}
عروض

سيرة مها بيرقدار الخال: في تصالح الذات مع أناها

ميشلين مبارك

9 مايو 2024



ظمِئت أنفسنا، نحن قرّاء الشاعرة مها بيرقدار الخال، إلى حكاياتها، قصائدها، وهج كلماتها المزروعة من "عشبة الملح" المتكاملة العناصر في رحيلها إلى النور، والمكتوبة لتداوي الروح. أطالت الغياب هذه الشاميّة الجميلة الصامتة فكدنا نفقد الأمل، حتى جاء ضوء من مذكّرات شاءت أن تبعثها إلى الحياة، فكان كتاب "حكايا العراء المرعب" (2024) الصادر عن دار فواصل للنشر في بيروت بالتعاون مع دار مجلة شعر.

تُهدي بيرقدار كتابها إلى أرواح أسرتها: "الذين رحلوا تباعًا... إلى أبي، أمي، أخي أسامة، أخي طريف وأختي سوزان، وروحي التي بقيت في العراء المرعب"، وإذ بالشاعرة تترجم أحاسيسنا جميعًا، نحن الذين لا نشعر باليتم الحقيقي إلاّ في رحيل الأهل، بل نعيش في عراء هذا العالم ورعبه بالتوازي مع وحدتنا في المواجهة. مقدمة الكتاب أتت بمثابة "شهادة كاملة وليست مجروحة" بعنوان "الحكاية مها الحياة" بقلم ابنها الفنان يوسف يوسف الخال، ومما قال فيها: "من رحيق العطر هي الشهيق، ومن أنين الحنين تكون الزفير، إلى الجوف الحار تنتمي... هي حرّة، والعزلة ملعبها، تركض بعقل وحشي، تكتب وتغيب، تصمتُ وتنتفضُ... أُغمض عيني وأتخيّلها بياضًا شَرِب من روح السماء، تُرابًا برائحة المطر يغمرُ الشجر، هي الربيع، تترنّح رقصًا بالذهاب شتاءً، وصيفًا بالإياب، ثَمِلتُ بها شذىً حتى الشهيق... هي زهرٌ شامخٌ... حتى في الخريف. العراء المرعب هو الحياة، وأجمل ما في تلك الحكايا أنها هي بذاتها الحياة...".

تسرد الخال حكاياتها في كتاب من 238 صفحة ويضم 190 حكاية صغيرة من حياة بيرقدار الشخصية، العائلية، الاجتماعية، وحتى السياسية والوطنية، حكايا تبدو في الظاهر مرسومة في لوحة ملوّنة لكثافتها وتعدّدها وتشابكها مع أنماط الناس وألوان المواقف والقرارات غير أنّ أرضية هذه اللوحة حزينة تتماوج فيها ألوان النار والنور ويبقى الأمل على حافة الأفق يبتسم للأزرق البعيد. ولعلّ هذا ما ترجمته لوحة الغلاف التي رسمتها حفيدة الكاتبة نيكول يوسف الخال (11 عامًا).

في المضمون، نكتشف "مها" الموهوبة منذ نعومة ثقافتها بالرسم والشعر، موهبة من عمر طفولة متعلقة بأبّ مثالي شكلّ موته حزنًا عميقًا في داخلها. تقول: "الموت ظلّ مخيف، فنحن لا ننسى غياب من نحب لكننا نتعود شيئا فشيئًا على غيابهم..." (ص: 17).

منذ ذاك اليوم تصادقت مها مع الصمت، "صمت مطبق خيّم على روحي" (ص: 18). ولعلّ هذا السكون الداخلي هو الذي نمّى لديها حدس معرفة الآخرين بمجرد رؤيتهم، فأتى قول برنارد شو لينطبق عليها تمامًا: "إن الصمت يمنحك متعة التنزه في عقول الآخرين". هذا الحدس لم يخنها في لقائها الأول مع الشاعر يوسف الخال في ستينيات القرن الماضي، يوم أتت ابنة الخامسة والعشرين ربيعًا من الشام إلى بيروت لتعرض على الشاعر الكبير مجموعتها الشعريّة الأولى بهدف طباعتها. ثم تكررت اللقاءات وتبادل الرسائل إلى أنّ جاء يوم أرسل رسالة يقول فيها: "لقد أعددتُ لك بيتًا صغيرًا عند البحر... لا تتصوري كم أنا غريب ووحيد، فتعالي حين ينتصف تموز وإلاّ فغيبي إلى الأبد" (ص: 44).

