}
عروض

"المكتبة: تاريخ مضطرب": في تاريخ تطوّر المكتبة والكتاب

أسامة إسبر

5 مايو 2024


كيف تطوّرَ الكتاب إلى شكله الحالي؟ كيف تطورت المكتبات وفهارسها؟ ما دور الصراعات الأيديولوجية في صناعة الكتاب والمكتبة؟ ما الذي حدث لكتب ومخطوطات وألواح طينية وشمعية ومكتبات كثيرة لا نعرف عنها أي شيء؟ ولماذا صودرت كتب وأُحرقت وبُنيت مكتبات وفق رؤية أيديولوجية محددة؟ ما الشكل الذي يسير نحوه الكتاب والمكتبة في عصرنا الحالي الذي ينطلق بسرعة قصوى على الطريق السريع للتطور؟ يحاول كتاب الباحث والمؤرخ الأميركي ماثيو باتلز الذي صدر مؤخرًا بعنوان "المكتبة: تاريخ مضطرب" الإجابة على هذه الأسئلة، وغيرها، في دراسة تسردُ لنا تاريخ تطور المكتبة والكتاب على مدى العصور.
يبدأ الكتاب بجولة في أضخم مكتبة أكاديمية في العالم، وهي مكتبة وادينر في هارفارد، والتي تحتوي على 14 مليون كتاب. إنها متاهة بورخيسية حقيقية، كما يقول المؤلف، إذ كيف يمكن لقارئ عادي أن يقرأ هذا العدد الهائل من الكتب؟ حين كان المؤلف يتجول داخل المكتبة أُصيب بدوار كمثل الذي أصيب به بطل الروائي توماس وولف يوجين جانت في رواية "حول الزمن والنهر"، وهو يفتش رفوف الروايات في مكتبة وايدنر: "كان يسير بين أرفف المكتبة في الليل، يسحب الكتب من ألف رف ويقرأها كالمجنون. ستدفعه فكرة هذه الأرفف الكثيرة من الكتب إلى الجنون. كلما قرأ بدا أقل معرفة. وكلما ازداد عدد الكتب التي قرأها بدا عدد التي لم يتمكن من قراءتها لا يُحصى وأضخم وأكبر. كان يقرأ بجنون بالمئات، بالآلاف، عشرات الآلاف. طعنتْه في الصميم فكرة أن كتبًا أخرى تنتظره".
إلا أن مكتبة الأبحاث الشاملة مصممة للوصول إلى كتب بعينها، أو من أجل إيصالها إلى يدي القارئ بأسهل طريقة، فأنت هنا كي تبحث عن كتاب محدد، وعملية البحث هذه وتسهيلها هي من المواضيع الأساسية في هذا الكتاب الذي يناقش دور أمين المكتبة تاريخيًا، والجدل الذي أثير حوله، والتحولات على طرأت على فهارس المكتبات إلى أن وصلت إلى شكلها الحالي على الإنترنت. وليس هذا فحسب، إن الشكل المادي للكتاب نفسه قد تطور، فمن اللوح الطيني، إلى اللوح الشمعي، إلى اللفافة، فالمخطوط، وأخيرًا القرص المدمج اجتاز الكتاب رحلة طويلة عبر شعاب ووديان وجبال التاريخ البشري، إلى أن وصل إلى شكله الحالي، حيث يعيش ويظهر على شاشات تفرض نفسها على حياتنا.
يسرد الكتاب قصة تاريخية مشوقة تبدأ من مكتبات بلاد ما بين النهرين، وصولًا إلى عصرنا الحالي، معرجًا على صناعة الكتاب والمكتبة، في اليونان، وروما، والإسكندرية، وقصة مكتبتيها، وملابسات الحريق، وكيف احتكر البطالمة صناعة ورق البردي، مرورًا بالصين والتحولات الكبرى التي طرأت على شكل الكتاب بعد صناعة الورق، وعلاقة هذا كله بالصراعات الفكرية. يناقش المؤلف حجم إنتاج الكتب، وكيف أنها بدأت قليلة، ثم شرعت بالتزايد بعد اختراع المطبعة، وقيام الآلات بعملية الإنتاج الكمية الضخمة التي أغرقت السوق، وبالتالي المكتبات العامة التي واجهت تحديًا يتعلق بعملية الفهرسة، والتي يدرس المؤلف تطورها منذ العصور القديمة، بدءًا من الفهارس البدائية المكتوبة باليد، إلى فهرس ورق اللعب، ثم البطاقة الفهرسية، إلى الفهارس الحديثة، والجدل الذي دار بين المفهرسين حول الطريقة الأفضل لإيصال الكتاب إلى يدي القارئ.
