}
عروض

"صمت البحر": عن المقاومة بالصمت

عزيز تبسي

10 مايو 2024


بعد عملية عسكرية واسعة، شملت هولندا وبلجيكا ولوكسمبورغ، احتلت القوات النازية الألمانية في أيار/ مايو 1940 القسم الشمالي والغربي من فرنسا، واحتل حليفها جيش الفاشية الإيطالية قسمًا صغيرًا في الجنوب الغربي، وحكم ما تبقى منها الجنرال فيليب بيتان، وأسس حكومة موالية للاحتلال عرفت بحكومة فيشي. وبقيت فرنسا تحت الاحتلال النازي وحليفه الفرنسي، حتى دحرهما الإنزال العسكري للحلفاء في النورماندي عام 1944.
كتب فيركور رواية "صمت البحر" عام 1941 وهو مريض، وألزم نفسه كتابة صفحتين كل يوم، كوسيلة استطباب ذاتي، علها تعينه على تسكين أوجاعه البدنية، وتنشيط قدراته الذهنية.
اختار لها شخصيتين فرنسيتين، العم العجوز وابنة أخيه الشابة، اللذين يعيشان في بيتهما الريفي برتابة وهدوء، والضابط الألماني فرنر فون أبرناك، تاركًا للقارئ فسحة للتخيل والاستنتاج، لماذا الشابة يتيمة الأبوين، ولماذا العم بلا زوجة وأولاد.
وضع سرد الأحداث على لسان العم، الذي أغفل اسمه كما اسم ابنة أخيه، كأنما للشعوب اسم واحد يبقى مغفلًا، طالما هي تحت الاحتلال، يستعاض عنه بفعلها المقاوم.
تركهما في بيتهما يتابعان بصمت التحول الذي فرضه عليهما احتلال ضابط نازي لإحدى غرف البيت، واقتحامه أمسياتهما الباردة قرب المدفأة. كان كافيًا لـ فيركور تأكيد الاحتلال بإدخال الضابط الى بيتهما، بما يحمله البيت من رمزية كوطن صغير للأسرة. أصرا على صمتهما، ولم يستجيبا لتحيته المسائية التي أصر عليها في كل حضور، كما في تحية الوداع التي يتمنى فيها لهما "ليلة سعيدة". لم يستجيبا للحوار، الذي ظهر كتداع طويل لضابط يخدم في الجيش النازي، بأفكار لا نازية. فلم يسبغ على الضابط الألماني السمات النمطية للضباط النازيين التي تظهر تعاليهم القومي، وجلافتهم وقسوتهم، وإنما قدمه كضابط وديع، مثقف، دارس للموسيقى، وعازف للبيانو.
ينتمي الضابط الى أسرة عسكرية، أوصى والده العسكري قبل وفاته بدخوله مع أخيه الى الجيش، رغم دراستهما الجامعية للآداب والموسيقى، الذي أهلهما للتعرف على الثقافة الفرنسية، والإعجاب بها قبل دخولهما فرنسا كضابطين في جيش احتلال. عرف فرنر فون أبرناك موقع الثقافة في الحوار بين الشعوب، وتحدث وهو ينظر الى أغلفة الكتب المصفوفة على أرفف مكتبة الصالة عن بلزاك، وفولتير، وفلوبير، وهوغو... ليؤكد على تعريف الشعوب بكتابها، إنكلترا شكسبير، وإيطاليا دانتي، وإسبانيا سرفانتس... وألمانيا غوته... "رغم ذلك تطاحنا"، ويبلغهما قناعته التي تسير في مسرى أمنياته "أن هذه ستكون الحرب الأخيرة... لن نشتبك بعد الآن، وإنما سنتزوج". عاش الضابط شرطه التناقضي، بين كونه ممثلًا لاحتلال مرفوض من العم وابنة أخيه، وبين قناعته العميقة بضرورة الحوار للخروج من هذا المأزق، مع صاحبي بيت ـ وطن أصرا على الصمت، بعد أن فرض عليهما شرطًا غير حواري "علينا أن نقهر هذا الصمت، علينا أن نقهر صمت فرنسا، هذا شيء يملأ نفسي بالرضى". لكن هذا لم يمنعه من إظهار احتقاره لقرية سان كنت، التي استقبلت الجيش النازي من دون مقاومة... وحرص بعد لقائهم الأول الذي صادف أن ارتدى فيه زيه العسكري الكامل، أن يحضر أمسيتهما بلباسه المدني... عله بهذا يؤكد على المساواة الظاهرية بينهم، ليحفزهما على تبادل حوار... لم يتم.