تُخبرنا الكاتبة كيف اتخذت القرار وهي تفكر: "يا لهذه الحياة التي تهديك كل يوم موقفًا عليك أن تتخذه، وما أن تتخذه حتى يكون بانتظارك موقف أصعب". في هذه المرحلة يخرج من الفتاة الخجولة نضج وجرأة عندما وضعت أهلها أمام الأمر الواقع على الرغم من معارضتهم لزواجها من رجل يكبرها بأكثر من ثلاثين عامًا ومن غير دينها بالإضافة إلى أنه سبق أن تزوج ولديه أولاد. مما لا شك فيه أنّ الكاتبة تمسك القارئ بيده عندما تقف أمام قرار الزواج وسلسلة التساؤلات والتناقضات التي تعيشها. كما سيلمس القارئ تباعًا هذا التناقض في الكثير من المشاعر والتصرفات نتيجة ذلك. 

هي من تداعيات موت الأب بنوبة قلبية، الأب الذي كان يدلّل ابنته ويتحاور معها في شتى المواضيع إلى احترام صورة الأب في زوجها، على الرغم من كلّ التشجنات بينهما. مقارنة غير متكافئة ما بين الصورة النمطية للأب (أي محمد خير بيرقدار) وبين زوجها (الشاعر يوسف الخال)، تمامًا كاختلاف الحياة العزوبية كمثقفة تحضّر برامجها وتبثّها عبر إذاعة دمشق في برنامج "الليل والشعر والموسيقى"، إلى الحياة الصاخبة في بيتها الزوجي في بيروت عبر الحفلات واللقاءات الثقافية والشعريّة وإدارة "غاليري وان" للرسم، ثم الانغماس في الحياة العائلية مع ولادة طفليها وإهمال الشعر والرسم. تبيانات أظهرتها بيرقدار للملأ بكل واقعية ودلالات وجودية على امتداد صفحات "حكايا العراء المرعب"، وهي لم تشمل سيرتها الشخصية فحسب، بل حياة مدن وأوطان وأنماط عيش بين دمشق وبيروت، بين لبنان الأمس ولبنان اليوم، بين فلسطين الأمس وعمق جرح غزة اليوم...

تقول الكاتبة: "كان زواجي من يوسف الخال غير متكافئ بكل المقاييس! فلا هو أسعدني، وأنا أيضًا فشلت في إسعاده..."


تأسرك الحكايا فيعثر القارئ أثناء مروره بين صفحاتها على معارف وحكم ووجوه، في ذاكرة ما زالت حيّة على الرغم من كلّ الهموم. فنتعرّف على أفراد عائلة مها عبر وصفها الدقيق لشخصياتهم، من الأب الحنون الكريم، إلى الأم المؤمنة والذكية "التي تقرأ الممحي"، وإلى أخيها الأكبر أسامة "الوسيم والأنيق" وزواجه من أجنبية ثم طلاقه والعيش وحيدًا، وقصة أختها سوزان "المهضومة والتي ترقص حتى على وقع دق جرس الباب"، ثم عمل سوزان في مصر وعرض رشدي أباظة الزواج منها. وصولًا إلى الأخ الأصغر طريف "الطفل الكتوم" ولاحقًا الرجل التي تزوّج من لبنانية وسكن لبنان وقصة عدم منح أولاده الجنسية اللبنانية. حكايات تتداخل في قلب حكاية الكاتبة الرئيسية فتُؤثّر وتتأثّر بها. نعيش مع الشخصيات كلّها ونترقب أحداث حياتهم، نتعرّف على تفاصيلهم الجوانية، نختبر تصرفاتهم على مدى مراحل العمر المختلفة من حيواتهم وحياة الكاتبة بالذات، ناهيك عن إبراز أهمية وجود الأصدقاء وأدوارهم المتعدّدة في اتجاهات وتوجهات أحداث السيرة الذاتية لبيرقدار الخال.

