}
عروض

"من عكا إلى تكساس": طلائع الحياة الثقافية في فلسطين

يوسف الشايب

5 مارس 2024

 

يمكن اعتبار مذكرات قسطنطين أسعد سيقلي، والمعنونة بـ"من عكا إلى تكساس"، من كتب السير النادرة لفلسطيني في القرن التاسع عشر، لا سيما أن سيقلي خطّها بنفسه، وسجّل فيها أحداثًا في الفترة الممتدة بين عامي 1861 و1928، قبل أن يحققها ويضع حواشيها ويقدم لها تيسير خلف.

وتندرج هذه المذكرات، الصادرة حديثًا عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في الدوحة، ضمن النمط المؤرّخ للعائلات، إذ يوثق سيقلي ظروف عائلته، متطرقًا إلى أصلها وجذور تسميتها، وملسطًا الضوء على أبرز الأحداث التي عاشتها عائلته ومحيطها، فيذكر قسطنطين أحوال ولاية سورية العثمانية عمومًا، وخاصة الجليل الفلسطيني، مركزًا على عكا، وقتذاك، ساردًا عن المناصب الإدارية المهمة التي توّلاها الجيل الثاني من عائلته، بعد سن قانون الولايات العثماني عام 1864، إذ عملوا مترجمين وإداريين في مركز الولاية والمتصرفيّات والقنصليّات الأجنبية، مفصلًا في بعض المشاريع، بينها: تشكيل فريق "مرمح الخيل" العثماني، ومشاركته في معرض شيكاغو الكولومبي الشهير، وشركة "الرزي" في طرابلس الشام، كذلك مشروع "حمّامات الحمّة" الذي أداره أخوه راجي سيقلي، ولا يغفل تدوين اهتمامات ذلك الجيل من عائلته بالعمل الثقافي والأهلي.

ويتطرق سيقلي، من بين ما يتطرق له في مذكراته هذه، إلى ظروف الهجرة العربية المسيحية إلى أميركا، في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، فيخوض في تجربة الهجرة إليها، وما رافق ذلك من ظروف تعكس الحالة الاجتماعية والاقتصادية العامة في تلك الفترة.

والمخطوط يحتوي على معلومات غاية في الأهمية عن أحوال الجليل الفلسطيني خصوصًا، وولاية سورية العثمانية عامة، كتبها شخص مثقف، درس في أفضل مدارس الولاية، وقتذاك، كالمدرسة الوطنية في بيروت، ومدرسة عين طورا في جبل لبنان، وبدأ دراسة الطب في الكلية البروتستانتية السورية (الجامعة الأميركية في بيروت لاحقًا)، ثم عمل موظفًا رفيعًا في شركة "الرزي" أو "الريجي" لحصر التبغ، مديرًا لمديريات عكا وطرابلس الشام، وعُرضت عليه مديرية بغداد لكنه رفضها.

وساهم سيقلي في العمل الثقافي والأهلي إلى جانب شقيقه راجي، خصوصًا في الجمعية الأدبية في عكا، التي تحوّلت، في وقت لاحق، إلى جمعية خاصة بطائفة الروم الأرثوذكس لأسباب عدّة، ليروي في مذكراته قصة أول فرقة مسرحية في فلسطين، وعدد أسماء المسرحيات التي مثلتها بين عامي 1880 و1883.

وأشار سيقلي في مذكراته إلى أنه خلال عضويته فيما بات يعرف بالجمعية الخيرية الأرثوذكسية التي أسسها شقيقه راجي، شارك في تمثيل عدد من الروايات (التوصيف الدارج للمسرحيات وفيما بعد الأفلام حتى ثلث أو منتصف القرن العشرين)، مشيرًا إلى أن ريعها كان لعمل الخير، وهي ثلاث مسرحيات أولها "تليماك" ومثل فيها دور "تليماك" نفسه، وهي مسرحية بالأساس تحمل عنوان "مغامرات تليماك" للفرنسي فنلون (1651- 1715)، وصدرت في باريس عام 1699، بهدف تعليم ولي عهد فرنسا مسؤوليات الحاكم وواجبات الملك، عبر استحضار تاريخ اليونان وآدابهم، فاستعار إطار مغامرات تليماكوس أوديسيوس، الذي ارتحل باحثًا عن أبيه الغائب ليعود به إلى وطنه، وترجمها إلى العربية رفاعة الطهطاوي عام 1852.

والثانية كانت مسرحية "مي" ومثل فيها قسطنطين سيقلي دور البطل "كرياس"، وهي مسرحية تاريخية من ثلاثة فصول، اقتبسها المسرحي اللبناني سليم النقاش عن المسرحية الفرنسية الشهيرة "هوراس" لكورنيه، وعرضت للمرة الأولى على مسرح زيزينيا في الإسكندرية عام 1877.

