}
عروض

عن التدرّع البشري في أنماطه المختلفة

عمر كوش

17 مايو 2024


نشأت ظاهرة التترس البشري بالارتباط مع الحروب والغزوات، حيث شاع استخدام المدنيين، وخاصة الأسرى والرهائن، كعوازل بشرية في الغزوات والحروب القديمة والحديثة. ولم تقتصر الظاهرة على حضارة، أو على شعب، بعينه، إنما كانت ظاهرة عامة. فقد استخدم التترس، على سبيل المثال، في الحروب التي شنها الصينيون في القرن السابع على القبائل المغولية والتركية، واستخدمه المغول في غزواتهم، وكذلك فعل الصليبيون بأسراهم المسلمين في العصور الوسطى. أما الدرع البشري، الذي يمتلك معنى التترس البشري نفسه، فإن كلًا من نيف غوردون، ونيكولا بيروجيني، يريان في كتابهما المشترك "الدروع البشرية: تاريخ بشر على خط النار" (ترجمة محمود محمد الحرثاني، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، 2024) أنه لم يظهر كمصطلح في المجال التداولي إلا بعد الحرب العالمية الثانية.
تشترك الدروع البشرية مع التترس في المعنى نفسه، لكن أشكالها تعددت وتنوعت في العصر الحديث، حيث يمكن التمييز بين نوعين من الدروع البشرية، أولها الدروع الإجبارية، أو القسرية، التي يُستخدم فيها المدنيون دروعًا بشرية في الحروب رغمًا عن إرادتهم، حين يجبرون على أن يصبحوا عوازل. والثاني الدروع البشرية الطوعية، تلك التي يخاطر فيها شخص، أو مجموعة من الأشخاص، بحياتهم من أجل حماية شخص، أو أشخاص، أو أشياء، تتعرض للهجوم. وهنا يكون التترس فعل مقاومة، ليس ضد استخدام العنف فقط، بل ضد الأعراف الاجتماعية القمعية، ويطاول هذا الفعل جملة الأشخاص الذين يضعون حياتهم في مرمى النيران، بمحض إرادتهم، بغية تعزيز قضية يعتبرونها أخلاقية وإنسانية. ومع اجتراح المهاتما غاندي فكرة التترس البشري كأداة مقاومة سلمية للمستعمر، بات من الممكن أن يكون التترس البشري سلاح سلام، مثلما يمكن أن يكون سلاح حرب، وبالتالي باتت الدروع البشرية تجسد مستودعًا تتجلى فيه علاقات اجتماعية وأخلاقية متباينة ومتنوعة. كما يجسد تاريخها تاريخًا لجسد الإنسان، وللكيفية التي استنفر فيها من أجل تعزيز كل أشكال الهيمنة والمقاومة، حيث يحفل هذا التاريخ ليس فقط بحالات خضوع البشر لمعاملة قاسية غير إنسانية، بل اتسم كذلك بحالات تتجلى بشجاعة هائلة، مثل مخاطرة ناشطين بحياتهم من أجل إنقاذ حياة آخرين.
تكمن أهمية هذا الكتاب ليس في تناوله العلمي الدقيق لهذه الظاهرة، بل في تحليله كمًا كبيرًا من الأحداث والقضايا التاريخية ذات الصلة بالموضوع المدروس، وتوضيح هوية من قاموا بإجبار الناس المدنيين على التترس، وأسباب اختيارهم من دون سواهم، مع توضيح الأنواع المختلفة من التترس التي اعتمدت مع مرور الزمن وتطور الحروب والأسلحة، وتبيان كيفية تصوير رجال السياسة الدروع البشرية، وأنواع العمل السياسي والقانون الذي اضطلعت به الدروع البشرية.
لا يتردد المؤلفان في تفنيد الادعاء العنصري، الذي عملت على تسويقه أطراف مهيمنة في دول الغرب، خلال محاولتها إشاعة أن العرب "يتخذون من نسائهم وأطفالهم دروعًا بشرية" بشكل واسع، فالولايات المتحدة أرادت التذرع بالدروع البشرية من أجل تبرير عنفها المفرط ضد المدنيين في الحرب التي تشنها على ما تسميه الإرهاب في اليمن، والصومال، والعراق، وأفغانستان، وسواها. وعلى سبيل المثال، انهمك المحللون العسكريون الأميركيون في تقاريرهم، خلال هجوم البحرية الأميركية على مجمّع للقاعدة في جنوب اليمن قُتل فيه عشرة نساء وأطفال، بتحديد ما إذا كان الإرهابيون يتّخذون النساء والأطفال دروعًا بشرية أم لا، وكأنهم كانوا يمهّدون لتبرير قتل المدنيين. ويرى المؤلفان أن اتهام العرب بالتترس يتأثر بتغير النظرة التاريخية بشأن مَن يُعدّ إنسانًا، ومن لا يعد كذلك في معيار سياسة الهيمنة الدولية، إذ بعد الإقرار ببشرية العرب بعد استقلال دولهم عن الاستعمار، أصبحوا جزءًا من عائلة الأمم، وباتوا مهيَّئين لأن يكونوا دروعًا بشرية، كي يتم التنصل من إنسانيتهم، والاستمرار في اعتبارهم برابرة، مثلما كان يفعل المستعمَرون القدماء.
يبدأ الكتاب من تقصي استخدام أسرى الحروب دروعًا بشرية خلال الحرب الأهلية الأميركية، ثم يقوم بمراجعة للحرب الفرنسية الألمانية التي اندلعت عام 1870، ورأى فيها أن توثيق وجهاء فرنسيين إلى القطارات الألمانية أمر قانوني، لأنها كانت تتعرض لهجمات مسلحين فرنسيين. أما في حرب البوير الثانية في عام 1900، التي اندلعت بين البريطانيين والمستوطنين الهولنديين (البوير) في جنوب أفريقيا، فقد استُخدمت فيها قطارات مدرعة بالبشر، بغية حماية القطارات والجنود البريطانيين فيها. أما في الحرب العالمية الأولى، فاستخدم الألمان الدروع البشرية بشكل منهجي في معاركهم لحماية قواتهم، وخاصة خلال احتلالها بلجيكا.




