}
عروض

في ثقافة وفن الطرب في العالم العربي

عمر كوش

7 يونيو 2024

تحتل الموسيقى مكانة خاصة في حياة الإنسان، حيث تثير فيه مشاعر وانفعالات، وتؤثر عليه عاطفيًا وذهنيًا وجسديًا. وقد انشغل عدد من الفلاسفة والمفكرين والباحثين بتفسير قدرتها غير العادية على التأثير في الإنسان، وحاولوا تقديم فهم لقدرتها على الجذب عبر وسيلة سمعية. ويتطرق الباحث والموسيقي البريطاني، اللبناني الأصل، علي جهاد الراسي، في كتابه "صُنع الموسيقى في العالم العربي: ثقافة وفن الطرب" (ترجمة عامر شيخوني، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2024)، إلى عالم الموسيقى من جهة كيفية صنعها، عبر تناول ثقافة وفن الطرب في المجال العربي، وفهم العلاقة بين الموسيقى والتغيُّرات العاطفية لدى الناس، وتقديمه دراسة عن الموسيقى العربية وأبعادها الوجدانية والعاطفية، بوصفه باحثًا أكاديميًا وعازفًا موسيقيًا له رؤيته وأفكاره، التي تنهل من تجاربه وثقافته، إضافة إلى ما تقدمه تجارب مماثلة في سياقات عالمية متعددة.
ينطلق الراسي من اعتبار الطرب مجالًا ثقافيًا متخصصًا، يشار إليه باسم "عالم الطرب"، ويشمل الفنانين وتراث المخزون الموسيقي، والأيديولوجيات المتعلقة بالموسيقى، والمواقف والسلوكيات، بما فيها طرق الاستماع والاستجابة للموسيقى. ولا يلتفت إلى المجال التقني في الموسيقى، والآلات الموسيقية وتطور استخدامها مع الزمن، بل يصبّ جلّ اهتمامه على أثر الموسيقى، فيذهب إلى التأكيد على وجود عاطفة عميقة توقظها الموسيقى العربية، التي تتوجه إلى المشاعر والأحاسيس، فتؤثر في حالة السامع (أو السميّع) في عالمنا العربي، فيدخل في نشوة الطرب، التي تضفي عليه انفعالًا يتقرب من الحالة الغريزة.




يستند التناول البحثي إلى الفصل بين الموسيقى العربية والأوروبية، مع الاعتقاد بأن الموسيقى الأوروبية تنشغل بالصور والمفاهيم، فيما تتعلق الموسيقى العربية بالعواطف والأحاسيس، وعليه ينغمر التذوق الشرقي للموسيقى بالإحساس والانفعال، ويتمحور هاجسه الكلي بالحب والعاطفة. وقد استند المؤلف إلى هذا الفهم من دون النظر مليًا في خصائص المجتمعات العربية وقضاياها النفسية والاجتماعية، الأمر الذي أفضى إلى تصوره روحًا شرقية خاصة، تمتاز بعاطفة متدفقة، وبذوبانها في العشق والنشوة. وهذا التصور ليس جديدًا، إنما سبق وأن حاول الاستشراق تسويقه وتصديره للعالم، وينهض أساسه على أن الشرق مسكون بالعاطفة التي لا يمكنه الخلاص منها، فيما الغرب مسكون بالعقل والتعقل وهما متأصلان فيه!
لم يكن المؤلف في حاجة للجوء إلى سلوك مسار المقارنة التقابلي في الموسيقى، الذي يضع "الشرق مقابل الغرب"، ودفعه إلى محاولة تلمس بدايات التغيير في الشرق، كي يشير إلى أن الشرقيّين خلال محاولاتهم تعريف أنفسهم سكنتهم رغبة عارمة في محاكاة أوروبا، بصفتها نموذجًا "أعلى"، أو "متقدمة ثقافيًا". وكان الأجدى نقد مثل هذا السعي وتبيان حيثياته، لكن المؤلف آثر الرجوع إلى بداية الاحتكاك الموسيقى بين الغرب والشرق، التي جرت خلال حملة نابليون بونابرت على مصر، حين قاد، غيوم أندريه فيوتو، فريقًا من الموسيقيين لحضور حفلة لمنشدين دينيّين، كانوا يستجيبون لطلب مستمعيهم إعادة مقاطع معيَّنة، وتنويع إبداعاتها اللحنية، وسْط نشوة المستمعين وانفعالهم العاطفي الشديد. ورأى فيوتو أن الاستعراض الغريب للعاطفة والانفعال والثناء المفرط هي جزء جوهري من الموسيقى المصرية، وسلّم بأنه "لا جدوى من الحُكم ضد تذوُّق أمة بأكملها". وبالتقابل مع ذلك، فإن أحمد فارس الشدياق، الذي أُتيحت له معايشة الموسيقى الأوروبية خلال زيارة مالطا ولندن وفرنسا، حاول المقارنة بين الموسيقى الغربية والشرقية، بالاعتماد على استخدام النوتة والهارموني في التأليف الموسيقي الغربي، والمرونة الإيقاعية الشرقية، واستنتج أن الموسيقى الأوروبية "عقلانية" و"متحفّظة عاطفيًا"، وتخدم هدف تمثيل الصور والمفاهيم، فيما تختص الموسيقى الشرقية بإثارة مشاعر قوية. 