أما ثالث الأدوار وآخرها فكان دور "رادام" في مسرحية "عايدة"، وهي مسرحية اقتبسها سليم النقاش عام 1876 من الأوبرا الإيطالية الشهيرة، وحوّلها إلى عرض مسرحي نال رواجًا في أواخر القرن التاسع عشر.

وأشار سيقلي إلى أنه، وأثناء تشخيصه رواية "تليماك" ظهر المرسح (لفظ استخدم في بلاد الشام لتوصيف المسرح) بهيئة الجحيم، واللهيب يتصاعد من فوهة بوسطة، إذ طارت بعض الستائر، واستولى الرعب على الحاضرين وهربوا من القاعة، ومن بينهم حاكم البلد مع حاشيته، غير أنهم رجعوا إلى مقاعدهم بعد أن أعيد كل شيء إلى حاله، وزوال كل خطر، وقد أعجب الحاكم، وجميع الحاضرين، بإتقان التمثيل. 

النص مليء بالصياغات التي لم تعد مستخدمة في اللغة العربية المعاصرة على مستوى التركيب والإملاء، وكان مهمًا أن يحتفظ تيسير خلف بصياغتها إلى حد بعيد


وأسس راجي سيقلي، شقيق قسطنطين، في عام 1880، الجمعية الثقافية الأولى في فلسطين باسم الجمعية الأدبية، وولدت من رحمها الفرقة المسرحية الأولى في فلسطين، وكان صاحب المذكرات بطلها ونجمها الأول، وظهرت هذه الجمعية باسمها البعيد عن الهوية الطائفية في عامها الأول، ولكن في عامها الثاني، وبعد عزل مدحت باشا مباشرة، أخذت اسمًا طائفيًا هو الجمعية الخيرية للروم الأرثوذكس، لتتطور في وقت وسياق لاحقين إلى جمعية ذات طابع إغاثي نسوي باسم جمعية إغاثة المسكين.

وتوضح المذكرات أن راجي سيقلي، شقيق قسطنطين، كان من أبرز مثقفي زمنه في فلسطين، حين تُظهر أن تصورات راجي كانت تتسع إلى ما بعد جغرافيا عكا والجليل الفلسطيني لجهة ولاية سورية كلها، بمدنها العريقة والصاعدة، وليس أدل على ذلك من مشروعه الكبير بتأسيس فرقة مسرحية كبرى تمثل قصص أبطال العرب في ميادين خيل، وملاعب شاسعة، يشارك فيها مئات الفرسان من الفلاحين والبدو، ويصنع إكسسواراتها حرفيون من مدينة دمشق، إذ حظيت هذه التجربة اللافتة برعاية السلطان عبد الحميد بنفسه، ولاقت اهتمامًا غير عادي من الجمهور الأميركي، حين سافر الفريق المسرحي الضخم ومعداته إلى شيكاغو قي عام 1893.

وتضمنت المذكرات، معلومات مهمة عن ظروف الهجرة العربية المسيحية إلى أميركا في أواخر القرن التاسع عشر، وبداية القرن العشرين، وهي معلومات من النادر أن نقرأ عنها في مذكرات مهاجر عربي من ذلك الزمن، بهذا الإسهاب وبهذه التفاصيل.

وكتب قسطنطين سيقلي مذكراته بين عامي 1926 و1928، بلغة عربية فصيحة، كما يذكر هو نفسه ومقدّم المذكرات، وهي لغة تنتمي لطرائق الإنشاء السائدة في القرن التاسع عشر، ولذلك فالنص مليء بالصياغات التي لم تعد مستخدمة في اللغة العربية المعاصرة على مستوى التركيب والإملاء، وكان مهمًا أن يحتفظ تيسير خلف بصياغتها إلى حد بعيد، لذا فقد دوّن صاحب "من عكا إلى تكساس" مذكراته معتمدًا على ذاكرته، وعلى ما عاينه في ماضيه، علاوة على ما سمعه من والده، مقرًا في مخطوطه الذي بات كتابًا أنه غير قادر على تعيين بعض تواريخ الوقائع التي يؤرخ لها، لاعتماده على الذاكرة في النقل، لذا كان على خلف التحقق من بعض ما شكك في صحة حدوثه أو نسبته أو تاريخه، مستندًا إلى مراجع موثوقة من كتب وصحف ووثائق، بل وحقق في الهوامش كثيرًا من الأماكن والشخصيات التاريخية التي وردت في مخطوط المذكرات، وأتبعها بملاحق تدعمها وتثبت تاريخيتها وصدق مؤلفها.

