}
عروض

"العرجون اللجين": مرآة التفكر بالزمن المستعاد

ليندا نصار

6 مارس 2024


تسير رواية "العرجون اللجين" للروائية اللبنانية لينة كريديه، الصادرة عن "دار النهضة العربية للنشر والتوزيع" في بيروت (2023)، على خطّ ينطلق باتجاه الزمن المستعاد، وقد تم ذلك بعد أن أقفلت الكاتبة الزمن الماضي لتترك الذاكرة الانتقائية تختار وتتحكم بمسلسل الأحداث وتنظمها من المستقبل إلى الماضي، ونحو اللحظة الحاضرة التي يمتلكها القارئ. وتخبرنا الكاتبة عن روح عالقة في مرآة بين زمنين وعالمين ميتافيزيقي شاهد على ماضي الإنسان، يطل فيه أبراهام دافيد عزرا (الشخصية الرئيسة) من الحياة الثانية على الحياة الأولى. فتتصدى الرواية لأسئلة الهوية والانتماء والمصير، كما تعرض للأيديولوجيات والأفكار التي كانت تتحكم بالمجتمع البيروتي في مرحلة الحرب الأهلية اللبنانية وما زال بعضها حتى اليوم (أنا أبراهام عزرا دافيد، توفيت البارحة عصرًا،  وقد بلغت من العمر عتيّا)... 

تأخذ لينة كريديه قارئها إلى عالم مكوّن من ثلاثة عقول تمثل أدوارها بمنطق وحكمة، ومرآة واحدة في وسط سوريالية وإحالات للحياة الثانية والأولى أيضًا. فهذا الرجل العالق في المرآة يتنقل من مشهد إلى آخر وتطير أفكاره كأجنحة ليعرض ما بناه في حياته الماضية وسط شريط طويل من الفرح والحب والعلاقات والحزن والمرارات والهزائم التي مر فيها كفعل مقاومة للنسيان، ويبدأ المونولوج الداخلي أو مناجاة المرآة التي تضعه في حالة من اللوح والتأنيب (ألم تتعلم من ماضيك؟ تسألني المرة. ألا تذكر حين علّقت في المرة الأولى درسك الأول؟) ليصوّر الماضي بما حافظت عليه الذاكرة من دون أن يكون في حالة السلام الداخلي والمصالحة مع الأحداث التي تحكمت به لكنه يعيش عزلة وسط الموسيقى والكتب (هربت إلى داخلي قليلا. ربما هي قوقعتي ووحدتي التي يسمونها أحيانًا الاكتئاب. أما أنا فأقول إني صاخب جدًّا، عزلة مكسورة بالكتب والأوراق والموسيقى وزحمة عقول متصارعة ومتشابكة، أية عزلة هذه؟)...

والسؤال هنا هو عن أي مرايا تتحدث لينة كريديه ولماذا اختارت المرايا وتصدّت لتاريخها وقصصها في الأدب العالمي عبر الزمان؟ وإلام تحيلنا صورة الإنسان ووقوفه أمام نفسه كنوع من التفكر والنقد الذاتي؟ هل حقًّا دراكولا لم يستطع مواجهة نفسه وتشوهاته وتلذذه بالدماء أمام المرآة؟ وماذا عن مرآة بياض الثلج أو أليس في بلاد العجائب؟ (دراكولا لم يقتن مرآة كي لا يرى وحشيته وإجرامه وحقيقته وأهوال ساديته: كل إنسان يعلق بفكره بمصيره بماضيه).

لعلنا أمام رواية مختلفة تمثّل البشر، بل الإنسان، في تقبّل نفسه أولًا وبصدق بينما ثمة من لا يمكن أن يواجه نفسه بفعل أن ما اقترفه ما تسبّب له بالعمى فضاع مصيره. ولعلّ هذه المرايا التي لم تغطّ بعازل وضعتها الروائية لتكشف عن وجوه وأطباع شخصياتها التي قد تمثّل الإنسان في كل زمان ومكان، فأبراهام عزرا دافيد سجين روحه، ومع ذلك كأنه علق في المرآة ليرى العالم على حقيقته انطلاقًا من نقطة محورية تبدأ من مواجهة النفس إلى مواجهة الآخر (لم تغط المرايا بملاءات أو بأي عازل فصرت حبيسها).