يقودنا الكتاب في رحلة تضيء ما لا نفكر به أحيانًا. حين نقرأ كتابًا من أي قطع هل نفكر كيف وصل إلى شكله الحالي وبنيته المادية وتجليده بهذه الطريقة؟ أم نقرأ من دون أن نفكر بتاريخ ما تلمسه أيدينا وتراه أعيننا على الشاشة؟ إن للكتابة التي يحتويها الكتاب تاريخًا من التطور على غرار شكله المادي، ككتاب مصنوع من الورق والجلود والأحبار أو الطين أو الشمع أو الحرير، بحسب المرحلة التاريخية. يأخذ المؤلف بيدنا عبر دهاليز هذا التاريخ، كي نرى كيف تطور الكتاب من شكله القديم الذي لم يصمد في وجه الزمن وعوامل التآكل إلى شكله الحالي المحفوظ على الرفوف، وفي قواعد البيانات والمعلومات في عصر الإنترنت. وإنها لحكاية شيقة يتداخل فيها البعد السياسي والاقتصادي مع المعرفي بشكل مباشر.
صار الكتاب لاحقًا قادرًا على التنقل بسرعة هائلة، ولم يعد وجوده مرتهنًا بموضعه على الرفوف، حيث تستند الكتب إلى بعضها بعضًا، بل صار يأتي إلينا، ونستطيع خزنه في مكتبات افتراضية لها كلمات سر، ويمكن أن نضيف إليها ونحذف على هوانا، ما ينذر بأن الوجود المادي للمكتبة قد يتحول جذريًا في المستقبل القريب، إلا أن الكتاب لم يصل إلى هذه المرحلة من فراغ، بل كان تاريخيًا وسياقيًا ابن المكتبة، فمن مكتبات الحضارات القديمة في العراق وسورية ومصر إلى مكتبات العالم الكبرى، كمكتبة الكونغرس، ومكتبة وادينر، مرورًا بتاريخ الحضارات الصينية والعربية، وحضارة المايا التي صنعت الكتاب قبل ألف سنة من وصول كولومبس، شهد الكتاب تطورًا مذهلًا من اللوح الطيني إلى الجلد الحيواني، إلى الرق، ثم إلى الورق الذي اخترعه الصينيون، وكانت الكتب تُنتج بأعداد قليلة، إلى أن غيرت الثورة التكنولوجية المعادلة، وصار إنتاج الكتب بالجملة، وبدأت الكتب تتدفق، ما أثار أسئلة كثيرة حول قيمة الكتب، وهل كلها مهمة؟ يحاول المؤلف أن يجيب على أسئلة كهذه عبر التركيز على نقاط محورية، وإهمال أخرى، كمثل الروائي الذي يحرر نصه إلى أن يمنحه شكله السردي الأخير.
الكتاب رحلة في تاريخ الإمبراطوريات والممالك والجمهوريات الحديثة من خلال علاقتها بالكتب والمكتبات، ثم يأتي عصر الصناعة، وتتغير طبيعة المعادلة، ويأخذنا المؤلف في جولة داخل إحدى المطابع، حيث تتحرك الآلات وتنتج بالجملة أعدادًا كبيرة من الكتب، هذه الكتب التي تستقبلها مكتبات عامة، كمكتبة الكونغرس، أو مكتبة وادينر، والتي لها قصة تعود إلى غرق سفينة التايتانيك، حيث مات في الحادثة أحد الشبان، فقامت أمه بإحياء ذكراه من طريق هبة مادية أدت إلى نشوء إحدى أضخم المكتبات في العالم.




