}
عروض

"الهليون": الحب والحرب

راسم المدهون

8 مارس 2024


رواية الكاتب الفلسطيني طلال أبو شاويش "الهليون" تجربة مختلفة في مقاربة المقاومة الفلسطينية المعاصرة وما يتصل بها من أحداث شكلت على مدار العقود الفائتة وقائع تراجيديا الحياة الفلسطينية، وبالذات في قطاع غزة. هي رواية تختار تقديم المقاومة بمعناها الواسع والشامل، أعني هنا بالذات رؤية المقاومة والشعب الفلسطيني من جانب ورؤية سلطة الاحتلال وأدواتها ووسائلها القمعية من ناحية أخرى. في الجانبين، يذهب طلال أبو شاويش إلى الصعب، وهو هنا يقع تمامًا في "أنسنة" شخصيات الرواية وأبطالها من خلال الغوص عميقًا في تقديم رؤى تلك الشخصيات وعوالمها الحياتية والداخلية في "استنطاق" فني وفكري يذهب لمقاربة الخلفيات السياسية وحتى التاريخية التي تقرر أفعال تلك الشخصيات، بل وحتى خياراتها اليومية والنهائية.
في "الهليون"، عالم المقاومة والكفاح المسلح في تجربته في قطاع غزة بالذات، وأيضًا عالم رجل أمن إسرائيلي نجح المحتلون في "زرعه" في غزة كلاجىء فلسطيني، وإقامته هناك بين اللاجئين باعتباره واحدًا منهم، ومن ثم متابعة سيرورة حياته في عصف الأحداث وتراجيديتها. كيف يرى ذلك "الجاسوس" محيطه الاجتماعي وما فيه من أحداث وعلاقات إنسانية تشتبك بالضرورة مع مهام عمله اليومي ورؤيته للأحداث والوقائع الدامية التي تتابعت في المدن والقرى والمخيمات. طلال أبو شاويش، إذ يقدم شخصية "الهليون" يذهب نحو استقصاء خلفياتها التي تختبىء تحت قشرة خارجية لا تقدر على حجب الشخصية وصاحبها عن تأثيرات الحياة بما هي وقائع وأحداث مثلما هي أفكار وآراء.
تقوم "الهليون" في بنائيتها الفنية على فصول يتحدث كل واحد من أبطالها مرَة فيقدم سردية تخصه وتخص حياته وما يتصل بها من وقائع وردود أفعال. قارىء الرواية سيتوقف طويلًا أمام شخصية رجل الأمن الإسرائيلي "الجاسوس" الذي عاش في أوساط فلسطينيي غزة ظروفًا اجتماعية وإنسانية قاسية وامتهن تنظيف المراحيض ليقع في عشق غجرية جميلة تصغره بثلاثين عامًا عشقًا يدفعه إلى حالة أخرى بالغة الإختلاف عن مهنته وما تفرضه عليه من تصرفات. هي قراءة في نسيج القسوة و"عاداتها" التي تصبح مألوفة وتتحوّل إلى مكونات أساسية لصاحبها. قراءة التحولات الكبرى في شخصية "الهليون" تكشف خطل التعويل على بنائية إنسانية تتأسس على القمع وما يرافقه من غرور القوة وسطوة الاحتلال والقوة الغاشمة، ونحن في هذه الرواية إزاء صراع طبيعي ومفهوم بين الأفكار وما تقاربه من أيديولوجيا القهر والتسلط وبين الحياة الحقيقية، الواقعية، والتي تنجح في فرض شروطها رغم الظروف المعاكسة كلها. هي شخصية تقف في أس الرواية وتفرد أجنحة مغايرة تحلق بصاحبها في منعطفات الممنوع وغير القابل لمجرد التفكير.