في السياق نفسه، تبرز الدوائر الواسعة للمعارف والأصدقاء دلالة على شهرة الشاعر يوسف الخال وتعدد علاقاته الفنيّة والسياسية والدينية. فمن علاقة العائلة الصغيرة أي بين الكاتبة وزوجها، وإخوتها، إلى التفاعل مع الجيران والأصدقاء المقرّبين، على سبيل المثال الشاعر فؤاد رفقه وزوجته، الشيخ بهيج مالك، والفنان رفعت طربيه، والشاعرة والرسامة باسمة بطولي، إلى معارف شكّلوا علامة فارقة في حياة الكاتبة كالفنان ربيع الخولي الذي غنّى أغنية "قمح الطفولة" من كلمات بيرقدار نفسها، ووصولًا إلى الدائرة الأوسع والعلاقات التي قامت مع بعض رجال السياسة كالرئيس بشير الجميل وغيرهم، والتي تعبّر الكاتبة في السرد عن رأيها الصريح والواضح بهم؛ الأمر الذي أضفى صدقًا بارزًا انعكس على سرد الأحداث المؤثرة وخصوصًا الحميمية منها التي أتت بمثابة اعترافات قلّ ما نلمسها في سيرة ذاتية لأي شخصية عامة في المجتمع العربي. ولعلّ أبرز هذه الاعترافات هي علاقة الكاتبة بزوجها الشاعر الخال والتي تبقى الخيط الذي عقد أصل الحكاية بالفروع، مما أضفى على الأسلوب تشويقًا للقارئ في معرفة التالي من الصفحات حتى النهاية. أسلوب اتسم بالانسيابية والعمق. اعتمد السرد المباشر باستعمال صيغة المتكلم لما له من من صدق وجرأة في آنٍ معًا.

تمتعت الكاتبة بصدق حقيقي خارقة الحواجز المصطنعة الموضوعة في الزواج من شاعر كبير، ولعلّ أهم وجوه هذا الصدق: وصف حقيقة حياتها الزوجية، فتقول في الصفحة 118: "إنها المعاناة التي لبستها ولبستني على تلك السنوات، إنها الغربة عن كل شيء، إنه الحنين، إنه الحرمان، إنه تفهم الآخر على حساب أعصابي، الشعور بالأمومة، وكأني كنت أمًّا للجميع، وكان عليّ الاهتمام بهم جميعًا، لم يكن لديّ الوقت كي أفكّر في حالي! كانت ابنتي ورد أجمل وأنبل ما أفكر فيه، فهي كل ما تبقّى لي من حياة، وكأنها كانت سلّم نجاتي من نفسي التي تتدهور شيئًا فشيئًا، فكلّ أحلامي وطموحاتي تلخصت بكائن بريء اسمه ورد". فهي لا تنكر طيبة قلبه لكن تؤكد على طبعه الذي يتحوّل إلى القساوة والتفرّد بالرأي خصوصًا أمام امرأة عميقة الفكر تؤمن بالمساواة بين المرأة والرجل. وتقول في الصفحة 167: "كان زواجي من يوسف الخال غير متكافئ بكل المقاييس! فلا هو أسعدني، وأنا أيضًا فشلت في إسعاده... كانت سعادتي تكمن في عينيّ ورد ووسّوف (يوسف)، ولوحتي، وأوراقي الشعريّة المتناثرة!!".

من المؤكد بأنّ الكاتبة تمسّكت بايمانها في مواجهة كلّ تلك الأحزان، وبسبب هذا الإيمان الأصيل، رافقتها العناية الإلهية في مراحل عديدة من حياتها بل وأنقذتها في الكثير من المرات بدءًا من نجاتها في شبابها من حادثة تحطّم الطائرة مع الفنان دريد لحام أثناء زيارة الوفد السوري إلى مصر (ص:162)، إلى انفجار الأشرفيه واستشهاد ابنة الرئيس بشير الجميل ونجاة الشاعرة الخال بأعجوبة على بعد أمتار من المكان نفسه (ص:139)، ثم تسليمها للعناية الإلهية يوم مرضها بالسرطان وشفائها منه (ص:212) وغيرها من المواقف حتى قالت "هنيئًا لمن يسكن قلبه الله" (ص:33).

