}
عروض

عن مصر التي لم تفلت من أيدي العسكر

عمر كوش

27 يوليه 2024

ما تزال أحداث الثورة المصرية، وما تلاها من حكم الإخوان المسلمين، وصولًا إلى انقلاب العسكر عام 2013، تحظى بالاهتمام والمتابعة، بغية تحليل وفهم تفاصيل ما جرى، وتبيان دور اللاعبين الأساسيين فيها، إضافة إلى استشراف مآلات الأوضاع في مصر ومستقبلها. وفي هذا السياق، يأتي كتاب "في أيدي العسكر: الحرية والفوضى في مصر والشرق الأوسط" (ترجمة محمد الدخاخني، دار جسور، بيروت، 2024)، للصحافي الأميركي ديفيد د. كيركباتريك، كي يسلط الضوء على مرحلة بأكملها من تاريخ مصر، بالاعتماد على متابعته للأحداث التي شهدها، أو اطلع عليها، من خلال عمله مديرًا لمكتب صحيفة "نيويورك تايمز" في القاهرة بين عامي 2011 و2015.
بُني الكتاب على ركيزتين أساسيتين، أولاهما التغطية الصحافية التي قام بها المؤلف للأحداث خلال علمه في الفترة الممتدة من أواخر عهد حسني مبارك، وصولًا إلى الانقلاب العسكري عام 2013، وانتهاء بعام 2016، وثانيهما الدور الذي لعبته إدارة الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما في مجريات الأحداث، من خلال عرض مواقف المسؤولين الأميركيين منها، وسرد فحوى اتصالاتهم ولقاءاتهم بالمسؤولين واللاعبين المصريين، وذلك بناء على معلومات حصل عليها المؤلف، ومقابلات أجراها مع الفاعلين السياسيين، إضافة إلى اعتماده على مصادر محدّدة بالاسم والصفة، وعلى معلومات توثق ما جرى من أحداث وأدوار قام بها مسؤولون أميركيون.
يبدأ المؤلف بإلقاء نظرة على ما شهده عهد مبارك من قمع وفساد، ثم يسرد بعض مقدمات ثورة 25 يناير/ كانون الثاني 2011، ودور الثورة في تغيير الأوضاع السياسية في مصر، وما كان يأمله نشطاء ميدان التحرير من انتقال ديمقراطي ينهي عهودًا طويلة من الاستبداد والديكتاتورية، ثم يتناول حكم المجلس العسكري (لواءات الجيش) وسيطرته على مقاليد السلطة في مصر، ليصل إلى الانقلاب العسكري الذي قام به الجنرال عبد الفتاح السيسي في الثالث من يوليو/ تموز 2013، مع الكشف عن أدوار السيسي في الأحداث والمتغيرات التي جرت في مصر منذ عام 2011، بدءًا من دوره في محاولات العسكر السيطرة على ميدان التحرير، مرورًا بدوره في إفساد ما قام به المجلس العسكري في استفتاء 19 مارس/ آذار 2011، الذي كان يهدف إلى نقل السلطة إلى المدنيين، عندما فاجأ المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصريين عشية التصويت بإعادة النظر في الأمر، وأنه سيواصل إصدار تعديلاته الخاصة على الميثاق الانتقالي بعد التصويت.