إذًا نحن أمام رواية تحمل أبعادًا وتأتي بها الكاتبة من عالم ما بعد هذا العالم لتنسج نصًّا تتشظّى فيه الأزمنة، وتروى أحداثه وسط مزيج الذاكرة، وتنعقد حلقاته بين طبقتين أو حياتين: الحياة السفلية المتمثلة بالحياة الأرضية والحياة العلوية المتمثلة بالحياة الثانية أي ما بعد الموت. فهنا نحن أمام لحظة الموت المحتم الذي يشكل الحد الفاصل أو اللحظة التي تراجع روح الإنسان نفسها وأخطاءها ضمن شريط طويل قبل الانتقال إلى عالم آخر (لا بدّ من الموت للحياة ولا بدّ من الفناء للبقاء).

إننا أمام موت بمعنييه: الرمزي والحقيقي. فلعل الموت الرمزي هو الموت البطيء الناجم عن الخوف الحقيقي من أن تكتشف حقيقة أبراهام، الشخصية الأساسية في الرواية، على أنه يهودي يعيش في حالة من الحذر تجاه حقيقة ديانته في بلد طائفي، فأبراهام اليهودي اللبناني الأصل لجأ إلى الكذب وتنكّر في شخصية الأرثوذكسي البيروتي وعاش خائفًا من البيئة (أنكرت ديني من أجل سلامتي في الحياة الآخرة) والمجتمع، وكأن مرآته اليهودية تأتي لتذكره إلى أنه مهما تنكر الإنسان لأصله، فستظهر حقيقته في نهاية الأمر (الكذب ملحنا اليومي، نكذب جملة وتفصيلًا لأجل صورتنا أمام الآخرين، لنخفي ضعفنا ومشاكلنا).

كذلك نجد هذه الروح العالقة في المرآة اليهودية قد وجدت نفسها أمام المستقبل بالتحولات التي جاءت من الماضي إلى الحاضر، إذ يبدو في الصورة أن الجميع سيجتمع ليرث ما تركه الرجل اليهودي وكل بحسب اهتماماته، حيث لا يكترث أحد للمكتبة والكتب التي كانت تعني لأبراهام الكثير. فاللحظة الحاضرة في الرواية كشفت عن المحيطين بهذا الرجل الذي لم يستطع، على طول خط الرواية، أن يحرر نفسه وينال تسوية ربما مع المجتمع على الأقل (لا يتواصل أبراهام إلا مع المرآة ويفرح معها وبينما السماسرة في البيت لشراء الأثاث تقول المرآة له: كن شاكرًا لوجودي، ها أنت هنا ولن تكون وحيدًا).

لا تكتفي الكاتبة بالسرد والغرائبية السوريالية التي تلجأ إليها في الرواية وسط حنكة اشتغلت بها على امتزاج  الأزمنة والأحداث، بل تمد القارئ بثقافة واطلاع على الدين والمجتمع والسياسة وسط لعبة الزمن والمرايا، فأبراهام يأخذنا إلى عالم تمثل فيه الشخصيات العربية أدوارها لنعود معه إلى مشاهد تصوّر فيها حقبات زمنية تمتد منذ العصور الجاهلية إلى العصر الأموي إلى ما بعده عبر التاريخ حيث تجلت حروب العرب وصراعاتهم حول السلطة (داحس والغبراء مثلًا) وخساراتهم وعاداتهم وسلوكهم وأساطيرهم... في حالة من النقد لكل ما حدث ودعوة إلى أن يتعلم العربي من أخطائه (في الحروب تنسى أسماء القتلى والشهداء ويبقى الحدث).

كل ذلك وسط جمالية عالية تنطلق من الذاكرة المستعادة لتضيف المتخيل على المشاهد فتبدو اللغة بما حملته من صور قريبة من القارئ بهدف تصوير الواقع في الإطار الزمني المحدد في الرواية.

يبدو وعي الكاتبة وتمكنها من تصوير هذا الواقع بأطباع شخصياته وحركاتها، فقد جاء التعبير الروائي ليسرد الكيفية ومعبرًا من خلال اللغة عن رؤية خاصة تحمل في ثناياها موضوعًا مختلفًا ومغايرًا، فإذا بنا أمام المسافة الفاصلة بين جمالية السرد ورمزيته في هذا الجنس الأدبي وبين تشوهات العالم الواقعي حيث تحمل هذه الرواية خلفيات عدة منها ما يتعلق بالطائفية التي ما زالت في بيروت والوضع الاجتماعي قبيل الحرب الأهلية والتحولات التي أصابت هذا البلد وأمور أخرى تحتاج إلى ما هو أوسع من هذا المقال للإحاطة بها.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.