}
عروض

عن إفلاس العراق من منظور طائفي وإثني

عمر كوش

27 أبريل 2024


لا تزال النظرة الاستشراقية، التي تنهل من نزعات ثقافوية اختزالية، وترى في الإنسان في مجتمعاتنا العربية مجرد كائن ديني، تلازم دراسات عديدة في العلوم السياسية والاجتماعية، وتغري بعض الأكاديميين للأخذ بها على الرغم من أنهم يرتكبون أخطاء منهجية في مؤلفاتهم، من خلال استنادهم إلى وجهة نظرها الأحادية، التي تنظر إلى المجتمعات بوصفها مكونةً تاريخيًا من مجموعة من الطوائف والإثنيات المتنافسة، وينسبون إليها ما يصيبها من أزمات وإشكاليات، من دون الالتفات إلى الأخذ بجملة العوامل الفاعلة في تشكيل المجتمعات وتطوراتها، وإشاحة النظر عن العوامل الاقتصادية والسياسية والتاريخية التي تلعب دورها الأساسي في التحولات المجتمعة في مختلف دول العالم.
تكبر المشكلة الثقافوية عند تناول التطورات التي رافقت تشكيل الدول العربية، حيث يجري إرجاع أسباب فشل الدولة الحديثة إلى التناحر والتنافس بين المكونات الاجتماعية فيها، حسبما يذهب إليه مدير "المركز الفرنسي للأبحاث والدراسات العراقية" في فرنسا، عادل بكوان، في كتابه "العراق: قرن من الإفلاس من عام 1921 إلى اليوم" (ترجمة وسام سعادة، دار نوفل/ هاشيت، بيروت 2023) حيث يرى أن أسباب فشل العراقيين في تشكيل دولة قومية موحدة، أو بالأحرى سبب إفلاس العراق على مدى قرن من الزمن، عائد إلى الصراع الطائفي والإثني بين مكوناته، المتمثلة بالأكثرية الشيعية في جنوبه، والأقلية السنية في وسطه، والإثنية الكردية في شماله، حيث لم تنجح محاولات العراق في تشكيل دولة منذ عام 1921 وصولًا إلى 2021، العام الذي كتب فيه كتابه.
لا يمكن التسليم، علميًا ومنهجيًا، بأن الطوائف تمثل كيانات صلبة، وتتحرك وكأنها أجسام منظمة وموحدة في أي مجتمع من المجتمعات. ولعل طرح إشكالية قدرة الجماعات الطائفية والإثنية والأهلية على وضع استراتيجيات لحكم العراق لا تجد سندًا علميًا لها، وذلك على الرغم من أن بعض الجهات، أو القوى الطائفية، أو الإثنية، قد تتصرف كرد فعل على ممارسات سياسية معينة، ولا يمكن اعتبار أن سلوكياتها أفضت إلى إفلاس العراق على مستوى بناء الدولة منذ البداية، وذلك لا يعني إنكار ما تقوم به القوى السياسية من توظيفات للطائفية والإثنية، وسواهما. وكان الأجدى بالمؤلف البحث في أسباب الفشل الكياني في العراق خارج الصندوق الثقافوي، وألا يحتكم إلى العاطفة والميول الذاتية، خاصة تجاه فترة حكم عبد الكريم قاسم، التي رأى أنها الفترة الوحيدة التي حاول فيها أحد حكّام العراق التوصل إلى تعاقد اجتماعي بين مختلف المكونات الاجتماعية في العراق، وذلك على الرغم من سلطويته، بينما انتقد المؤلف كل ما قام به القوميون، وخاصة عندما تناول التجارب الحزبية في العراق، مع التركيز على حزب البعث، وحزب الدعوة، والحزب الشيوعي العراقي، والميليشيات، وغيرها.
يبدأ المؤلف من عام 1921، حين احتل البريطانيون العراق، ونصبوا الملك فيصل الأول حاكمًا عليه. ويرى المؤلف أن مشروعه لبناء أمة عراقية قد فشل، لأن فكرة الأمة العراقية بقيت هلامية، بالنظر إلى أن النخبة الأقلية (السنيّة) التي كان فيصل جزءًا منها قد فشلت في بنائها. كما أن البنية الاجتماعية للدولة العراقية، وللمجتمع العراقي، حسبما تَصوّرها البريطانيون، كانت قائمة على الطائفية، حيث أرادوا بناء الدولة العراقية مع الأكثرية الشيعية، بناء على تصور الحاكم "برسي كوكس"، الذي اعتقد أن الشيعة المبعدين من السلطة والحكم، خلال العهد العثماني، سيتعاونون مع البريطانيين في تأسيس العراق الحديث، لكن الشيعة نظموا أنفسهم في حركة جهادية ضد المشروع البريطاني في العراق، في حين أن براغماتية السنّة والثقافة التي اكتسبوها في إدارة الدولة خلال فترة العثمانيين جعلتهم يفهمون أن العالم تغيّر، وانتهى عهد العثمانيين، وعليهم التحالف مع البريطانيين، الذين أبرموا عقدًا مع السنّة، التي يصفها المؤلف بـ"الأقلية المتغطرسة"، وينسب الوصف إلى الملك فيصل.
في جانب الأكراد (أو الكورد)، لم يُكتب النجاح لمحاولاتهم الجادة لتأسيس كيانهم المستقل بعيدًا عن دولة العراق العربية، "حيث قاموا بمحاولات جادة في ولاية الموصل بين عامي 1914 و1925، وبذلوا كل ما في وسعهم لاعتراض عملية إدراجهم ضمن الدولة العراقية العربية من أجل إقامة دولتهم المستقلة".
يرى المؤلف أن فشل فيصل في بناء دولة عراقية حديثة على غرار الدول الأوروبية يعود إلى أن البنيتين الاجتماعية والسياسية والنخب الاجتماعية والسياسية، كانت تقف على النقيض من مشروعه، ثم جاء دور عبد الكريم قاسم، الذي طرح مشروع "العراقية"، أي بناء أمة عراقية، وكان شعاره "العراق أولًا"، ما يعني أنه كان على نقيض فكرة بناء الأمة العربية. وقد فشل مشروع قاسم أيضًا، لأن الشروط الموضوعية في العراق لم تسمح لا للملك ولا لقاسم بالنجاح في بناء دولة عراقية.