وكان الأب أسعد سيقلي، والد صاحب المذكرات، انتقل إلى عكا من حيفا التي ولد فيها قسطنطين، لأهداف اقتصادية وسياسية واجتماعية، وهو ما كان له، بحيث راكم رأس مال كبيرًا، واشترى أراضي واسعة في ريف المدينة، وإحدى دور والي عكا السابق عبد الله باشا وجددها، وأصبح يلتزم أعشار بعض قرى ناحية الشاغور، كما أصبح ملتزمًا لضرائب مال القبان، أي تجارة التجزئة، ولضرائب الأسماك المفروضة على الصيادين، بحيث أتاحت له هذه البحبوحة، بالإضافة إلى بعض صفاته الشخصية، أن يصبح من أصحاب الشأن في منطقة الجليل الفلسطيني، ومن أبرز وجوه طائفة الروم الأرثوذكس فيها، وبالتالي يرسل أبناءه، وبينهم قسطنطين صاحب المذكرات، إلى كبريات مدارس ولاية سورية، لكن هذا الصعود سرعان ما توقف بعد موت أسعد الأب، بحيث بدأ نجم العائلة بالأفول، نتيجة عوامل ذاتية استطرد صاحب المذكرات في تعدادها، وأخرى موضوعية منها تراجع مكانة عكا التجارية، بسبب ربط الخط الحديدي لمدينة حيفا بجهة جنين والشام، ما قلص واردات عكا وصادراتها، حتى أن عمّالها غادروها إلى حيفا.

وكان لافتًا أن عائلة أسعد سيقلي استعانت بالإمبراطورية الروسية لحمايتها، خاصة أن هذه الإمبراطورية بدأت تطرح نفسها حامية للروم الأرثوذكس، منذ معاهدة كوجك قينارجة في عام 1774، مقابل حماية الإنكليز للدروز، والفرنسيين للموارنة.

وكان ثمة حديث عن الأصل الروسي للعائلة، وهي رواية شكك فيها محقق ومقدم المذكرات لأسباب عدة، مشيرًا إلى أن قسطنطين سيقلي نفسه كان رأس الحربة في مقاومة رعاية كنيسة الروم الأرثوذكس السوريين في الولايات المتحدة لبطريركية موسكو الروسية، الساعية لضم جميع الأبرشيات الأرثوذكسية المهاجرة إلى أميركا في عام 1915، فلو كانت، والحديث هنا لخلف، الأسطورة الشعبية حول الأصل الروسي للعائلة، تعني له شيئًا، لكان وافق على تلك التبعية، ولم يقاتل أشد القتال للحفاظ على الهوية السورية العربية الأنطاكية لأبرشيّته.

ولكن خلف تجاهل أن هذه المعارضة قد يكون لها أسبابها الأخرى فكرية كانت أم سياسية أم دينية، فصاحب المذكرات تحدث بإسهاب، في مطلع "من عكا إلى تكساس"، عن جد العائلة الروسي "جرمانوس" أو "جرنانوف" الذي جاء رفقة جماعة من الروس لزيارة الأماكن المقدسة في فلسطين عام 1634، وكانت برفقته زوحته كاترينا، ووالدهما الصغيران يوسف وموسيقى، واستقر بهما المقام في القدس، وأقاموا بجوار القبر المقدّس، ومع وفاة الأم ودفنها في القدس، انتقل الزوج وولداه إلى القاهرة وتزوج بقبطية لم تنجب له أطفالًا، لكن تعاملها كان قاسيًا تجاه ولديه، اللذين قررا العودة إلى فلسطين بحرًا من الإسكندرية إلى حيفا، ومنها إلى "سخنين" في ناحية الشاغور التابعة لقضاء عكا، وهكذا بدأت حكاية العائلة مجددًا في فلسطين، متحدثًا عن والده أسعد بإسهاب، وغير متجاهل في مذكراته أشقاءه: شبلي الذي ولد في الناصرة في بيت جدهم سمعان قبل هجرة والدهما أسعد إلى حيفا ومنها إلى عكا، وراجي رفيق دربه وملهمه، وواصف الذي سمي "يواصاف" باسم مطران عكا، حينذاك، وشكري الذي توفي طفلًا، وسمعان السادس، وتوفيق السابع وولد طفلًا، بينما كان قسطنطين رابع الذكور من أبناء أسعد سيقلي، كما تحدث عن شقيقاته: أدما التي ولدت في عكا، وأوجينة التي تزوجت ورافقت زوحها إلى مصر، كما حال نبيهة الثالثة، وكرميلة الرابعة التي توفيت طفلة، وروزا أصغر ذرية أسعد، وتزوجت وأنجبت، قبل وفاتها بمرض معدٍ.

ومن الملاحظ أن سيقلي لم يعتمد منهجية دقيقة متسلسلة زمنيًا في كتابته، بل عمد إلى تقسيم مذكراته إلى أجزاء مبتدئة بأرقام تسلسلية، ومن تحت معظمها عنوان رئيس تتبعه عناوين فرعية، تم تحويلها في نسخة الكتاب إلى فصول وُسم كل منها بعنوان رئيس.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.