مؤلف الكتاب، الباحث والموسيقي البريطاني، اللبناني الأصل، علي جهاد الراسي (Getty)

وعليه، يرى المؤلف أنّ فيوتو والشدياق استفادا من توصيف كلّ منهما ثقافةَ الآخر الموسيقية، وأنهما "سمعا بأذُن عربية وعين مبهورة بالإنجازات الأوروبية"، ليخلص إلى التوفيق بين نظرتيهما بالقول إن الموسيقى عمومًا هي عاطفية وتأثيرية في الوقت نفسه.
يجري تناول الموسيقى العربية بالاعتماد على مفهوم الطرب الذي يستولي على قلوب السامعين، بوصفه بعدًا خاصًا من أبعاد جمهور الموسيقى العربي، وظلّ ناظمًا لعلاقة الموسيقى بجمهورها على الرغم من أن دخول التقنيات التقنية الحديثة إلى الحياة العربية، إلى جانب الثقافية والفنية، أخذت مكانًا فيها أيضًا، حيث يشكل الطرب بيئة أو ثقافة متخصصة بالموسيقى، الأمر الذي يطرح تساؤلات حول حالات التمايز العاطفيّ، مثل النشوة، وما إذا كانت تمنح شعورًا بالفردية والقوة، وما تقدمه ثقافة الطرب من بدائل في الحياة العربية، خاصة وأن المؤلف يرى أن الطرب تعبير عن تحوّل عاطفي تحدثه الموسيقى، والغناء بشكل عام، في كينونة المتلقي، تتجسد في حالة عاطفية غير عادية تصدر عن الأثر الموسيقي، لكنه لا يعطي تعريفًا معينا للطرب، ليبقى مختلطًا بالرغبة والحنين والانفتاح الروحي والفرح والنشوة وسوى ذلك.
وبالنظر إلى تأثر المجتمعات العربية بالمجتمعات الأوروبية، فإن التأثر انسحب بشكل كبير على المجال الموسيقي، حيث جرى تدريس النظريات الموسيقية الأوروبية، وثمّ استُخدم نظام النوتة الموسيقية، ودخلت آلات عزف غربية إلى ما يسمى "التخت" الشرقي، وسوى ذلك. وحدثت تغيرات كبيرة في أنواع من الموسيقى المحلية في البلاد العربية، كما أن تركيز الموسيقى العربية على الجانب العاطفي شهد تراجعًا كبيرًا، إلا أن البعد العاطفي ما يزال مسيطرًا على الموسيقى العربية ويتمتع بتأثير قوي نظرًا إلى ما يلخّصه مفهوم الطرب، الذي يدل على مخزون موسيقي يرتبط مباشرة بالاستحضار العاطفي والحالة النفسية غير العادية التي تثيرها الموسيقى الطربية و"آلات الطرب" الخاصة بها، والتي تستدعي بلوغ "النشوة".




