}
عروض

"التاريخ الثقافي للألم": حين يشكّل الإبداع "أماكن مشتركة" للأذى!

يوسف الشايب

11 يونيو 2024



في كتابه "التاريخ الثقافي للألم"، يجمع المفكر والفيلسوف الإسباني خابيير موسكوسو، ما بين التاريخ والفلسفة، للحديث عن الأشكال المتتابعة، والتي يمكن وصفها بغير التقدميّة، لتجسيد تجربة الأذى، وعن الأساليب الفنيّة والقانونية والعلمية، التي شكّلت مساحة أكثر رحابة، منذ عصر النهضة إلى أيامنا هذه، لجهة فهم ثقافة المعاناة الإنسانية.

ويرى موسكوسو في الكتاب الصادر عن دار نينوى للنشر والتوزيع في دمشق، بترجمة الفلسطيني حسني مليطات، أن التمثيل، والتعاطف، والمحاكاة، والتماسك، والثقة، والسردية، هي بعض الموارد البلاغية والحجاجية التي استخدمناها وما زلنا نستخدمها، حتى نشعر بألمنا، ونعبّر عنه، ونمنحه بعدًا دلاليًّا، وقيمة جمعية، فبعض هذه الأشكال التي تُشكل الألم في واقع متعدد الذوات، وبصورة قابلة للتحليل، يمكن اعتبارها "مخططات" وليست "أنماطًا عاطفية"، بل إنها "أماكن مشتركة" أكثر من هذه وتلك.

ومما خلص إليه موسكوسو أنه بالنسبة إلى من يتألّم، فإن احتمالية أن تكون تجربة ضرره ذات دلالة ثقافية، تزداد، اعتمادًا على ما إذا كانت ثمة إمكانية للمحاكاة والتمثيل، فإذا لم ترتبط تجربة الألم المدرّة لمشاعر التعاطف والإعجاب بسبب واضح فإن الفشل المترتب على ذلك ينبغي أن يكوّن ويكون تاريخًا متسقًا داخليًا، ومتناسقًا مع المعرفة والحالات السابقة.

وتجتمع في "التاريخ الثقافي للألم"، موضوعات عدّة، من قبيل: إيماءات الشهيدات العذارى، والسخرية التي صاحبت مغامرات دون كيخوته، والتكفير عن الذنب الذي حدث سرًّا داخل الأديرة، وكوميديا المازوخية الجنسية، والمسرح التشريحي في العالم الحديث، وتغيير المرضى المُخدّرين، والآلام الواعية الناجمة عن الاضطراب العصبي، والآلام اللاواعية الناتجة عن المرض العقلي.

ويختلف موسكوسو مع الفيلسوف والكاتب الروماني إميل سيوران (1911- 1995)، الذي كان من المستحيل بالنسبة له، اللقاء أو الحوار مع الألم الجسدي، بحيث جعل الفيلسوف الإسباني من كل صفحة من صفحات كتابه هذا دعوة إلى هذا اللقاء، وتعزيز هذا الحوار.

وتتمحور الفكرة العامة التي يدافع عنها الكتاب، حول أنه "لا يوجد ألم من دون وجود دليل عليه"، إلا أن هناك "الكثير من الأمور التي حدثت بعد ذلك".

وعمومًا، فإن الدراسات عن الألم وتاريخه، لم تكن دارجة بصيغة علمية قبل عام 2010، وتضاعفت في اتجاهات متعددة بعد ذلك العام، وبمساهمات ملحوظة في مجالات: التاريخي الثقافي، والنظري السياسي، وتاريخ الفن والعلوم، بالإضافة إلى المجالين الاجتماعي والأنثروبولوجي، إلا أن موسكوسو وجد أنه، وبمرور السنوات، لم يكن هناك الكثير من الاهتمام بالبحث التاريخي، وإنما بسياق الحركات الاجتماعية التي ركّزت على الاعتراف بإيذاء النفس، وعلى معاناة الآخرين، لكن الظروف العالمية التي ظهر فيها هذه الكتاب تختلف عمّا جاء قبله أو بعده، حيث الاستهلاك الضخم لألم الآخرين، والاتجاه نحو تسليع الأذى، في تقليد مُعاصر لسياسات العصور الوسطى، من دون العمل على تحقيق المعرفة، أو التحرّر، أو تعزيز الصراع ضدّ عدم المساواة أو في مواجهة الاضطهاد، بل بالعودة إلى القوة الخلاصية للألم، عبر سلطة أخلاقية للضحية، و"كهنوت تبشيري بيّن"، وليس بتوظيف ولو جزء من أشكال التديّن العلماني الجديد.

ورأى الفيلسوف الإسباني أنه، ومنذ عشر سنوات، أي حين صدر كتابه بالإسبانية، كان الدفاع عن توسيع النظرة الإنسانية إلى الألم، الذي عدّه "غير مهيّأ اجتماعيًا لتبني المشروع، واضحًا جدًا، ما أدّى إلى المطالبة بإخفاء الألم غير الضروري تدريجيًا"، ومع ذلك، "لم يكن هذا ادعاءً مُحفزًّا من الخندق السياسي، ولم ينشأ أيضًا، لا في الأساليب الأكاديمية ولا السياسية"، مُعتبرًا ذلك "مغالطة مؤكدة"، ولكنه، ورغم ذلك، "أصبح هذا الشكل من الخداع السمة المميزة للتعصب المعاصر".