ينتقل المؤلفان إلى التترس الطوعي عبر تناول مساعي الناشطة النسوية وداعية السلام البريطانية مود رويدن، التي كانت تهدف إلى إنشاء جيش من الدروع البشرية الطوعية لوقف الاحتلال البريطاني لشنغهاي الصينية عام 1932، واتخاذها التترس سلاحًا للسلام. ثم يتوقف المؤلفان عند عمليات قصف المستشفيات وفرق الصليب الأحمر من طرف النظام الإيطالي الفاشي في حربه على أثيوبيا، وتبريره ذلك بالزعم أن المقاتلين الأثيوبيين برابرة اتخذوا المستشفيات دروعًا، لأنهم لم يفهموا الأهمية الأخلاقية الكامنة في التفريق بين المواقع العسكرية والمدنية. نستذكر هنا ما دأب عليه نظام الأسد في سورية بقصفه المشافي والمرافق الطبية وفرق الإسعاف في مناطق المعارضة، خلال الحرب التي شنها على الشعب السوري بعد اندلاع ثورته عام 2011. وكذلك فعلت إسرائيل في حروبها ضد الشعب الفلسطيني، وخاصة ضد قطاع غزة.
بالانتقال إلى الحرب العالمية الثانية، يركز المؤلفان على محاكمات نورمبرغ، التي حوكم فيها اثنان من القادة النازيين بسبب اتخاذهم أسرى دروعًا بشرية، ولم يحاكم أحد على اتخاذ مدنيين دروعًا بشرية، لأن قوانين الحرب في ذلك الوقت لم تكن تحرّم الفعل رسميًا، لكن بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، أقرت معاهدات حماية للمدنيين، وحظرت التترس بهم لأول مرة في التاريخ، وخاصة معاهدة جنيف الرابعة عام 1947، التي لم تسم المدنيين بشكل خاص، إنما رسمت حدودًا بين مصطلح المقاتل، ومصطلح غير المقاتل، بمعنى أنها حددت المدني على أنه الوجه الآخر للمقاتل، وأفضى ذلك إلى تعريفه بما لا يقوم به، وبات شخصًا سلبيًا. ومع ذلك لم تمنع معاهدة جنيف الرابعة الولايات المتحدة من استهداف المدنيين الفيتناميين، بذريعة أن مقاومتهم كانت فعلًا من أفعال التترس، وبالتالي برّرت استخدامها العنف الزعاف ضدهم.
يركز الكتاب على أفعال التترس الطوعي التي قامت بها منظمة "السلام الأخضر"، وسواها من المنظمات البيئية والإنسانية، ووسعت فيها مفهوم الأخلاق، حين انطلقت به خارج النطاق البشري، ليشمل الكائنات غير البشرية والبيئة والمناخ، إلى جانب أفعال المقاومة السلمية التي قام بها ناشطون مدنيون في حربي الخليج الأولى والثانية، وفي فلسطين ضد الآلة العسكرية الإسرائيلية، وتحولوا فيها إلى ناشطين سياسيين عبر تحديهم الإطار الكامل للعنف البشري، الممارس من قبل الولايات المتحدة وإسرائيل، برفض العنف نفسه. ولعل المثال البارز الذي يحضر هنا هو ناشطة السلام الأميركية، راشيل كوري، التي سحقتها جرافة إسرائيلية وأودت بحياتها، ثم حاولت إسرائيل تبرير قتلها من خلال التذرع بأنها "جعلت نفسها درعًا بشريًا للدفاع عن أناس مطلوبين"، وأنها بتصديها للجرافة شاركت في عمل قتالي، وبالتالي تمّت تبرئة الجندي الذي قتلها، لأنه لم ينتهك أي قانون وفق المعيارية الإسرائيلية الشائنة.

