}
عروض

"قيامة الأشلاء": عن الشعر المفتوح على الحياة وآلامها

ليندا نصار

21 مايو 2024

في الشعر عمومًا كشف وتعمق في الذات التي تسعى إلى الغوص في عالم مفتوح على الاحتمالات، ويرتبط الشاعر بهذا العالم ارتباطًا وثيقًا من خلال تأمله في الأشياء ومحاولة فهمها ليجسدها في نصوص تجتمع وعوالمه القصية فيخرج بقصائد ذات حمولات جمالية وصور واستعارات كونية.

يحمل الشاعر قلقه بيد وبيد أخرى يحمل حبرًا ينسج متخيله بوعي كبير للتعبير عن مساحات وجدانية إنسانية فتأتي ارتداداته أسئلة تدعو إلى ابتداع عوالم متجددة. كما تأتي الصور محاكاة للواقع حيث المعنى يولد معنى آخر ويتناسل منه كترجمة وعرض لحقائق مستوحاة من الحياة، فنصوص طه عدنان تعبير عن موقف يتخذه بل إرشاد بعد عتاب على ما آلت إليه الأمور اليوم من حروب وقتل وإبادات.

لا يمكن للمتأمل في ديوان "قيامة الأشلاء" للشاعر المغربي المقيم في بروكسل طه عدنان (دار العائدون للنشر والتوزيع، 2024. الغلاف والرسوم للفنان العراقي ستار نعمة) ، إلا أن تمر في ذهنه تساؤلات يطرح فيها قضايا تخطر في ذهن كل من يقيم في عالم الشعر. فمنذ العنوان "قيامة الأشلاء" تراودنا مجموعة من الأسئلة: عن أية قيامة يكتب عدنان؟ وإلام تحيلنا الأشلاء؟ أوليست الأشلاء عبارة عن أجزاء وبقايا قد لا تنتمي إلى الجسد نفسه بينما تشترك في الألم والموت لتتحد في جسد مكتمل حيث القيامة مفتوحة على حياة أخرى؟

وتتشكل القصائد من عناوين كبرى وكأنها أناشيد وهي: نشيد الغفران، قيامة الأشلاء، رسالة آجلة، سؤال بريء إلى داعشي، مقام العزل، شواهد على الرصيف، عن الشاعر. ويرتبط الديوان بإشكالات وجودية ويقف عند قضايا مرتبطة بالواقع حيث السلام المفقود بين الدول، كل ذلك بلغة خدمت المعنى المراد إيصاله. فيروي تفاصيل مشاهد القتل ليلتقط القارئ الصورة العائمة وليترك تأويل ما تحتها من طبقات متوهجة بالألم وكأن البشرية في حالة احتضار فنحن أمام سفر نهايات باتت قريبة من عالم غير متزن يحتاج إلى العدالة.

في القصيدة المعنونة بقيامة الأشلاء التي اتخذها الشاعر عنوانًا لديوانه، تراه يدخل في عرض وتأمل ببداية الكون الذي انطلق بكلمة أعطت الحياة "قال كن فكنا"، هكذا تجلى فعل الخلق، السماوات والكواكب بل الوجود والزمان... كما بدأت العداوات منذ أن قتل قايين أخاه هابيل بداية الزمان والوجود، والإنسان شاهد على الفتوحات والحروب وصولًا إلى التقدم والتطور، فيذكر الشاعر ناطحات السحاب والحكام والرعايا والسبايا وكل طبقات المجتمع، غريزة القتل والسيطرة والغلبة للقوي الذي يستدرج الضعيف وصولًا إلى الآخرة حيث لا سفن منقذة ولا مناطيد بل فوات الأوان فتأتي الخاتمة بقيامة الأشلاء بعد الحروب.

تبدو شعرية الألم من خلال تأمل الشاعر به، يصبح الشعر مواجهة له ويأتي على شكل حالات ودفعات شعورية تحمل مفارقات بين حركة الإنسان الذي ما زال على قيد الحياة والأشلاء التي يترك لها الرؤى مفتوحة على عالم بعيد تتجدد وتترمم وتكتمل فيه.