على الطرف الآخر من العسكر، يقف اللاعب الأميركي، حيث يرجع المؤلف إلى دوره في تحديد معالم منطقة الشرق الأوسط بعد الحرب العالمية الثانية، عبر رسم الولايات المتحدة ملامح حكم مصر من خلال إزاحة الملك فاروق ومباركتها الانقلاب على الملكية، والتي أفضت إلى إفراز بنية حكم تستحوذ على السلطة، أرسى قاعدتها نظام جمال عبد الناصر، ولم يخرج عنها نظام أنور السادات، ورسّخها نظام حسني مبارك، وما تزال مستمرة مع نظام عبد الفتاح السيسي، وبوجودها يتواجد الأميركيون في مختلف مفاصل الحكم، بدءًا من هواتف الرؤساء، مبارك، ومرسي، والسيسي، وسواهم، وهواتف رجالهم، وخاصة لواءات الجيش والشرطة، فيتصلون بهم أحيانًا ويتنصتون عليهم في أحيان أخرى، والكلمة الوازنة تعود إليهم في مسائل الحكم والسياسة وسواهما، بوصفهم "الخواجات"، حكام الولايات المتحدة التي قال عنها السادات: "هنالك قوة واحدة تحكم مصر والعالم، ألا وهي أميركا. والولايات المتحدة تمتلك 99 في المئة من أوراق اللعبة في الشرق الأوسط".
يستهل المؤلف كتابه بالمثل المصري الخاص بشرب مياه نهر النيل، الذي بنى عليه عبد الناصر السد العالي، باعتباره انتصارًا لا تشوبه شائبة، لكن من دون التحسب لعواقبه الوخيمة على خصوبة التربة، وعلى الناس الذين تفشت بينهم الأمراض والأوبئة. ومع ذلك، استمر المصريون في تمجيده، مع أنه مثال للتخطيط المركزي والسلطة غير الخاضعة للمساءلة. وبالانتقال إلى مرحلة مبارك، يحضر الفساد الضارب في مختلف مفاصل الدولة في مصر، ويحضر كذلك القمع وامتهان حقوق الإنسان والحيوان، مع صعود ظاهرة رجال الأعمال من أمثال أحمد عز، كنتاج لفساد منظومة استبدادية أفرزته ليس في مصر فقط، بل في سورية، وليبيا، وتونس، وسواها من بلدان الثورات العربية، التي بدأت في تونس، ثم انتقلت إلى مصر التي كانت تشبهها في الاستبداد والقمع والفساد، حيث يروي المؤلف أحداثها بوصفه صحافيًا، عايشها منذ الشرارة الأولى للثورة، وصولًا إلى إعلان مبارك التنحي، واستلام المجلس العسكري للحكم، وفرحة الناس في ميدان التحرير، الذين هتفوا "ارفع رأسك فوق أنت مصري". لكن الفرحة لم تكتمل نظرًا للخديعة الكبرى التي مارسها العسكر بحق الثوار، والتي وصلت إلى حدّ أن أحد ثوار حركة 6 نيسان/ أبريل قال إن الثوار فعلوا ما كان الجيش ينوي فعله بالفعل، وذلك حين كان كبار قادة الجيش يظهرون الود حيال المحتجين في الميدان، وجعلهم يشعرون أن الجيش في خدمة شباب الثورة، ورهن إشارتهم.

من ثورة يناير عام 2011 (Getty)

نجح قادة الجيش المصري في كسب ثقة جزء فاعل من ناشطي الثورة، وكذلك جزء كبير من الشعب المصري، وتمكن الجيش من نقل الغضب المتأجج لدى الناس إلى وزارة الداخلية، ونأى بنفسه عن ممارسات القمع التي كان سائدة قبل الثورة وما بعدها، فيما توجهت الأنظار نحو ضباط وقادة الشرطة وجرائمهم وتعسفهم، وبات عامة الشعب يتطاول عليهم، مع ارتفاع أصوات المطالبين بمحاسبتهم على جميع جرائمهم، في حين أن قادة الجيش باتوا في مأمن من ذلك، بل وتمكنوا من فرض أنفسهم كلاعبين أساسيين في الحياة السياسية مصر ما بعد الثورة. ولم يغب عن مؤلف الكتاب تبيان مدى تلاعب قادة الجيش بالجميع، حيث أورد عددًا من الوقائع التي تورطوا فيها بشكل مباشر ومفضوح، مثل ما عرف بكشوف العذرية، ومذبحة ماسبيرو، والتدخلات في قضايا السياسة، والاتصالات والعلاقات مع الأميركيين، وسوى ذلك. كما استعرض مواقف مختلف القوى السياسية الفاعلة في مصر، وإبراز الخلفية التي أتت منها، وكذلك الأمر بالنسبة إلى قادة العسكر ونشأتهم، وأجهزة الأمن، ونظام مبارك وأزلامه، وحزب الإخوان المسلمين، وقوى اليسار، والقوميين، والسلفيين، وخاصة حزب النور السلفي، الذي أسسته مجموعة من السلفيين بعد الثورة، برز من بينهم ياسر برهامي.
امتد تناول الفاعلين السياسيين في مصر إلى عصام سلطان، مؤسس "حزب الوسط"، وعبد المنعم أبو الفتوح، رئيس حزب "مصر القوية"، وإلى مراكز القوى، وكان من بينها جهاز القضاء المصري. ثم قام المؤلف بسرد الأحداث قبيل الثورة مع الحديث عن خلفية أهم الفاعلين فيها، ليصل إلى الانتخابات الرئاسية، التي كانت لأولى مرة حرة ونزيهة، وجرت جولتها الأولى في 23 و24 مايو/ أيار 2012، وتبعتها الجولة الثانية في 16 و17 يونيو/ حزيران من العام نفسه، وأسفرت عن فوز مرشح الإخوان المسلمين (حزب الحرية والعدالة) محمد مرسي، وهزيمة منافسه أحمد شفيق. وكانت الإدارة الأميركية تراقب الوضع عن كثب، حيث "كان مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض منعقدًا، وكانت هناك اجتماعات محمومة على مدار الساعة في غرفة العمليات، وكان الجميع يشعر بالقلق من انفجار الأوضاع مجددًا في مصر". وكان أوباما يأمل في إحداث تغيير في السياسة الأميركية السائدة والتأسيس لعلاقة جديدة مع العالم العربي، من أجل مواجهة التطرف، وقطع الطريق عليه، لذا دعا إلى احترام نتائج الانتخابات الحرة في مصر، لكن معظم المسؤولين في البيت الأبيض عبروا عن "مخاوف قديمة متجددة حول الخطر الكامن في الإسلاميين".




