}
قراءات

الشخصيّة في السرد مابعد الحداثي: "ورّاق الحب" ورسالة اللاشكل

فدوى العبود

30 أبريل 2024


يبدو من الصعب العثور على سمات محددة للمرحلة التي يطلق عليها ما بعد الحداثة، ولكن يمكن الاتفاق على أنها تعني الشك في العقل والقيم والشخصية الإنسانية.

لقد آمنت الحداثة بالتطور البشري عن طريق العلم، وأن التاريخ يتحرك للأمام، لكن نزعة ما بعد الحداثة وفي هذا السياق بالذات ترى عكس ذلك. وتعتبر السخريّة والتفكيك ونقد الخطاب الثقافي عناصر أساسية في هذه الحركة الفكريّة والفنية والأدبية.

وبالنسبة للأدب على تنوعه من رواية وقصة ومسرح، سنجد تحولًا جذريًا في مفهوم الزمان وفهم الشخصية التي صار لها وجود شبحي وغير يقيني، فهي صنيعة الثقافة والظروف لا صانعها، والبطل ليس مركز النص بل نقطة تضيع في بنية السياق السرديّ أو الخطاب أو الشكل الجمالي. وفي هذا السياق تقوم رواية "ورّاق الحب" (2005) للروائي السوري خليل صويلح على غياب البطل فالراوي لا يعدو أكثر من مقتفي الأثر الذي يلاحق سرديــّات الحب في عملية أشبه بالمونتاج الذي يريد أن يقول شيئًا مفترضًا شراكة القارئ ومقدرته على فكِّ الرموز لتصبح العملية السردية مشاركة بالتساوي بين (المؤلف، الراوي، القارئ).

يقوم البناء الفني للرواية على استحضار نصوص الحب والتعالق بين الواقعي (حياة الراوي) والتخيّلي (ما يرغب فيه)، وهي تقوم على أعمال روائية وتاريخية ومدونات سردية تدور حول الكتابة وآلياتها وأسرارها.

ومنذ اللحظات الأولى يقرر المؤلف تحجيم دور الراوي "سوف أقرر منذ هذا السطر أن أروي ما سوف يجري على لسان الراوي، كنوع من السيرة الذاتية" (ص 8).

فالمؤلف يراوغ ويتلاعب بسلطة القارئ عن طريق الإيهام والتشتيت والتهكم والجذب، فيصبح النص أقرب إلى لعبة تتجاور فيها النصوص وتثير الأسئلة عن الحدود بين التخيّيل والواقع، ومدى التطابق بين الراوي والمؤلف الذي يزج بنفسّه في العمل مُعقبًّا ومنوِّهـًا وكأنـّه أحد الشخوص، ما يعتبره البعض "من جماليّات الكتابة ما بعد الحداثيّة"، وهي لا تبدأ من الصفر (رولان بارت)، كما أنها تقترب من العمل الصحافي التوثيقي (أومبرتو إيكو). يضاف لذلك أنها تقوم على نصوص حكائيّه وروائية، وتعرض آليات عمل المخيلة أثناء بناء حكاية. 