لا بأحاديثه الطويلة عن احترامه للكتاب الفرنسيين، ولا عن رواية "الحسناء والوحش"، التي أعجب بها في فتوته وشبابه، محاولًا بذلك إيجاد إسقاط على الشرط الحاضر الذي جمعهم، ليؤكد على دور الحسناء في ترويض الوحش، واستنهاض الحب في داخله، ولا قراءته صفحات من مسرحية "ماكبث" لشكسبير حملها معه من غرفته، عن مكاشفات ماكبث لمعاونيه عن أهوال جرائمه، وعن حجم ألقابه التي باتت أكبر منه. تتابعت الأمسيات بكلام الضابط فرنر عن أمنياته في التعايش كمقدمة للانصهار، إلى الأمسية التي أبلغهما فيها بأنه سيغيب لأسبوعين في زيارة لباريس للقاء أصدقائه، الذين وفدوا اليها لإجراء مفاوضات مع السياسيين الفرنسيين، تهيئة للاتحاد بين الشعبين.
لم يلتقيهما بعد عودته من باريس، شعرا بحركته في الغرفة التي خصصت له، واستمر على عزلته لأكثر من أسبوع قبل أن يلتقيهما، وهو بكامل لباسه العسكري، ليبلغهما: "كل ما قلته في الأشهر الستة الماضية يجب نسيانه"؛ "لقد التقيت القوم المنتصرين، تحدثت إليهم وسخروا مني. قالوا لي: إن السياسة ليست حلم شاعر"؛ "إن الفرصة أمامنا للقضاء على فرنسا، وسنقضي عليها، لا على قوتها فقط، بل على روحها، سنغرر بها بالابتسامات والملاطفات، لنجعل منها كلبة زاحفة".
حدثهما عن أخيه الشاعر الذي التقاه في باريس، ولمس مدى التغيير على قناعاته، وانحيازه التام للقوة.
"ليس هناك أمل"- أبلغهما في الختام عن موافقة قيادته على طلبه الالتحاق بالجبهة الشرقية، حيث تتغذى حقول الحنطة على جثث المقتولين.
لا تدعو الرواية للصمت، ولم تروج لهذا النمط من المقاومة السلبية، وإنما رصدت حالة فريدة منها. وقد كتبها فيركور في السياق الكفاحي للشعب الفرنسي وانقسامه في آن، حيث وضع اليقين بالانتصار وحتمية انتصار الشعوب، في اختبار ميداني لإثبات صدقه التاريخي.
لم يؤسس سرده على الكراهية والحقد، ولم يغرقه بدماء الحرب وجثث القتلى، لقناعته أن الحرب زمن أسود عابر في تاريخ الشعوب، وآثر التفكير بالحياة الجديدة، التي ستلي اندحار الاحتلال وخروجه.
ولم يكتب فيركور الرواية بعد اندحار الاحتلال، ليعيد قراءة ماضي الاحتلال والكفاح المواكب له، بدلالة حاضر هزيمته. وصف واقعة مقاومة لا بد منها، بلا استنباط عَجول لمآلاتها، والانزلاق إلى مهارات قراء الطالع التاريخي، من عرافين وكوكبيين، تنسب عنوة الى حتمية انتصار الشعوب، حيث يوضع الكفاح التحرري في سياقه التاريخي، فلا المقاومة السلبية ولا الإيجابية هما من حررتا فرنسا من الاحتلال، وإنما الإنزال العسكري الهائل للحلفاء على شواطئ النورماندي، وقصف طائراتهم المتواصل لتجمعات قوات الجيش النازي.

الروائي جان مارسيل برولير اتخذ لنفسه الاسم الأدبي فيركور

انحاز الروائي جان مارسيل برولير، الذي اختار لنفسه اسم فيركور، وهو اسم بلدة من الريف الفرنسي، للمقاومة الفرنسية، وكافح في صفوفها، وأسس مع صديقيه دار نشر (منتصف الليل) لطباعة ونشر الكتب. ينحدر الروائي من أصول هنغارية، وفي هذا سانحة للسخرية من صراع الهويات، بوصفها الوكالة الحصرية لإنتاج خطابات الكراهية والانحطاط الإنساني. تلك الأصول لم تحل دون انتمائه مع آلاف من الأفارقة والجزائريين لطلائع المقاومة الفرنسية، حيث اعتقل وقتل المئات منهم على أرضها، رغم أن بعضهم كانت بلاده تحت الاحتلال الفرنسي.
انتمى إلى الحزب الشيوعي، ولنقل للفكر الثوري، كونه لم يحمل البطاقات الحزبية، بل خالف رأي حزبه، وانتقد التدخل العسكري السوفياتي في هنغاريا عام 1956. وقبل أن يرمي بطاقته الحزبية، وقف ظهيرًا للكفاح الوطني التحرري للشعب الجزائري، رافضًا وسامًا من الدولة الفرنسية المحتلة، ليؤكد بالممارسة أن معركة التحرر واحدة على كل هذه الأرض.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.