في الواقع، يخال للقارئ بأنّ الصمت هو بطل كلّ الحكايات، فتكاد لا تخلو صفحة من دون ذكره بطريقة أو بأخرى كأن تقول: "نظر إليّ بحيرة وصمت" (ص:19)، "صمتُّ قليلًا ثم قلت" (ص:21)، وعن أمها: "بالكاد أسمع صوتها عندما تتكلم" (ص:22) و"بعد صمت قصير" (ص:23)...حتى الدموع عند بيرقدار تنهمر بصمت. فيعود القارئ بالذاكرة إلى ديوانها الشعري الثالث بعنوان "الصمت" (2004) وحديثها معه: "لمستُ وجه الصمت/ كان كلامه نقشًا/ خلته شعرًا، ففتحت الروح/ كان شوقًا/ حرف نارٍ فوق ثلجٍ/ معًا بدونا كتوأم". وللصمت أحاديث كثيرة في "حكايا العراء المرعب" لتبوح في الصفحة 189: "أنا ما اخترت الصمت عن ضعف، إنما عن وعي وعن رقيّ، ولا أريد لروحي بأن تتلوث بل أن تبقى تضجّ بالحب والجمال والخير". هذا الحبّ الذي أصبح شيئًا فشيئًا في عالم تسوده الحروب والانقسامات وتعبث فيه الويلات والشرور. وهنا لا بدّ من الإشارة إلى تأثير الحرب على نفس الكاتبة، وهذا ما تعلن عنه مرارًا  باستعمال استعارات ذات أثر عميق في النفس، وأخرى تنطوي على حِكم مستقاة من حياتها. كأنّ توصف حالتها النفسية نتيجة الحرب، في الصفحة 80 من الكتاب: "تركَتْ الحرب عليّ حزنًا عميقًا لو فلشته على مساحة الوطن لغطّاها". وتقول عن الوقت في مكان آخر: "الوقت، الوقت، مهما قصر فهو ثقيل ومهما طال فهو قليل..." (ص: 147).

كتاب "حكايا العراء المرعب" هو رواية فتاة نضجت قبل أوانها، امرأة كبرت بسرعة، والمسافة بين واقعها وطموحاتها مساحات شاسعة، هو كالمرايا في انعكاس الذات والوقوف أمام النفس البشرية من دون أي مساحيق تجميل. فيه بوح بلا ضجيج، فيه ألم بلا صراخ، فيه عتاب مع إيمان بربّ العالمين، فيه هزيمة مع وقفة عزّ، فيه فسحات أمل في عتمة الأحزان والشعر ساكن فيه وإن لم يكتب. في هذا الكتاب تتصالح الذات الحاضرة مع الذات الماضية كأنّ الألوان والخطوط تدل الكاتبة والقرّاء على حدّ سواء إلى الإله، إلى الخلاص حيث يسكن الهدوء ويصبح الصمت لغة القلب. إنها كما قال عنها المطران جورج خضر في مقدّمة ديوانها الأول "عشبة الملح" (الطبعة الثانية- 1989): "إن مها بيرقدار كما النجمة ترى نفسها سائرة إلى الله أو فيه مع ما يكتنفها من حزن... كأن كلماتها تستقيم صلاة ما كالبخور".

تتأرجح مها بيرقدار الخال بين السجن والحرية، بين الخجل والجرأة، بين الصمت والشهرة، بين التضحية ورغبتها في التحرّر من هذه التضحية. فأدب السيرة الذاتية على وجه العموم ينطوي على اعترافات جريئة وإن كانت منتقاة بعناية، وقد لا يحبّذها بعض القراء غير أنّ الكاتبة هنا كتبت ليس فقط لجمهورها بل لكي تتصالح ذاتها مع أناها الماضية، كتصالح الحبّ مع علّة وجوده فتتلاقى الأرواح مطمئنة مع من تحب.

                                                                                  

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.