يتناول الكتاب القيمة النظرية للمكتبة، يتحدث عن شهيقها وزفيرها، والذي يقصد به دخول الكتب وخروجها منها، وكيف أن العاملين في المكتبة يسمعون تنفسها أحيانًا، كما يدرس المؤلف ما الذي تشكله المكتبة للتجربة البشرية. ويقتطف ما قاله الشاعر مالارميه الذي رأى أن العالم كله يبدأ وينتهي في كتاب. ويستعرض آراء آخرين يرون أن المكتبة تشكل مستودع المعرفة البشرية، أي خلاصة التجربة الكونية. إلا أن نقادًا حاذقين مثل هنري ديفيد ثورو لا يرون في ما تحتويه المكتبه كله كنزًا تراكميًا، مجادلًا أن ميلتون وشكسبير لم يتنبآ مع أي كتب ستوضع كتبهما. هذا يثير قضية مهمة، ألا وهي القيمة الإبداعية لما تحتوي عليه المكتبة: هل النتاج البشري من الكتب كله له قيمة إبداعية، أو فكرية عالية؟ ذلك أن المكتبة تحتوي على ما هب ودب، وقد تحتوي على نشرات دعائية، وعلى أرفع كنوز الشعر، أو الفلسفة. لهذا يقتطف المؤلف كلام سينيكا الذي قال في كتابه "الرسائل الأخلاقية": "ليس المهم كم لديك من الكتب، بل المهم نوعيتها وجودته". ويؤكد ماثيو باتلز أن مكتبة سينيكا يمكن أن نعدها مكانًا للمعايير. ودعا هذا النوع من المكتبة "البارناسية"، ذلك أنها على غرار دلفي معبدٌ بُني على سفوح جبل بارناسوس، الجبل المقدس لأبولو وربات الإلهام. وكانت الكتب في هذه المكتبة مقطرةً، وجوهرَ كل ما له قيمة وجميل في الصيغ الكلاسيكية، أو مقدس في الصيغ القروسطية، وقُصد أن يكون نموذجًا للكون، ومجموعة منسقة بدقة من المُثُل.
لا تُعامل الكتب في المكتبة الشاملة كجواهر ثمينة مميزة، على الأقل ليس في المقام الأول، كما يقول المؤلف. عوضًا عن ذلك، يُنظر إليها كنصوص وأنسجة يجب أن تُمزق وتُنسج معًا في تركيبات ونماذج جديدة، كمثل النجوم في السماء، أو أزهار لينايوس. ويجب ألا يُثنى عليها من أجل تأثيرات، أو مواصفات خاصة، بل يجب أن تُحصى وتُصنف قبل أن يصبح من الممكن أن يُرغب بها. هذا ما تمليه التكنولوجيا، وبداية عصر الطباعة، فحين بدأ تدفق الكتب تغيرت طبيعة المكتبة، إلى درجة تسبب الدوار.
في الفصل الثاني، والذي يحمل عنوان "حرق مكتبة الإسكندرية"، يشكك المؤلف بقصة حرق المكتبة أثناء الفتح الإسلامي، ويقول إن القصة مفبركة، وربما اخترعها ابن القفطي في القرن الثاني عشر، ولا تعكس إلا جانبًا من الحقيقة. وبحسب عالم الكلاسيكيات المصري مصطفى العبادي، من الوارد أن ابن القفطي اخترع القصة ليبرر بيع صلاح الدين للمكتبات كي يمول معركته ضد الصليبيين، إلا أن القصة انتشرت في الغرب من دون تدقيق كاف.
