}
عروض

توم لوتز: في تشريح دموعنا على طاولة الثقافات

ميشلين مبارك

6 يونيو 2024


يرتبط البكاء بالإنسان ارتباطًا وثيقًا منذ الولادة حتى الممات. وفي الواقع ليس الإنسان وحده هو الذي يذرف الدموع، فالدراسات تؤكد أنّ الكائنات الحيّة الأخرى تبكي أيضًا، ولكنّ الدموع عند الجنس البشري تثير المشاعر وتستعطف الصغار والكبار. وقد تناولت الكثير من الدراسات فعل البكاء، وبيّنت علاقته المتينة مع الحياة، فنراه في الفرح والحزن، في الكتب المقدسة، في الأدب، ورثاءً في الشّعر، في علم النفس والأنثروبولوجيا والسوسيولوجيا وغيرها، غير أنّ أبرز الكتب الحديثة في هذا المجال هو كتاب "تاريخ البكاء: تاريخ الدموع الطبيعي والثقافي" للكاتب الأميركي المعاصر توم لوتز Tom Lutz ونقله إلى العربية عام 2022 الكاتب الليبي عبد المنعم محجوب ضمن "دار صفحة 7".

في مقدّمة كتابه، يسأل لوتز قرّاءه عددًا من الأسئلة التي ما تزال تحيّر الإنسان حتى وقتنا هذا، ومما يسأل: "لماذا نبكي؟"، و"ما الذي يميّز دموع السعادة عن دموع الفرح أو دموع الفخر؟". من المؤكد أنّ البكاء يتنوع مع تعدّد أسبابه والإشارات العاطفية التي يرسلها. في المقابل تختلف ردود أفعالنا تجاه بكاء الآخرين. والأمثلة التي يعطيها الكاتب عديدة، كبكاء الآباء المسيحيين في العصور الوسطى في صلواتهم واسمه "بكاء النعمة"، أما عندما يبكي المهرّجون فبكاؤهم يشكّل مصدرًا للمرح، وأمّا بكاء الطفل الرضيع فهو ناجمٌ عن رغبته في الأكل أو في النوم. يشرح لوتز في كتابه أسباب الرغبات الناجمة عن ذرف الدموع كالرغبات المتناقضة والمعقدة فنبكي لأنّ البكاء يُشعرنا بالتحسّن؛ وهذا ما سُميّ بنظرية "الدموع التطهيرية" أي التنفيس لما له من علاقة بعلم النفس، فالدموع هنا تجعل الإنسان يشعر بالتحسّن، كما يمكن أن تكون الدموع خلاص الإنسان والتحررّ من معاناته، وقد تناولت العديد من الثقافات القديمة فلسفة هذا النوع من البكاء من بابل القديمة ثم اليابان في القرن الرابع عشر إلى أوروبا في القرن الثامن عشر.

مستشهدًا بقول صموئيل بيكيت: "كلماتي هي دموعي" يبرهن الكاتب أنّه بالنسبة للبعض فإنّ العكس صحيح أيضًا، مشددًا على أنّ الدموع هي لغة تواصلية أساسية وغاياتها مختلفة. ولعلّ تعدّد الأمثال والأقوال عن البكاء جعله مادة تعبيرية عن ثقافات الشعوب وتجاربهم وبالتالي نشاطاتهم الحياتية مثل الولادة والحبّ والموت وغيرها من الأمور. وبهدف ترجمة الدموع إلى مجموعة متنوعة من اللغات، التاريخية، والفسيولوجية، والنفسية، والإجتماعية، والأنثروبولوجية والفلسفية وغيرها، قسّم الكاتب الأميركي فصول كتابه هذا إلى سبعة فصول، بالإضافة إلى المقدمة، ثم ينتهي الكتاب بخلاصة نهاية الدموع وقاموس علم البكاء.