هذه المجازات والصور القريبة من المتلقي تخدم النصوص الشعرية ببنائها الحواري إذ يتوجه الشاعر بكلامه مخاطبًا بلهجة قوية متسائلًا عن المصائر. ويتبدى هنا استحضار الأحداث وتوثيقها بتواريخها، فإننا أمام إهداءات إلى أرواح ضحايا هجمات 22 مارس/ آذار الإرهابية في بروكسل مثلًا، وهنا يكمن الشعر اللماح المنفتح على رغبة الحياة التي تلي الموت المحتم. كما تجلت في القصائد الانزياحات وسط سردية تاريخية متسلسلة بدأت منذ بدء التكوين وكأن الزمن البعيد تحول بالشعر إلى قريب بوساطة شاشة شعرية باحتمالاتها اللامتناهية. إننا أمام يقظة مصوّبة نحو العالم ودعوة إلى الخروج من هذه الهاوية وتوقيف المشاريع التدميرية التي تقتل إنسانية الإنسان قبل كل شيء وتلغي مستقبله، وهذا ما يحدث في غزة التي أثرت في الشعراء وألهمت أقلامهم التي لم تتوقف يومًا عن مناصرة فلسطين. فهذا الجرح الذي سببته الحروب والإبادات لا يمكن أن يلتئم ما لم ينصّه شاعر يزعزع الصور ويبعث بنا إلى المدهش من العالم بتحولاته التي تواكبها تحولات المعنى:

"فكيف لا تلملم الآن/ أشلاءك/ لتخرج من وطن/ لم يعد لك/ ومن زمن/ ليس لك/ كيف لا تقبل الآن/ يا صاحبي/ عذر من قتلك"...

تبدو الأنا في الديوان في حالة من الشخوص والمراقبة والتفاعل مع المخاطب أيضًا، فهي تشكل التواصل بين الشعر والمشهدية التي يقدمها بوصفها مساحة من مساحات الكتابة. فالشاعر يخاطب القاتل ويضع قارئه في مقابلة مع النص ويترك الأفق مشرّعًا على تأويلات كثيرة:

"من أيقظ الوحش/ في قلبك الضاري؟/ من أضرم النار/ في روحك الخامدة"

" أتجرؤ أن تنظر في عيني/ يوم الفجيعة/ أم أنك أجبن من أن تشهد موتي"... 

ويعتبر طه عدنان أنّ الشعر تفاعل حيّ وخلّاق مع مآسي العالم. ويمكن المراوحة فيه بين التفعيلة والنثر حسب ما يقتضيه الإحساس لحظة الكتابة. ويشعر بالأسف تجاه النزوع نحو تحويل قصيدة النثر تحديدًا إلى قالب يُقيّد من حرّية الشعر، ويتعالى بالنهاية على الشعر كضرورة.

بالنسبة إليه من الصعب المزايدة على لحظة إبادة جماعية مثلا بجملة شعرية ذهنية مهما بلغت درجة نباهتها، أو بانشغالات بالغة الذاتية وتفاصيل فائقة الخصوصية مهما بدت مبهرة ومدهشة. فأحيانا يشعر الإنسان بالحاجة إلى التعبير عن شعوره الإنساني في لحظة سقوط وهزيمة، أو في لحظة قلق وحيرة. كما قد يحتاج إلى أن يصرخ عبر القصيدة. أن يجهر بألمه الفردي الذي قد يكون مشتركًا مع الآخرين. الشعر بهذا المعنى تعبيرٌ صارخٌ عن الألم، تعبيرٌ طبيعيٌّ عن استمرارنا كبشر لا زلنا على قيد النبض. وربما هذا ما يميّزنا عن الحجر. ويعتبر أنّ الشعر تدوين للهشاشة واللاجدوى، من أجل إعطاء معنى لوجودنا الواهي والواهن على هذه الأرض.

وهو لا يعتقد أنّ على الشاعر أن يكتب باعتباره حامل لواء قضية أو همّ جماعي، الشاعر يعبّر فقط عن همّه الفردي الذي قد يتقاطع مع هموم مصيرية. هكذا دونما نبوئية متعالية أو تبشيرية مُدّعاة. لكن الأسوأ هو التعالي التام عن الواقع بسبب البحث عن شعرية خالصة. شعرية لا يلوّثها الدم المراق. فاللحظة الشعرية هي لحظة تفاعل إنساني خلّاق مع الواقع بكل تفاصيله الدراماتيكية. تفاعل محدود كما محدودية طاقة البشر على الاحتمال. وإلّا أيّ الكلمات يمكن أن تترجم الخزي الذي تشعر به البشرية بكل ترسانتها العسكرية في لحظة قياميّة كهذه التي نعيشها اليوم، وأمام هذا الكمّ الهائل من الأشلاء في غزّة.

أما في "نشيد الغفران" فمن تحت الأنقاض تولد شعرية الألم والحزن، "فمن تلك المنطقة تتصاعد من البيوت أصداء آهات حزينة تروي حكايات الدمار" بسبب اليد المدمرة التي تقتل الصغار والكبار، ففي حالات الإبادة "يفتحون النار على المصائر" و"يهدمون البيت فوق رؤوس أهليه"، "كأن الموت/ صار اليوم بالألوان / ليكون أنضر"، "حتى المدافع صار صوتها أغنيات"، "قتلوك/ فماذا بعد/ العالم ينقص واحدًا/ اثنين/ وجار الجار/ شعبًا أو شعبين".

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.