وبينما يدافع هذا الكتاب عن أنه "لا يوجد ألم من دون أدلة أو شواهد، بمعنى أن الأدلة شرط ضروري للألم الدلالي ثقافيًّا، فهو لم يدافع قط، ولن يستطيع، فعل ذلك، فور الإعلان عن الدليل الفعّال كشاهد على تأكيد وجود الألم"، كما هي الحال في الممارسات القضائية، فالشخص المعنيّ لا يمكنه أن يكذب فحسب، بل أن يخدع ذاته أيضًا، لذا وجد موسكوسو أن "الدليل وحده لا يضمن بأي طريقة وجود ألم، ومع ذلك أصبح الخلط بين الشروط الضرورية والكافية قانونًا تحت رعاية الصراع السياسي الشائع، الذي يقوم به، في معظم الأحيان، أولئك الذين، وعلى نحو حرفيّ، لا يتأملون من شيء على الإطلاق".

ووجد موسكوسو أن "من آثار تعليم العدالة فصل الشاهد عن الشهيد"، وإن كانت "مجتمعاتنا أعادت الامتيازات الأخلاقية جميعها إلى التضحيات المنطقية"، فـ"باسم التحرر، عُدنا إلى قيم المجتمع بطريقة كريستولوجية، مدعومة من أولئك الذين ينسبون إلى أنفسهم، بحق أو دون حق، دور الضحايا الحقيقية والمتخيلة"، مُضيفًا إلى ذلك أن "المعارك السياسية الجديدة تحرّرت من المجال العاطفي، ومن الانتماء إلى مجتمع يعاني بسبب قبول قصة مشتركة، التي يمكن أن تصبح على نحو تام، قصة خياليّة، وعبر الطقوس البدائية التي تمضي، في معظم الحالات، عبر الذرف المُعلن للدموع".

وشدّد صاحب "التاريخ الثقافي للألم" على أن هذا الشكل الجديد من التظاهر برقّة المشاعر الاجتماعية، والمبني على الاقتران البدئي للقصص الأسطورية والطقوس المجتمعية، لا يُوجِد توجهًا كبيرًا للاهتمام برفاهية الآخرين، بل أدى إلى مجتمع متذمّر، ونقيّ بعض الشيء، إذ أصبحت المظاهر العامة للألم، "في انتظار النفاق، وحجّة الظلم".

وممّا خلص إليه موسكوسو أن الألم، سواء أكان مُدركًا أم غير مدركٍ، ليس أكثر أهمية من حضوره المعترف به اجتماعيًا، لكن إذا لم تكن هناك قدرة على ملاحظته، وإذا لم يُنتج تعاطفًا، وإذا لم يرتبط بأي أذى، ولا بأي اضطراب عضوي، وإذا افتقر إلى التماسك السردي، وإذا لم يكن موجودًا اجتماعيًا، فسيكون من الضروري محاولة اللجوء إلى أكبر عدد من الحالات، باعتبار أن الفلسفة تعترف بأن التكرار أفضل طريقة للتعبير عن الاختلاف، فهي تشتمل على استراتيجية بلاغية يمكن من خلالها تحويل يقين التجربة إلى حقيقة اجتماعية وذاتية مُشتركة.

ووجد المفكر الإسباني أنه، كدراما، يحرّك الألم عناصر التمثيل المسرحي كلها، فلتجربة الأذى ممثلوها، وحبكتها، وصالتها، وملابسها، ومقتنياتها، وفن زخرفتها، بالإضافة إلى جمهورها، بعيدًا عن كونه لا صوت له أو يتحدّى اللغة، فإن التشكل الأدبي لتجربة الأذى هو المسرح، مؤكدًا على أن تعبير الألم الثقافي ليس إشاريًّا فحسب، لذا فيمكن تجسيده فوتوغرافيًا، أو في قصائد شعرية أو نصوص نثرية، وإن بقي المسرح هو مساحته الأهم، مدللًا على ذلك بأنماط عدّة من المسرح وتكويناته المرتبطة بالألم، بينها: مسرح القسوة، ومسرح التشريح، والمسرح الباروكي للتنافس، والمشهد المستنير للعنف، ومسرح العمليات المرتبط في العالم الحديث بخطاب جراحة الأسنان أو التوليد، والكوميديا المازوخية، وكوميديا المرض العقلي، ففي "دراما الألم، من يتألم هو الذي يفسّر الدور الذي يخلقه الاقتناع، وذلك في ظل التقيّد الصارم بقواعد الإقناع".

يمكن اعتبار كتاب "التاريخ الثقافي للألم"، أول كتاب يطرح دراسة مُطوّلة حول تجربة الأذى، وتحديدًا منذ نهاية القرن الخامس عشر، حتى نهاية القرن العشرين، حيث يدافع عن فكرة أن السياسة، إلى جانب الكتابة الشعرية عن الألم، ودراسة عناصره البلاغية، هي الشكل الفعّال أكاديميًا، والمسؤول أخلاقيًا عن التركيز على الألم الاجتماعي والتاريخي، الذي لم يلتفت إليه أحد.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.