يتحدّث لوتز عن دموع الملذّة ودموع النعمة والبطل الباكي؛ هنا يميّز الكاتب بين الدموع الأصلية والدموع الزائفة، ولعلّ هذا التمييز قد ظهر في الخرافات القديمة، وثقافة البلاط ثم في الأفلام والمسرحيات الكوميدية. ولشرح هذه النظرية، اعتمد لوتز على الدراسات التي قام بها بعض المؤرخين في هذا المجال، أمثال فليمينغ فريس هفيدبيرغ عن "دموع العهد القديم"، وتاريخ ساندرا ماكنتاير عن "الدموع المقدسة" من القرن الثالث حتى القرن العاشر، ودراسات شيلا بيغ باين وآن فنست بافولت عن البكاء في فرنسا في القرنين السابع عشر والثامن عشر، مستنتجًا بأنّ هناك ثلاثة أنواع من الدموع: الدموع الحسنة أي الدموع البطولية، ودموع الصدق الإستثنائية، ودموع الملذة. في هذا السياق، ينحو الكاتب الأميركي ناحية الشرق الأوسط شارحًا عن أقدم سجل مكتوب عن الدموع على ألواح طينية كنعانية أُرخت في القرن الرابع عشر قبل الميلاد في قرية رأس شمرا (في سورية) العائدة إلى مملكة أوغاريت القديمة. وتحتوي الألواح الطينية على قصيدة روائية عن موت "بعل" إله الأرض، وقصة الإلهة العذراء أخته "عنات"، وكيف بكت أخاها عند وفاته: "أتخمت نفسها بكاءً حتى صارت تشرب الدموع كالخمر"، حتى أعادت بعل إلى الحياة. ومن الأساطير إلى الكتاب المقدس، حيث يستشهد الكاتب بأمثال واردة في العهد القديم والعهد الجديد عن الدموع العاطفية، والفرح الآتي بعد الحزن والبكاء. أمّا بالنسبة إلى دموع المّلذة، فقد حفل أدب أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر بروايات وقصائد تصف هذا النوع من البكاء.

يعنون الكاتب فصله الثاني بـ "الجسد الباكي"، ويطرح فيه المؤلف عملية فهم الجهاز الدمعي والإفرازات التي تنتجها العين، متحدثًا عن فسيولوجيا الانفعالات المعاصرة والتي بدأ العلم دراستها في ثلاثينيات القرن العشرين، وهي إلى الآن ما تزال محاطة بالجدل والخلاف حول موضوعاتها بين الحقول المتنافسة كالسيكوبيولوجيا (علم النفس الإحيائي)، وعلم النفس العصبي، والفسيولوجيا العصبية (علم وظائف الأعضاء العصبية). فكل هذه التخصصات لديها منهج مختلف في دراسة الجسد الباكي. ويسلّط الكاتب الضوء على كيفية شرح الدموع في الطب الإغريقي ثم في العصور الوسطى، ثم عند أطباء عصر النهضة وصولًا إلى العلوم الحالية مع تفسير مسهب عن وظائف الدماغ الانفعالي مستندًا إلى دراسات أطباء وعلماء أعصاب وفلاسفة خصوصًا أفلاطون، ديكارت وداروين. ويستنتج قارئ لوتز بأنّ الغدد الدمعية تتقلّص لدى الرجال والنساء مع تقدم العمر، فينتج الجسد بحلول سن الخامسة والستين ما نسبته 60 بالمئة من الدموع التي كان ينتجها في مقتبل العمر، وتصبح النسبة بحلول سن الثمانين 30 بالمئة فقط.