كانت مود رويدن تهدف لإنشاء جيش من الدروع البشرية الطوعية لوقف الاحتلال البريطاني لشنغهاي الصينية عام 1932 (Getty)

يتوقف المؤلفان عند فكرة "المقاومة السلبية" التي اجترحها غاندي، وتأثر بها ناشطون مدنيون مناهضون للحرب، ثم طوروها على مرّ السنين، كي تغدو محركًا لمقاومة سلمية نشطة. وباتت مخاطرة المرء بجسده على الخطوط الأمامية تشكل مقاومة للظلم، وعنصرًا ألهم الدروع البشرية الطوعية، حيث لم يقتصر التدرع البشري على السعي من أجل وقف حرب معينة، أو وشيكة، بل اختار ناشطون مدنيون بشكل طوعي تحويل أجسادهم إلى دروع من أجل إنقاذ حياة الكائنات المعرضة للخطر بسبب التجارب النووية، أو الحيتان التي تصطاد في المحيطات.
في سياق مفهمة التترس البشري، يمكن ملاحظة أن الفاعلية في الدروع القسرية لا تتعلق بالمدنيين، بل بالجنود والمقاتلين، الذين يحولون قسرًا من يفترض أنهم غير مقاتلين إلى دروع من أجل منع أعدائهم من شن هجمات عليهم. ويمكن أن يعرّف الشخص، في كل من التترس الطوعي والقسري بأنه درع، لأنه إما يتصرف باختياره، وإما يجبر على العمل كعازل بين محارب وهدف عسكري. ويحتل الدرع الطوعي والقسري مساحة محددة في الحيز بين الطرفين. أما عندما يصبح الناس دروعًا بسبب قربهم من مناطق القتال، من دون أن يتطوعوا، أو يجبروا، فإن القرب يحولهم إلى ما يسميه المؤلفان الدروع القريبة، الذي يصلح لوصف ما عليه الحال في حروب كثيرة، وذلك عندما تغدو هذه الدروع سلاح الدولة، الذي تستخدمه في تفسير وتوظيف القانون الدولي، حيث يجري دوليًا، على سبيل المثال، تأطير المدنيين العراقيين في مدينة الموصل العراقية بوصفهم دروعًا بشرية عام 2016 اتخذهم تنظيم "داعش"، وكذلك يؤطر المدنيين الفلسطينيين في قطاع غزة في حربي إسرائيل عليهم في عامي 2012 و2014، والأمر نفسه ينسحب على الحرب التي بدأت بشنها إسرائيل عليهم منذ أكثر من سبعة أشهر. في المقابل، لا يصنف الإسرائيليون في تل أبيب، أو في سواها، على أنهم دروع عندما تطلق حركة "حماس" صواريخ على مراكز عسكرية إسرائيلية، وعلى عكس ذلك، يصور المدنيون الفلسطينيون دروعًا بشرية عندما تقصف إسرائيل مراكز قيادة حماس والبنى التحتية في غزة. بعبارة أخرى، تلام حماس عندما تقتل مدنيين إسرائيليين، ولا تلام إسرائيل، في المقابل، حين تقتل مدنيين فلسطينيين، إنما تلام حماس أيضًا، وهذا ما يكشف مخاتلة وزيف المعايير الدولية المستخدمة من طرف دول الغرب.




انطلاقًا من توظيفات التنميط القانوني للتدرع البشري، يقوم المؤلفان بفحص عمليات الإقرار والتنصل في لعبة قوى الهيمنة الغربية الهادفة إلى إضعاف الحمايات الممنوحة قانونيًا للمدنيين في مناطق الحروب، خاصة في الشرق الأوسط، ومثالها الصارخ حروب إسرائيل المتعددة على غزة. ويتناول المؤلفان ما قامت به خلال حربها في عام 2014، حيث يسجلان قيام جيش الاحتلال الإسرائيلي بإطلاق حملة على وسائل التواصل الاجتماعي لتبرير قتل المدنيين الفلسطينيين، من خلال الترويج لمقولة أن حماس تستخدمهم دروعًا بشرية، وتحميلها مسؤولية قتلهم، في حين كانت حربها على غزة بلغت مستويات عنف غير مسبوقة، وتحاول ترويج الاتهامات بتترّس الفصائل الفلسطينية بالمدنيين، بهدف تبرير الهجمات الشاملة ضدهم، واتخاذ التترس ذريعة للتطهير العرقي والإبادة.
يسجل للمؤلفان عدم ترددهما في فضح المعايير الدولية المنحازة للعنف والحروب، وفضح النزعات العسكرية والإمبريالية والعنصرية والتمييز الجنسي والاستغلال الرأسمالي والنهب البيئي، وانحيازهما إلى شجاعة وتضحيات من يضعون حيواتهم على خط النار، وفي مرمى النيران، عن طيب خاطر، لتعزيز قضية أخلاقية وإنسانية.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.