يتحدث المؤلف في هذا الفصل أيضًا عن مكتبات بلاد الرافدين التي وصلت إلى ذروتها أثناء حكم أشور بانيبال الثاني، الذي حكم الإمبراطورية الآشورية في القرن السابع قبل الميلاد، وأنشأ مكتبة كبيرة في عاصمته، مدينة نينوى القديمة، توسعت إلى أن ضمت 25 ألف لوح طيني. وخدمت المكتبة كأرشيف، إلا أن طموحات آشور بانيبال كانت كونية، فأمر بجمع التعاويذ والتراتيل والآداب القديمة للغات بلاد ما بين النهرين القديمة، الآشورية، والسومرية، والأكادية، والأوغاريتية، والآرامية، وغيرها أيضًا. وتبين أن المكتبة عالية التنظيم، وربطت الأعمال معًا في ألواحها الطينية المختلفة، وتم تعليمها بتسمية عرّفت محتوياتها. وعُثر أيضًا على فهرس سجل عناوين الأعمال، وعدد الألواح التي تتكون منها.
في الفصل الثالث، يسلط المؤلف الضوء على دور الأمويين في بناء المكتبات، وعلى "بيت الحكمة" العباسي، ودوره في التحول الفكري والعلمي. ويتحدث عن الصعود السريع للحضارة العربية الذي تجسد في قصة "بنو موسى"، وهم ثلاثة أخوة خدموا في البلاط العباسي كرياضيين وعلماء فلك.
تدين ثقافة الكتاب الغربية بتراثها إلى الإسلام في جوانب كثيرة، كما يقول باتلز، فقد تعلّم الفاتحون جيدًا من رعاياهم الجدد، وأخذوا أشكال الكتاب وصنعته وطوروها إلى ذروات جديدة. وتعلّم المسلمون من سجنائهم الصينيين فن صناعة الورق في بداية القرن الثامن. واستعاروا من الناسخين الحبشيين في إثيوبيا شكل المخطوط، وطوروا الغلاف الجلدي المخيط إلى درجة عالية من الإتقان. ويقارن المؤلف بين نظرة اليونانيين والرومان وبين نظرة العرب للكتاب قائلًا إن الكتب كانت بالنسبة لليونانيين والرومان أدوات ومستودعات معرفة نفعية. وكانت اللفائف التي صنعوها بسيطة، ومن دون تزيين، لا تعكس نظرة جمالية، إلا أن الخطاطين والرسامين المسلمين، في المقابل، جعلوا من الكتاب شيئًا جميلًا. وصار الجامعون يثمّنون المنظر البديع، وينظرون إلى جمالية شكل الكتب كما ينظرون إلى المضامين التي توصلها. وكان اقتناء الكتب المزينة، وتذوّق جمالها الفني في أوروبا المسيحية في العصور الوسطى حكرًا على الطبقات العليا الثرية في المجتمع.
يدرس المؤلف الصراعات الفكرية والأيديولوجية التي أثرت على المكتبات وتكوّنها في بريطانيا والولايات المتحدة في القرن الخامس عشر. وحين هدّد العلم تفوّق علم اللاهوت ونفوذه الشرعي في مجال السياسة، سعى الحكام إلى الحفاظ على سلطاتهم في مثل كلاسيكية. بهذا المعنى، صارت المكتبة التي شعرت بآلام التغيير، بعد تزايد عدد الكتب وأنواعها، ساحة معركة بين الأيديولوجيات المتنازعة، ويورد مثالًا على ذلك مقالة جوناثان سويفت الساخرة "معركة الكتب"، ويستعرضها بالتفصيل.
ولم يفت المؤلف أن يوجه رسالة تحذيرية من خلال دراسته لعمليات حرق الكتب عبر التاريخ، وصولًا إلى حرق النازيين للمكتبات، وإعادة بنائها، واستهداف القوميين الصرب للمواقع الثقافية والمكتبات في البوسنة والهرسك، وتدمير المكتبات غير المكتشفة في العراق بالقنابل الذكية، كما لو أنه يقول إن عمليات الحرق المتعمدة التي أدت إلى ضياع جزء هام من تراث البشرية الإبداعي قد تتكرر من جديد، خاصة أن الأسلحة صارت أكثر ذكاء وخطرًا وتدميرًا، كما أن الصراعات الأيديولوجية لا تزال تؤجج العداء والكراهية بين سكان العالم. وبالتالي، فإن مكتباتنا وحياتنا قد لا يبقى منها في المستقبل إلا الرماد والعدم إذا لم نتعامل مع المسألة بجدية بالغة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.