}
عروض

"رحلة من الجنوب": ما بين الأسئلة والأجوبة

بشير البكر

3 أبريل 2024


تعدّ تجربة حسن أوريد مختلفة عن بقية الكتاب المغاربة. فهو الوحيد من بينهم عاش تجربة الحياة داخل بيت الملكية. وفي عام 1977، اختاره الحظ ليمضي سنوات طويلة إلى جانب الملك محمد السادس. حيث درس معه، برفقة عدد محدود من الطلبة المتفوقين (11 طالبًا)، في المدرسة المولوية داخل القصر الملكي في الرباط. أمضى هناك مراحل الابتدائية والإعدادية والثانوية، وحتى الجامعية، وذلك وفق تقليد ملكي، يتم بمقتضاه اختيار أكثر الطلبة تفوقًا في جيل الأمراء والأميرات، من أبناء وبنات الملك وأمراء وأميرات العائلة الملكية، ليتلقوا تعليمهم الرسمي في هذه المدرسة الداخلية التي أسسها الملك محمد الخامس عام 1942. يدرس فيها نخبة من الأساتذة المتمكنين، وضمن شروط من الانضباط الصارم، بما يتجاوز مدارس الدولة العادية.

حين تسلم الملك محمد السادس العرش، بعد رحيل والده الحسن الثاني في يوليو/ تموز 1999، عيّن مجموعة من الزملاء الذين درسوا معه في مواقع رسمية. بعض أولئك لا يزال يتولى مهام سامية، مثل المستشار فؤاد عالي الهمة. وفي تلك الفترة التي تم فيها نقل المسؤوليات من الأب الراحل إلى الابن ولي العهد، تولى أوريد مهمة الناطق الرسمي باسم القصر الملكي. وكانت تلك المرة الأولى في تاريخ الملكية في المغرب، التي يتم فيها استحداث هذه الوظيفة. هذا ما جعل الرأي العام ينظر إلى الخطوة على أنها إشارة مهمة من طرف الملك الشاب إلى تغيير في الأسلوب، عما درجت عليه ولاية والده، الذي قاد المملكة منذ عام 1961 قرابة 38 عامًا في ظل ظروف وتحولات، داخلية وخارجية، كانت تتطلب قدرًا كبيرًا من مركزة الحكم، خاصة وأنه تعرض لأكثر من محاولة انقلاب، وواجه معارضة سياسية تحوز درجة كبيرة من الالتفاف الشعبي. وحتى رحيله، كان الحسن الثاني هو المرجع الوحيد، فيما يخص المواقف التي تصدر حسب درجة الأهمية من القصر الملكي، أو من قبل رئيس الحكومة وبعض الوزراء. ولم تكن مهمة الناطق الرسمي متعارفًا عليها. وحينما أطل أوريد بهذه الصفة، اعتبر المغاربة أنها ليست بلا حمولة رمزية.

بقي أوريد ناطقًا رسميًا حتى عام 2005، ومن ثم جرى تعيينه واليًا على مدينة مكناس. وبعد حوالي أربعة أعوام من ذلك تم إعفاؤه، وتسميته عام 2009 المؤرخ الرسمي للمملكة، ولم يمكث أكثر من عامين، حتى استقال من تلقاء نفسه، ليكرس أغلب وقته للكتابة. وأصدر حتى الآن أكثر من سبع روايات، وأربعة دواوين شعر، وعدة كتب في الفكر والترجمة، كما أنه حاضر في الكتابة للصحافة، ويشارك في ندوات داخل وخارج المغرب. وهو ما جعل بعض النقاد يعدونه كاتبًا غزير الإنتاج بالقياس إلى عمر تجربته في هذا الميدان، ومتعدد الاهتمامات، التي تجاوزت حدود تكوينه الأكاديمي. ويعترف في أحد أحاديثه بأنه شخصية قلقة، مسكونة بالسؤال؛ ولذلك ينقل جزءًا ممّا يعتمل في ذهنه إلى المكتوب، ويعتبر هذه العملية نوعًا من الترويح، أو ما يسمّى، في العلوم النفسية بـ"التطهير النفسي" في أصلها الإغريقي. ويقول "أعتقد أن ما نحتاجه، في مجتمعاتنا، هو السعي للفهم. الفهم متعة كما يقول سبينوزا".