ويصف البعض هذه الكتابات التي تسمى الميتاسرد بالكتابة ذاتية الانعكاس التي ينعطف فيها الكاتب على نصه ويتأمل فيه؛ هذا وتمتد نصوص الآخرين (ماركيز، كونديرا، ابن عربي، الشيرازي، بورخيس، أوفيد، القزويني، الجاحظ، ابن حزم، ساعي بريد نيرودا) إلى جانب التخييّل على  مساحة الرواية وفلسفة هذا المعمار الروائي تقوم على البناء والهدم المستمرين ونفي (البداية الواحدة- التأويل الواحد للحكاية- والمحبوبة الواحدة- الراوي الواحد) لتقويض فكرة الحقيقة في الحب، والبرهنة أنها شأنها شأن أي حقيقة أخرى حالة لغويـّة. أي أن الشكل بحدِّ ذاته رسالة تريد أن توصل شيئًا، ويتّسم هذا النوع بأن المؤلف يزج بنفسه في النص فلا يعود مجرد مؤلف لنصه بل يتحول إلى شخصية ورقيّة وقد يحوّل الأخيرة إلى شخصية واقعية؛ من خلال لعبة الأسماء والتشابهات؛ حدّ تضليل القارئ الذي يفقد الحدود بين ما يمكن أن ينسبه للتخيّيل وما ينتمي للواقع؛ فالمؤلف في هذا النوع من الكتابة يكشف للقارئ شواغل الكتابة ويصارحه بنواياه، ويطلعه على خطواته وأفكاره وأعمق رغباته. وتستخدم الرواية في هذا النوع من السرد تقنيات متعددة كالتّناص، وتعدّد الرواة، وتدخّل المؤلف وتغيير السارد بين حدث وآخر.

إن الهدم والبناء، نموذجٌ دقيقٌ عن السرد الجديد، والسؤال الذي طرحه غيرهارت هوفمان حول "تعددّية الرموز" في تقنية الميتاقص يستدعي وبقوة فكرة الأصالة والقدرة على تحويل خلائط مواد تبدو ظاهريًا متنافرة في بنية الخطاب السردي، فالمهم لا ما يروى إنما الطريقة التي يروى بها.

وقبل أن ندرس الدلالة الجماليّة لاجتماع هذه الرموز والخلائط؛ وكيف أدت وظيفتها في هذا السياق؟ سنتوقف عند الراوي:

الراوي هنا يتماهى في قصدية متضادّة مع المؤلف، فما يرومه المؤلف هو كتابة مخطوط عن الحب؛ وهي ضمن نصه الروائي تبدو كرواية داخل رواية - وهذه تقنية تحقق الإيحاء بمصداقية العمل، وتساعد على انهمام القارئ في اللعبة السردية؛ لكن هذا التماهي هو ظاهري فقط بل يمكن تمييز أحدهما عن الآخر – كما سنبين بعد قليل- فالأول – ونقصد الراوي- يتسم بطابع رومانسي بينما الثاني – المؤلف- يتدخل لنسف هذه الرومانسية.


وهنا نلاحظ مسألتين:

يبدو المؤلف محاورًا للنصوص ومعلقًا عليها ومخاطبًا القارئ بشكل ضمني كاشفًا أسرار لعبة السرد. ويحاول أن يعطّل عمل الراوي، فالمؤلف أشبه بمهندس أو مصمّم لعبة يدير مكوناتها ويرينا كيف يقوم بذلك. فتقترب الرواية من اللعب الذي يشكّل إلى جانب "المحاكاة الساخرة، والمعارضة الأدبية، والتعددية، دعائم الأسلوب ما بعد الحداثي أو حساسية ما بعد الحدث، مثلما يفعل الانفتاح أو عدم التحديد". كما أن الراوي يحاول سرد حكاياته التي تتقوض فالسخرية من الذات تقضي على الحقيقة التي يحاول أن يبرزها.

المسألة الأخرى هي: بناء سيرة متخيّلة للواقع، هدفها بلبلة الحدود (عمل السارد ووظيفته؟، الشخصيات التي تتأرجح بين الواقعية أو الورقية، أيضا لعبة الواقع والحلم، وهي تقنية تنتمي إلى تقنية الميتاقص).

إن هذا الحشد من النصيات التراثية والحكايات الواقعية يطرح سؤالًا عن هذه الخلائط في سياق ثقافي معاصر وكيف أدت وظيفتها فيه؟

تكشف المجاورة بين نصوص أعلام الحب العذري ومقابلتها بنصيّات الحب الحسيّ عن منزع بارادوي متمثل في السخرية ووضع المتقابلات في سياق جديد يؤدي إلى عقد محاورة ضمنية بين النصوص لصالح الأخيرة عبر النقد أو التعليق فالروايات الرومانسية "أشياء يفعلها المرء مرة واحدة في حياته مثل لقاح شلل الأطفال أو السل" (ص 78).