وفي فصله "سيكولوجيا الدموع" يعالج الكاتب النظريات السيكولوجية للدموع، منطلقًا من مصطلح التطهير (catharsis) الذي استخدمه أرسطو للمرة الأولى أثناء مناقشة "المسرح التراجيدي" في فنّ الشعر في إشارة إلى التنقية والصفاء من مشاعر الشفقة والخوف. وقد استوحى الكتّاب الكلاسيكيون من الآراء الأبقراطية (نسبة إلى أبقراط) والأرسطية (نسبة إلى أرسطو) في كتاباتهم عن البكاء التطهيريّ. وحتى يومنا هذا، فإنّ فكرة التطهير لا تفارق المعالجين النفسانيين القائلين بحاجة الإنسان إلى أن يكون على اتصال بمشاعره وفكرة الكبت ضارة بالصحة، فنحن بحاجة إلى "تسييب الدموع". ويشرح لوتز تعقيدات اعتبار فكرة البكاء مفيدة والتي تنطوي على مجموعة متناقضة من الافتراضات التي ما لبثت أن سقطت تقريبًا جميعها أمام الأدلة القاطعة من البحوث الطويلة على مرّ العصور، جاذبًا القراء إلى أبحاث كلّ من الطبيب جوزف بروير وسيغموند فرويد عن العلاج التطهيري واكتشافهما العلاج الكلامي للهستيريا في القرن التاسع عشر. وتناول الكاتب أفكار المدرسة السلوكية، وأنه على الرغم من أن هذه المدرسة جاءت مع دراسات بافلوف للاستجابة الشرطية، غير أنّها أخذت اسمها كمنهج علمي عن طريق جيمس واتسون باستخدام التجارب المعملية على كل من الحيوانات والبشر. وأكثر من أثرّ في هذا المنهج هو عالم النفس الأميركي جون واتسون الذي خلصت دراساته وأبحاثه إلى اعتبار "أنّ حبّ الأمّ المفرط هو المسؤول، من بين أمور أخرى، عن بكاء الأطفال المفرط". أما تيار الإدراك، فإنه بنظر الكاتب يعتمد على أهمية استدعاء المرضى النفسيين للذكريات التي حاولوا تجنّبها بسبب الانفعالات السلبية التي أثارتها في نفوسهم، وإعادة صياغتها بشكل إدراكي في العلاج النفسي، ووفقًا لعلماء النفس الإدراكي فإنّ الدموع يمكن أن تغسل المشاعر المكبوتة.

ويطرح لوتز تعدّد الدراسات التي قام بها بعض علماء الاجتماع والأنثربولوجيا بأنّ الدموع تبدو وكأنّها ناجمة عن ممارسة طقوس محدّدة مثل الجنائز أو بعض حفلات الزفاف، كما في بعض التقاليد لدول معينة، كأن يبكي الرجال أكثر من النساء (في الجبل الأسود)، وفي دول أخرى على النساء أن تبكي ويبقى على الرجال ضبط انفعالهم. وهنا لا بدّ من فهم الافتراضات الثقافية المتطلبة للبكاء تبعًا لكل مجتمع. ويشرح لوتز هذا الموضوع مع العديد من الأمثلة، ولعلّ أبرزها عدم انتحاب جاكلين كينيدي في جنازة زوجها الرئيس الأميركي السابق جون كينيدي واعتبارها بطلة "ذات أبعاد أسطورية تقريبًا"، ونرى في ذلك بأنّ تحديد قواعد التعبير الانفعالي من خلال البكاء هو أمر دائم التغيير. في سياق متصل، فإنّ بكاء الرضيع عند بعض القبائل نذير شؤم (كما في قبيلة توراجا في إندونيسيا)، والأمثلة على هذا النوع من البكاء تتعدد وتتوزع على الثقافات الأفريقية والآسيوية والأميركية.

يشرح لوتز في كتابه أسباب الرغبات الناجمة عن ذرف الدموع كالرغبات المتناقضة والمعقدة 


ويجول المؤلف بالقارئ في "ثقافات الحداد" على بعض الجزر في المحيط الهندي وثقافاتها ليخبرنا عن أشكال الحداد فيها والتمايز في ذلك ما بين النساء والرجال، وكيف تتداخل انفعالات الفرح مع نوبات البكاء والتي أحيانًا تكون صاخبة كما عند بعض الجماعات في البرازيل. وفي الواقع، قد تكون طبيعة الموت واحدة في العالم بأسره لكنّ استجابة الإنسان له ليست كذلك. انطلاقًا من هذه الفكرة، يتنقل القارئ بين طيّات "ثقافات الحداد" من ثقافة إلى أخرى ومن عصر إلى آخر للتعرف على طرق تعابير مختلفة بما يخص الفقد الشخصي والاجتماعي، بحيث قد تكون بعض الأنماط رموزًا جنائزية متقنة أو مكثفة أو حتى غريبة بالنسبة للناظر إليها. وفي المحصلة، وبحسب علماء الأنثربولوجيا فإنّ هذه الانفعالات هي جزء من ثقافة كل شعب وكل بلد.

