}
عروض

الهجانة في تشكل الأحزاب السياسية الحديثة: المجال العربي أنموذجًا

رباب دبس

8 مايو 2024

 

صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب "الهجانة في تشكل الأحزاب السياسية الحديثة: المجال العربي أنموذجًا" (2023)، للأستاذ الجامعي والباحث في الشأن السياسي فارس اشتي. الكتاب هو عبارة عن دراسة بحثية معمقة عن الأحزاب، اعتمد فيها الكاتب المنهج البحثي التاريخي المقارن، ويعود فيه إلى حقبة نشوء الأحزاب (غربية وعربية)، متتبعًا الجذر المجتمعي لكل منها، مرورًا بالكتابات والفهم النظري، ثم يضيء على محددات تشكّلها، وحواملها الاجتماعية، وارتباط كل منها بالتحوّلات، اقتصادية كانت أم اجتماعية أو ثقافية، ثم محددًا مواضع هجانتها.

الهجانة بحسب المؤلف هي: "تمازج بين مكونين متباينين في السياق تمازجًا يؤدي إلى مكوّن يباين كلًا منهما"، ويغلب على المكونين أن أحدهما يأتي من التراث والتقاليد والتاريخ، والآخر من الغرب واللحظة الراهنة، فتكون الهجانة في هذا التزاوج بين مكوّن غربي ومكوّن تراثي، وبين زمنين الحاضر والماضي.

يتمحور الكتاب حول هجانة الأحزاب العربية، وخصوصًا الناشئة منها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، ويتخذ الكاتب من الحزبين الشيوعي والبعثي نموذجًا لهذه الهجانة، التي نعرضها بدورنا في هذا المقال.

بين السلطة والدولة

تتجسّد هجانة الحزب الشيوعي، كما يفنّدها الكاتب، في عدم تمييز الحزب بين السلطة وبين الدولة، بما هي مشروع استراتيجي سياسي ثقافي، أحد أشكالها أنها تصوغ ثقافة للمجتمع وتوازن بين الفئات والطبقات والجماعات في مشروع واحد، فيما السلطة البحتة ليست في مشروعها السياسي أو الثقافي، وإنما في قوتها المفروضة على المجتمع واستبدادها به. مزج الحزب الشيوعي بين الدولة والسلطة، بما هما في نظره واحد، ولم يميّز بين الدولة كمشروع سياسي ـ ثقافي استراتيجي، وبين السلطة كأداة للحكم. فكان خطؤه في سعيه للوصول إلى السلطة، دون أن يكون امتلك مشروعًا استراتيجيًا خاصًا بالدولة.


حزب البعث: نظرة قومية وحدوية

في الإطار نفسه، كانت لحزب البعث نظرة قومية وحدوية، وقد وقع في عدم التمييز بين السلطة والدولة الذي وقع فيه الحزب الشيوعي، ومثله مثل الحزب الشيوعي مزج بينهما، وقد تجسّدت صورته كحزب قومي، داع للوحدة العربية، التي هي وحدة أقطار، لكل قطر منها سلطته، وثقافته، وتكوينه الإجتماعي، وتاريخه الخاص. هذا ما جعل من المشروع الوحدوي البعثي الذي يغفل عن هذه الفروقات، مشروعًا خياليًا لسلطة قومية تتجاهل فروقات الأقطار والمناطق والجماعات.


في هجانة أهداف الحزب الشيوعي

تظهر هجانة أهداف الحزب الشيوعي اللبناني، في استتباعه للاتحاد السوفياتي، وتبنّيه عقيدته وفهمه للماركسية، وبالتالي فقد قام برنامجه على الطبقات الريفية المتوسطة والكادحة. هنا تظهر مشكلة الحزب الكبرى في بلد متنوع طائفيًا مثل لبنان، في عدم قدرته على تفادي التكوين الطائفي، وهو (الحزب) الذي بدأ مسيحيًا وأرثوذكسيًا بشكل خاص، ثم تغيّر هذا التكوين مع الزمن ومع الحروب الأهلية اللبنانية، فصار في أكثرية محازبيه إسلاميًا، كما أنه انخرط سياسيًا في الصراع الأهلي، إلى جانب المسلمين والفلسطينيين. فيما هو حزب ماركسي برؤية سوفياتية.


في هجانة الطبقات

هجانة الحزب الشيوعي اللبناني تجسّدت أيضًا في الطبقات التي سعى إلى تمثيلها، والتي كانت منخرطة هي الأخرى في نظام طائفي، وأفرادها يمتّون إلى طوائفهم وزعاماتهم الطائفية، ويبيّن هذا الواقع أن الحزب لم يستطع أن يتجنب النظام الزبائني اللبناني. ثم أنه (الحزب) الذي يرتكز نظامه الداخلي على الديمقراطية المركزية، لم يستطع بسبب الإرث الاجتماعي، أن يحافظ على ديمقراطية حقيقية، إذ غلبت عليه مركزية تقرّبه من الديكتاتورية والزعامة الفردية. هكذا تبدو ديمقراطية الحزب الشيوعي المركزية في نسختها العربية، كمثل على الهجانة التي تعمّقت أيضًا في عدم قدرة الحزب على تكوين أفراد شيوعيين خارجين عن طوائفهم وزعاماتهم، بل كان المنتسبون اليه أبناء مجتمعهم الطائفي ونظامه الزبائني.