يتوقف المؤلف مطولًا أمام علاقة الكورد القلقة بالدولة العراقية منذ 1958، مبينًا أن قواهم السياسية تفاءلت واحتفت بخطاب عبد الكريم قاسم "حول الوطنية العراقية، والأمة العراقية لا العربية"، وعزز لديهم الشعور بالتفاؤل ما جاء في المادة 3 من دستور الجمهورية العراقية الجديدة، التي تعد "العرب والكورد شركاء في هذا الوطن، ويقر هذا الدستور حقوقهم القومية ضمن الوحدة العراقية". وقد تفاءل أيضًا "الناهضون بالقومية الكوردية، الممثلون بالحزب الديمقراطي الكوردستاني، وعلى رأسه الملا مصطفى بارزاني"، وأبدوا رغبتهم في التعاون مع الجمهورية العراقية، لكن ذلك التفاؤل لم يستمر طويلًا، إذ بعد زيارة بارزاني إلى بغداد عام 1960، ولقائه مع عبد الكريم قاسم، اتضح له أن "الزعيم قاسم لم تكن لديه أي رغبة في التفاوض حول الحكم الذاتي السياسي والإداري لإقليم كوردستان. وبات الرجلان في مأزق تام".
المستغرب هو أن المؤلف يشيد بدور الملك فيصل في بناء دولة حديثة في العراق، ثم يرى أن عبد الكريم قاسم، الذي قاد انقلابًا دمويًا أعدم فيه حفيد الملك فيصل الثاني وعائلته، كان يسعى إلى بناء أمة عراقية بعيدًا عن الهيمنة، لكن حليفه في انقلاب 1958، عبد السلام عارف، انقلب عليه وأطاح به وقتله، لأن عارف ينحدر من "القومية العربية السنية"، التي أطاح بها حزب البعث "السني التوجه"، بقيادة أحمد حسن البكر، ومن بعده صدام حسين، الذي "استخدم عقيدة القومية العربية في سعيه لتحقيق أمة عربية سنية (تكريتية)، بينما مواقفه المتقلبة من القومية العربية تحولت إلى عدوانية ضد الشيعة والأكراد في العراق، ثم إلى مشروع عدواني ضد جيرانه العرب في الكويت والسعودية تحت مظلة حزب البعث التي اعتنقها".
يتناول المؤلف نظام صدام حسين التكريتي الديكتاتوري، مستعرضًا حروبه الداخلية والخارجية التي أنهكت العراق والعراقيين، عادًا أن نهاية نظامه في 2003 تزامنت مع نهاية فترة طويلة من التأريخ الاجتماعي والسياسي للدولة العراقية، بدأت مع عبد الكريم قاسم في عام 1958، وكانت "مليئة بالانقلابات العسكرية والحروب، وعلى وجه الخصوص المجازر الجماعية للشيعة والكورد". ثم يسهب الكاتب في البحث في تاريخ علاقة الكورد القلق مع جمهورية العراق منذ 1958.
بالانتقال إلى الأحزاب السياسية وأدوارها، يتناول المؤلف بشيء من الموضوعية دور الحزب الشيوعي العراقي، وخصوصًا خلال فترة حكم عبد الكريم قاسم، مظهرًا أن هذا الحزب لم يكتفِ بالمطالبة بحقوق المجموعات المهمشة العراقية، الكردية والشيعية والمسيحية، وغيرها، بل طالب كذلك بحق الأكراد بالاستقلال في دولتهم، وبالاستقلال التام للشعب العراقي عن مستعمريه الأجانب، ودعا إلى إعادة النظر في الأساس الذي وضعته الدولة البريطانية المستعمرة، والذي استبعد عددًا من الفئات العراقية. وكان كل من حزب الدعوة، وحزب البعث، من ألد أعداء الحزب الشيوعي العراقي، لأن القيادات الشيوعية كانت تستقطب أبناء الأكثرية الشيعية في البلد، الذين كان الحزبان يسعيان إلى استقطابهم بدعم خارجي.
