"ما إسرائيل؟"، و"أسباب قوة إسرائيل وضعف العرب"، و"كيف نتقي خطر الصهيونية"، وغيرها.
وخلص علوّبة إلى أن إيجاد دولة إسرائيل أدّى إلى وضع شاذّ، وإلى أحد أمرين: "إما أن يستمر وجودها فيستمر اعتداؤها على جاراتها، ساخرة بقرارات هيئة الأمم المتحدة، مطمئنة إلى رضى دول الاستعمار، أملًا في تنفيذ مشروعها الخطير وهو إنشاء دولة من الفرات إلى النيل، وهذا خطر داهم يهدّد كياننا، ويجعلنا نعيش دائمًا في قلق شديد... وإما أن يرجع اليهود إلى أوطانهم الأصلية، أو يُوزعوا على دول العالم، كل دولة بقدر طاقتها، كما اقترح المرحوم الملك عبد الله العزيز آل سعود على الرئيس الأميركي الراحل روزفلت، عندما قابله على ظهر الباخرة في مياه مصر، وهو نفس ما اقترحته بعض الدول أمام هيئة الأمم المتحدة".