وعليه يدرس المؤلف الموسيقى العربية، خاصة في مصر وبلاد الشام، في الفترة الممتدة من أواخر القرن التاسع عشر إلى العشرية الأولى من القرن الحالي، مركزًا على موضوع الطرب، وعلى الانغماس في الإحساس العاطفي الموسيقي، مع التطرق إلى آراء بعض المطربين والموسيقيين، واستعراض التجارب الفردية لعدد من صُناع الطرب، ومحاولة تقريب ظاهرة "النشوة" الموسيقية إلى الأذهان، كونها تعود في الأصل إلى ممارسة وتجربة حية، وتشبه الحالة الصوفية التي يصعب وصفها من دون استخدام الاستعارات.
لا يتردد المؤلف في الإشارة إلى ظواهر سلبية في علاقة الموسيقى بالثقافة في مجتمعاتنا العربية، حيث يشير إلى أن الطرب يعكس توجها ذكوريًا، مع أن نساء كثيرات تفوقن في الغناء والعزف في بلاطات العصور الوسطى، واكتسب بعضهن شهرة ونفوذًا. أما حديثًا فقد أظهر التزمت الديني عدم ارتياح في نظرة أصحابه إلى الفن والغناء، لكن ذلك لم يمنع انجذاب أوساط اجتماعية إليه، فيما تقف أوساط محافظة موقفًا سلبيًا من المرأة المطربة، التي لا ينظر إليها باحترام كاف، ولا تستسيغ أوساط كثيرة عملها، أو فنها، إلا كأنثى. وما تزال المجتمعات العربية التقليدية تطلب من النساء إظهار فضيلة الاحتشام، ويسود فيها اعتقاد بأن النساء اللاتي يسعين نحو مهنة موسيقية لا ينسجمن مع خصوصية الحياة الزوجية، ولا مع عادات المجتمع وأعرافه. وبسبب ضغط مجتمعه، اضطر المطرب الشهير عبده الحامولي (1841 ــ 1901) إلى أن يطلب من المغنية الشهيرة "ألمظ"، بعد زواجهما، أن تعتزل مهنة الغناء، وتكرس نفسها للحياة الزوجية، فيما استمر هو نفسه في متابعة مهنة الغناء والتلحين. وكذلك كانت حال أم كلثوم (1904 ــ  1975)ً، حيث أن والدها الشيخ إبراهيم لم يسمح لها، في البداية، إلا بغناء القصائد والتواشيح، وفي أوائل حفلاتها كانت تغني أمام الجمهور مع والدها وأخيها، وكانت ترتدي ملابس الرجال التقليدية.
يرى المؤلف أن موسيقى الطرب تتميز بعاطفيتها المتمحورة حول الفرد، وترتبط كثيرًا بالشعر الغنائي، حيث تظهر فيها أغاني الطرب التي تؤثر من خلال مواضيع حبّ وعشق وصور عاطفة ذاتية. وتضيف كلمات الأغاني بعدًا طربيًا قويًا، حيث يشير العاملون في مجال الطرب إلى الكلمات باسم النصوص، أو الشعر، التي تختلف عن الشعر الكلاسيكي، وعن الكلام اليومي أيضًا. وتجتمع في أغاني الطرب مواضع الحب، من خلال تعابير وصور وخيالات نمطية. كما أن الشاعر يتحدث على لسان العاشق الذي يعبر عن حبه، أو يصف محبوبته والظروف المحيطة بعلاقة الحب، ليظهر أن الموسيقى هي حب بالمعنى الواسع للكلمة، وسواء كان حب فرد لآخر، أم عاطفة نحو مجموع، فهي تضيء الروح وتضيئها الروح، وتعطي الإحساس صياغة جديدة.
يقود المنحى الطربي الذي اتخذه المؤلف في كتابه إلى مفهوم "السلطنة"، الذي سبق وأن اجترحه موسيقيون لوصف حالة النشوة التي يصلها المستمع والمرتبطة بحالة ملهمة وجدانية، شاع وصفها بمصطلح السلطنة. فالسلطنة تحضر من أجل وصف حالة معينة تتعلق بالموسيقى، وتشير إلى حالة من الاندماج والتركيز الشديد الهيام روحيًا، وترتبط بالإيقاع أيضًا من خلال المقامات الموسيقية، حيث يجد العازف، أو المغني، نفسه مأسورًا بالإيقاع، أو مأخوذًا باللحن، ومشدودًا إلى كل ما يثير الطرب، حيث الفواصل والارتفاع والانخفاض والتوقف، وكل ما ينتج تلك الحالة من النشوة، حيث يحضر الحبيب والمحبوب، وتحضر معهما الرقة والجمال والورد والأضواء والخيالات والحسرات والآهات، وتحضر البهجة والخمرة والكأس والندامى.
ما يسجل في الكتاب هو أن مدار الدراسة والتناول فيه يتمركز على بعض البلدان العربية، ولا يشمل العالم العربي، أو بالأحرى البلدان العربية، حسبما يشير إليه عنوان الكتاب، بل ينحصر في مصر وبلاد الشام، أي ينغلق على تمركزية مشرقية تختزل ما هو عربي في دول المشرق، فالثقافة التي يتحدث عنها هي ثقافة مشرقية، ولا ذكر لأحوال الثقافة في المغرب العربي، أو الخليج، وبالتالي انحصرت صناعة الموسيقى العربية بالموسيقى الشرقية، وغاب ذكر أي مطرب أو مغنٍ مغربي، أو خليجي.    

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.