لا يضيف المؤلف شيئًا حين يرى أن سبب الاحتلال الأجنبي بعد الغزو الأميركي للعراق في عام 2003 لم يكن بحجة القضاء على ديكتاتورية صدام حسين وامتلاكه الأسلحة النووية، بل كان جزءًا من خطة منظمة تبعت هجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001، وكي يلبي حاجة الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الابن لإلصاق التهمة بالنظام العراقي. وقد ساهم "بول بريمر" الذي كُلف بإنشاء أمة عراقية جديدة، في تدمير الدولة العراقية، حين اعتمد من أجل حلّ مشكلة المكونات العراقية المختلفة على دولة القهر بالقوة بعد غزو العراق، ولم يبذل جهودًا من أجل تحقيق الانتماء الطوعي إلى الأمة العراقية. وأفضت قراراته القاضية باجتثاث البعث وحل الجيش العراقي إلى كارثة على العراق والعراقيين.
غير أن تلك القرارات لم تصدر عن جهل، بل عن نية مبيّتة وسيئة لتدمير العراق والعراقيين، حيث أفضت تلك القرارات الأميركية إلى تسريح أكثر من أربعمئة ألف عنصر عسكري عراقي، وحولتهم إلى فقراء مهمشين ومعرضين للجوع، الأمر الذي دفع قسمًا منهم إلى الانتساب إلى المجموعات الإرهابية. وهذا يدحض منطلق المؤلف الذي يقرأ كل شيء بناء على الانقسام الطائفي والإثني بين العراقيين، على الرغم من إدراكه وجود عوامل أخرى لعبت الدور الرئيس في إفشال الدولة العراقية من دون أن يجري إغفال العوامل الاجتماعية الداخلية، حيث أن الطائفية في العراق لها امتدادات في الأرض، ولها كذلك حدود ضمن طبقات اجتماعية وسياسية وعلاقات وقوى دولية تغذيها، وتقف حائلًا أمام تحقيق حلم بناء دولة المواطنة المتساوية والفضاء المشترك الذي يتسع للجميع. ولعل صورة العراق الذي تتحكم به الميليشيات والقوى السياسية الطائفية بعد 2003 تظهر أن الاحتلال الأميركي دمّر كل شيء، وأفضى إلى نهب الدولة واستشراء الفساد المحسوبيات، والقضاء على مشاريع بناء الدولة والأمة في العراق، وذلك بعد أن جرى التحويل الرسمي لمختلف البنى السياسية والاجتماعية والثقافية إلى بنى طائفية تسيطر عليها قوى تدين بالولاء إما للإيرانيين، أو الأميركيين، أو سواهما.
أخيرًا، قاد المنهج الذي اعتمده المؤلف في الكتاب إلى الرهان على الأميركيين في تحسن الأوضاع في العراق، حين رأى أن "وصول الرئيس جو بايدن إلى البيت الأبيض، ورغبته في تهدئة العلاقات بين الولايات المتحدة الأميركية والجمهورية الإسلامية في إيران... قد يأتي بتداعيات إيجابية على المدى المتوسط بالنسبة إلى الساحة العراقية، ومن شأن هذه التهدئة أن تتيح السيطرة بشكل أفضل على الميليشيات، والحدّ من الاغتيالات السياسية... وتخفيف حدة التصلب في تناسب القوى، وتقليص الحرب بالوكالة على الأراضي العراقية". وهو تمن بعيد التحقق، ولا مكان له سوى في الأحلام.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.