- المقابلة اللغوية عبر تغيير السياق حيث توضع عبارة رومانسية في سياق كوميدي: "فأغلقت الباب وراءها، وأنا أجرجر أذيال الخيبة كما لو كنت خارجا للتو من تحت ظلال زيزفون المنفلوطي" (ص 34).

- تعمل السخرية على نسف ميتافيزيقا الحب والشعر الرومانسي ونصوصه عبر وباستخدام التجاور Juxtaposition والمفارقة والتناقض والتوازي والتضمين والمجاز، وهي جماليات توفرها تقنية "ما وراء القص" حيث نكون – بتعبير ليندا هتشيون- أمام "رواية عن الرواية، أي الرواية التي تتضمن تعليقًا على سردها وهويتها".

إن – ما وراء القص- ليست التقنية الوحيدة، والتحليل الأدبي يظهر في العلاقة بين الراوي الذي يتخيل والمؤلف الذي يفعِّل الوعي النقدي ويظهر الأخير: من خلال التعليقات على آليات العمل الروائي، ودروس كبار الكتاب حول الرواية (ميلان كونديرا وإيزابيل الليندي وغابرييل غارسيا ماركيز وأمين معلوف) أو عبر السخرية من كليشيهات الكتابة العربية الكلاسيكية والهزء من الذات الكاتبة وأوهامها أثناء الكتابة. فالأول -أي الراوي- يبني بينما الآخر- المؤلف- يهدم.

وكمثال على الوعي النقدي يأتي استدعاء مشهد دون ريغوبيرتو (من رواية "امتداح الخالة") وهو يقوم في الحمام بتنظيف أذنيه (إشارة للبطل النرجسي الذي تخلى عن أوهام القضايا الكبرى) وتتحقق الدلالة في التناص ووصف سهرات الشبان النضالية بعد هزيمة 1982 "وسهرات جماعية صاخبة تفوح منها رائحة التبغ والخمور والجنس" (ص 48).

والسارد هنا لا يعدو كونه علامة تشير للنصوص، فهو ليس أكثر من محلّل ومعلّق ساخر يعمل من خلال (معارضة فكرة بفكرة) وتقويض ما استقرّ في الأذهان، أما القارئ فمطلوب منه أن يجاري المؤلف في اللعب.

إن التجاور والتحاور- من فضائل ما بعد الحداثة- يضعانا أمام رواية بلا حبكة تقليدية. ويتغير الواقع لحظة كتابته. وإن فلسفة اللاشكل رسالة تمرد على الرقيب، عبر إدخال الفوضى وبعملية تقترب من اللهو، ولا تسمح باستخلاص أي مضمون. ولا بد أن ما وراء القص يساعد في هذا الخصوص. فهو بحسب ماك كافري "تلك الكتابات التي تختبر الأنظمة الروائية وكيفية ابتداعها، والأسلوب الذي تم توظيفه لتشكيل وتصفية الواقع بوساطة الافتراضات السردية والاتفاقيات".

ويمكننا أن نعثر في الميل إلى– اللاشكل - أفضل تعبير عن المضمون؛ ولأن النقد يجاري النص السردي في اللعب فقد آثرنا ترك القراءة الدلاليّة لعنوان "ورّاق الحب" للسطور الأخيرة لكونه يحمل في مضمونه نقيضه وهو هنا: يكشف مأزق النص الرومانسي و(الارتياب العميق الذي تحمله ما بعد الحداثة تجاه كل ميتافيزيقا أو بطولة).

إحالات:

- حسن، ايهاب، تحولات الخطاب النقدي لما بعد الحداثة، ت: السيد إمام، العراق، دار شهريار.

- أبو رحمة، أماني، نحو ما بعد الحداثة: ملامح الجماليات القادمة، عمان نت، 31-1-2016، الجزء الثاني. 

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.