ينطوي الأمر على شخصية أخرى تنمو رويدًا رويدًا في داخل "الهليون" وتضعه في قطيعة مباشرة ونهائية مع حقيقته الأصلية وأعتقد أن "اللعبة الروائية" نجحت في جعل ذلك ممكنًا، بل ومقبولًا ومنطقيًا، من خلال "لعبة الموت" التي ارتبط بها "الهليون" مرتين بقرار من رؤسائه الكبار، حتى بات مصيره ووجوده غامضًا ويستدعي البحث والتقصي في "أوساط العدو"، مع احتمالات مرعبة تجول في مخيلة ابنه الذي ظل يتساءل طيلة صفحات الرواية: هل التقى والده في غزة، ولم يعرفه؟
بمعنى ما، عميق ويتجاوز حكاية روائية تطلع من المخيلة، تضعنا الرواية أمام التكوين التعسفي، العنصري والملفق للأيديولوجيا العنصرية بما هي مواجهة محكومة بالفشل ضد التاريخ برمته، ولكن بصورة أكبر ضد المستقبل الذي ينكشف لبطل الرواية أنه مفتوح على نهاية وحيدة لا تقبل الشك، وهي سقوط الاحتلال وما يحمله من أيديولوجيا ومن ممارسات على حد سواء.
في رواية "الهليون" مواكبة فنية لأحداث غزة في العقود القليلة الماضية وما شهدته المنطقة من حروب مقاومة لم تغفل عن رسم صور الحياة اليومية في المخيمات والقرى. توقفت باهتمام أمام "سردية" الرواية لحدث استشهاد محمد محمود الأسمر "جيفارا غزة" الذي قاد المقاومة المسلحة ضد الاحتلال الإسرائيلي في مرحلة السبعينيات، وقد نجح الكاتب في تقديم معركة استشهاده كحدث روائي يعيد رسم صورة الحياة وحركتها الحقيقية على الأرض في صورة بالغة السلاسة وتنسجم مع روح الرواية ونسيجها الدرامي السهل حقًا، ولكن المشغول بعناية فائقة. أشير هنا إلى أن رواية "الهليون" نجحت إلى حد بعيد في تقديم صور بديعة للمرأة الفلسطينية، الجريحة الروح، ولكن المفعمة بالأمل والمتسلحة بالإرادة. هنا بالذات تحضر شخصية "حياة" وما يحمله اسمها من رمزية كما تحضر شخصية "ليال" الغجرية والحبيبة والتي كان منطقيًا ومقبولًا أن ترمز بسلاسة أيضًا إلى المرأة التي تجسد الجمال والحب رغم محيطها الملوث وحتى الشائن. سنرى مع حياة وليال روح الحياة الطبيعية لشعب تحت الاحتلال ونتتبع مع تصرفاتهما تفاصيل الأيام الصعبة، الشائكة والمثقلة بأشكال الموت اليومي للناس في معارك المواجهة اليومية للفلسطينيين مع الاحتلال وما جسده من حياة لا تشبه سوى الكابوس الدائم الذي يتحكم في كل شيء.
"الهليون" أخذت اسمها كرواية من نبات الهليون الذي كنا نبحث عنه في طفولتنا بين الحشائش والأعشاب، خصوصًا بين شجيرات الصبار الشوكية، والذي يرمز إلى قوة الحياة والإصرار عليها، وربما هو بسبب هذا الإصرار "يسكن" مع الصبار في وقفته، ويعيش معه في حالة بحث دائم عن الماء، فيجدانه في التراب مرة، وفي الندى مرات أكثر. أعتقد أنها تجربة روائية تستحق الاهتمام، لكاتب موهوب يمتلك أدواته الفنية التي تمنحه وهج إضاءة واقعنا في فلسطين بفنية واقتدار.
هي رواية مقاومة بامتياز، وأعتقد أن أبرز ما فيها أنها ومنذ السطور الأولى وجدت المقاومة كمفهوم وكفعل إرادة تتجسد في الناس، وفي تفاصيل حياتهم اليومية، وما يحملونه من عذابات فوق ظهورهم تنوء به أقدامهم وهم يغذون السير في اتجاه الصعب الجميل الذي يؤمنون بحتميته.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.