ويشرّح لوتز "دموع الانتقام والإغواء والهروب والتعاطف" حيث "الدموع اللإرادية والتي قد تشكل نوعًا من أنواع الابتزاز العاطفي للحصول على مساعدة معينة أو عمل ما"، وحيث أنه باستطاعة الدموع أنّ تغيّر رأي شخص أو مجموعة حيال مسألة معينة، كما وصفها جان بول سارتر قائلًا بأنّ بعض الانفعالات قادرة على إحداث "تحوّل سحري" في العالم. وبرأيه يشكّل الانفعال هنا منفذًا للهروب من المواقف غير المقبولة. كما تتشكّل العلاقة بين الحداد والانتقام في الثقافة بشكل جزئي خصوصًا في أفلام المافيا. ثم يتطرق لوتز إلى السياسة الأميركية إبّان الحرب الباردة والتحقيقات المخابرتية للتكلم عن العلاقة بين البكاء والإغواء. وبالنسبة لعلاقة البكاء مع التعاطف، يوضح أنّ الكلمة الحديثة نسبيًا، ظهرت بادئ الأمر في الأدب الألماني حيث تتماهى مع البكاء في نظرة الأشخاص الآخرين أنفسهم عند رؤية الممثلين يلعبون في أفلام أو مسرحيات تعكس حياتهم، لذلك كانت الدموع المتعاطفة من أجل أنفسنا ومن أجل الآخرين.

يبحث لوتز أيضًا في "دموع أدبيّة وفنيّة" ويدخلنا معه إلى عالم الأدب الإنكليزي مع شكسبير في "هاملت" غارفًا من الألغاز الفنيّة الدرامية في واحدة من أشهر فقرات المناجاة في المسرحية، وكيفية استجابة الجمهور لدموع الممثل. ويستشهد لوتز بمسرحيات إنكليزية أخرى وفرنسية وأميركية للغوص في الينابيع الرئيسية لاستجابة الجمهور الدامعة أمام القصص والتمتع بالمشاهد الباكية، وهذه الينابيع هي التعاطف، القسوة والتسامي. ثم يتطرق إلى روايات دوستويفسكي ودموع أليوشا، وحيث يرى المحللّ النفسي ساندور فيلدمان أن لا وجود لدموع الفرح، بل يبكي القارئ (أو المشاهد في المسرحية) نفسه في النهايات السعيدة لأنه في قرارة نفسه يدرك بأنّ لا وجود للنهايات السعيدة. في هذا السياق، تأتي أهمية أدوار الدراما والميلودراما والكوميديا لاستقطاب البكاء، والأمثلة على ذلك عديدة كبعض أفلام ألفرد هيتشكوك وغيرها من الأفلام الهوليودية سواء الكلاسيكية أو الحديثة.

في الخلاصة المعنونة "نهاية الدموع" يسأل المؤلف: "متى يمكننا أن نتوقف عن البكاء؟" والإجابة تختلف باختلاف الثقافات، ففي الطقوس القديمة كانت بعض القبائل في الألسكا على سبيل المثال تقيم ولائم شرط التوقف عن رثاء الميت. ثم يسرد لوتز بعض الشواهد من الأوديسة والألياذة إلى حكاية يسوع المسيح في الإنجيل المقدس، ليقول بأنّ اللحظات الدامعة يجب أن تمر، شارحًا تأثير قمع الحزن في علم النفس بحسب فرويد وداروين وغيرهما.

في كتابه الموسوعة "تاريخ البكاء: تاريخ الدموع الطبيعي والثقافي" نجح توم لوتز في جمع روافد هائلة من المراجع والاقتباسات مستعينًا بأعداد هائلة من النظريات الفلسفية والدراسات والأعمال الفنيّة والأدبية والنقدية والطبية والوثائقية في العالم مزودًا القارئ بسلسلة من المعلومات الموثقة من ثقافات واسعة ومتنوعة حول العالم منذ أبقراط وقرون ما قبل الميلاد حتى تاريخنا المعاصر، وكنا ننتقل معه معرفيًا من مكان لمكان ومن زمن لزمن، ما يشكّل إضافة مهمة للمكتبة العامة.  

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.