حزب البعث والوحدة العربية

حزب البعث هو الآخر، دعا في برنامجه إلى الوحدة العربية، وطرح مشروع دولة عربية واحدة. وقد تعارض ذلك مع واقع الأقطار العربية، التي لا يجمعها شيء سوى عنصري اللغة والإسلام. كما كان لكل منها تكاوينها ومشاريعها الخاصة، وتركيبها الاجتماعي وقضاياها ونزاعاتها ونظامها المتصل بتكوينها الطبقي. وتتوضح هجانة حزب البعث، كما ترد في الكتاب، في مشروع الوحدة العربية التي نادى بها والتي تبدو مشروعًا خياليًا، كما يتبين أن القول أو التفكير في مشروع عربي موحّد، هو دعوى عقائدية أكثر منه سياسيًا وعمليًا. إضافة إلى كل ما ذكر، لم يستطع الحزب أيضًا تفادي تكوينات المجتمعات العربية وانقساماتها الطائفية، فقد انخرط بشكل لا إرادي في هذه البنى. هكذا صار البعث السوري ذا صبغة علوية، فيما صار البعث العراقي ذا صبغة سنية.


في الأساليب والوسائل

تنسحب هجانة الحزبين (الشيوعي والبعثي) على الوسائل والنقابات والتحالفات. اتخذت منشورات الحزب الشيوعي بعدًا مدينيًا، إذ كانت أكثر ما تتوجّه إلى القرّاء والمثقفين من الطبقة الوسطى المقيمين في المدن، بينما يقلّون في الريف. هذا ما يبيّن أن دعاوى الحزب والأفكار الذي كان يسعى إلى نشرها عبر مطبوعاته، لم تكن تصل إلى كل الطبقات، بل كانت إلى حد كبير موجّهة للمتعلمين المدينيين.

النقابات هي أيضًا هجينة، وتظهر هجانتها في سعي الحزب إلى تأسيس العديد منها، كما أنه حرص على أن يكون له في كل نقابة أو حرفة، عضو أو صديق للحزب. الا أن عمل هذه النقابات، بقي إلى حد ما شكليًا، وفقًا للشروحات التي ترد في الكتاب، التي تبيّن أن هذه النقابات لم تكن سوى فرق حزبية مموهة، في ممارساتها وفي نضالاتها.

تحالفات زعاماتية تقليدية

تتجسد هجانة الحزب الشيوعي في عدم قدرته على تكوين أفراد شيوعيين خارجين عن طوائفهم وزعاماتهم، إذ أثبت المنتسبون إليه، أنهم أبناء مجتمعهم الطائفي ونظامه الزبائني. تنسحب الهجانة أيضًا على تحالفات الحزب التي لم تكن كلها طبقية، كما أنها لم تتضمن برامج مطلبية واضحة، بل إن العديد من التحالفات كانت تتم مع فئات مختلفة، ومن بينها زعامات بعضها طائفي، كتلك التي قام بها الحزب إبان الحرب الأهلية اللبنانية والتي أكثر ما تعكس هجانتها وكانت ذات طابع (ريفي ـ تقليدي ـ اشتراكي، طوائفي...).

لم يكن لحزب البعث أي برنامج واضح لمشروعه السياسي، كانت تحالفاته، في كل قطر، تتم وفقًا للتركيب الاجتماعي، وفي أحيان كثيرة اتخذت طابعًا طائفيًا. فالعقيدة والحزب ضاعا بين فكرة الدولة القومية الحديثة وبين التراث الاسلامي. تتوضح هجانة حزب البعث فيما ذكر، في المشروع القومي الحديث الذي قدمه، فيما هو في حقيقته مشروع سياسي مبني على تراث تقليدي ديني تاريخي.

خاتمة

يظهر العرض الآنف هجانة التنظيمين الشيوعي والبعثي، في كونهما لم يستطيعا أن يفهما الدولة على أنها مشروع سياسي ثقافي، بل مزجا بينها وبين السلطة التي هي حكم مستبد قد يتحول إلى أداة ردع وقهر، وبالتالي، حلّت السلطة المستبدة مكان الدولة. كما أن الحزبين لم يقدمّا برامج ووسائل وأهداف، تناسب الظروف والجماعات في مجالات اشتغالهما. تأثر الحزبان بالتكوين الاجتماعي للأقطار التي نشآ فيها، ولم يستطع أي منهما أن يخلق الفرد الحزبي في مجتمعات يمت الفرد فيها إلى أصوله الإجتماعية والدينية والثقافية.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.