روايته الأخيرة، التي صدرت عن المركز الثقافي العربي في الدار البيضاء، تعود في نصها المكتوب إلى عام 1985. ولكنها تندرج ضمن مشروع غير منقطع، يقوم على أن النص عبارة عن سلسلة تحرر الكاتب ولا تكبله، لأنه مكون من حلقات، وكل منها لحظة تفكير عميق. ذلك أنه يطمح في عموم كتاباته الروائية للوصول إلى ما يسمّيه الفيلسوف الفرنسي فرانسوا ليوتار بالسرديات الكبرى، أي مرجعية سياسية وفكرية ناظمة. وفي حديث له يرى أن غياب سرد كبير، أو مرجعية فكرية وسياسية، أدَّيا إلى ضمور دور المثقَّف.

بعض النقاد يرون أن هذه الرواية بعنوان "رحلة في الجنوب" هي بمثابة عودة إلى عمله "رواء مكة"، الذي لا يعده رواية، بل رحلة وجدانية، ويقوم منطق المقارنة على أن الرحلة تولد نوعًا من الصدمة، التي تقود من الشك لليقين، أو "من الأَكوان إلى المُكوّن"، حيث يكشف لمعشر القراء ولنفسه على نحو أدق "كل شيء ينبغي أن يقودنا للتفكير في الشأن الديني"، كما عبّر عن ذلك في "رحلة من الجنوب" على لسان شخصية عبد الله بوحميدي. الرحلة من الجنوب هي حركة عبر الأمكنة وعبر الأزمنة بالتحديد، ذهابًا وإيابًا. وحسب صيغة الكاتب، كانت ضرورية من أجل أن يحوز عبد الله على وعي مستقل، يسترجع من خلاله السكينة وينزع الاعتراف. ويعترف أوريد أن هذه الرواية رحلة تجمع بين العوالم الجوانية للذات فيما بينها، وبين المحيط، على أسس عقلية لا تخلو من نزعات ماركسية وقومية ومن زخم معرفي وفكري (حكم المتنبي، عقلانية أبي حيان التوحيدي، ولزوميات المعري، وفكر الأنوار لطه حسين، وغيرهم من المفكرين والفلاسفة). ويقول إن الهدف من كتابتها هو استيعاب مضامين السيرة الروائية المثيرة للجدل "رَواءُ مكة"، التجربة التي أعادته إلى نبع الإيمان الصافي بعد المرور بمرحلة الشك. ومن الواضح أن الصدمة لم تخلخل الموروث فحسب، بل زعزعت القناعات. ويظهر ذلك في الحوار الذي جرى بين عبد الله وبين أستاذ الفلسفة "بلعيد"، عند عودته الاضطرارية إليه لاستفساره عن قلقه المعرفي الوجودي، بعد أن عشعش في كيانه الشك، وطارده في اليقظة والحلم. وهنا يبدو أن الكاتب فرغ من هذا العمل في منتصف الثمانينيات، ومن ثم نسيه لكي يعود إليه بنظرة أخرى، غير منقطعة عن مساره ككاتب وكائن في تحولاته وتطوره من شأن إلى شأن، تبعا لما تطرحه الحياة من أسئلة وجودية، وتقدمه الرحلة من كشوفات ومعارف وتجارب. 

يلجأ أوريد إلى الاتكاء على التاريخ، وهو يتحسس من وصف روايته بالتاريخية، في وقت يوظف الحاضر في أعماله وليس التاريخ. وحتى لو كانت السمة الطاغية في أعماله، فليس هناك ما يمنع من توظيف التاريخ، لأن الرواية التاريخية ليست تاريخًا، بل هي رواية، وينبغي أن تُقرأ على أنها رواية. وعلى سبيل المثال طرح في رواية "الموريسكي" قضية المثقف والسلطة، وصدام الحضارات، ويرى في ذلك قضايا فكرية تحتم الضرورة طرحها في مجتمعات تعيش وضعًا انتقاليًا، و"يتعيَّن أن نفكِّر في الواقع، ونجري نظرة نقدية على الماضي كي نستطيع أن نبني المستقبل. لا أكتب من أجل الإمتاع والمؤانسة"، بل لإحداث الصدمة والهجوم المباشر أحيانًا على شخصيات معروفة، وذات دور في تشكيل التفكير، كما هي الحال مع رواية "الموتشو" التي صدرت عن دار "المتوسط"، وفيها يصف المفكر المغربي المعروف عبد الله العروي بأنه إناء فارغ لم يعد يقول شيئًا. وهي تتطرق إلى الربيع العربي وتداعياته في المنطقة، من خلال شخصيات كانت شاهدة على تحولات العالم العربي، بدءًا من حلم الوحدة، إلى الانكسارات المتتالية، وصولًا إلى الربيع، وصعود الأصولية، والتطبيع مع إسرائيل. 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.