يرى المؤلف أن محمد مرسي، الذي سمح له المجلس العسكري بقيادة وزير الدفاع بإدارة الحكومة وإصدار قوانين جديدة، لم يفعل كثيرًا لتغيير مصر، حيث لم يختلف الوضع الإداري عما كان عليه أيام عهد مبارك، وكذلك الوضع المعاشي. وكانت أبرز سمات رئاسته هي تصميمه على كسب ودّ الجيش، كما تغاضى عن دعاوى قضائية ضد الشرطة، وبدا وكأنه يحمي قادة الجيش، وشكر مرارًا الشرطة وتملقها، حتى أنه أشاد بالشرطة في ذكرى ثورة 2011 التي قامت ضدها.
سياسيًا، واجه صعوبات وتحديات عديدة، إذ لم يكن مرسي يحكم مصر، بل كانت أجهزة الدولة العميقة القديمة، وفي مقدمتها جهاز القضاء، تضع العراقيل في طريقه، وكانت تشغله بمعارك جانبية، وحتى من بدا حليفًا له، وهو حزب النور السلفي، تبين أنه في الحقيقة كان ألدّ أعدائه. إضافة إلى المؤامرات الداخلية والخارجية التي كانت تحاك على الثورة في مصر، وخاصة من طرف بعض دول الخليج، التي سعت إلى إشاعة الفوضى، ونشر الشائعات، وإذكاء الفتنة بين مكونات المصريين، وتمويل المناهضين لحكم مرسي. كما أن "جبهة الإنقاذ الوطني" التي ترأسها محمد البرادعي كانت واجهة لتشكيل تحالف معارض لحكمه، فيما تمكن السيسي من الحصول على ثقته. وبدأت الاحتجاجات ضد مرسي، التي قادتها جبهة الإنقاذ وقوى الدولة القديمة إلى أن تفاقمت الأمور. ويروي المؤلف أن مرسي والإخوان حاولوا بكل الطرق إصلاح الأمر في 30 يونيو/ حزيران، لكن البيت الأبيض أخبرهم أن الوقت قد فات، وحدث الانقلاب في الثالث من يوليو/ تموز 2013، فيما اتفق بارك أوباما، ومعه وزير الدفاع الأميركي تشاك هيغل، ووزير الخارجية جون كيري، على عدم تسمية ما حدث في مصر بانقلاب، أو ثورة، أو أي شيء من هذا القبيل. ولم يتدخل أحد من المسؤولين الأميركيين من أجل إيقاف المجازر التي حدثت للإخوان والإسلاميين بعد الانقلاب.
الحاصل هو أن مصر عادت ثانية إلى قبضة العسكر في انقلاب الثالث من يوليو/ تموز 2013، مع أنها حاولت الإفلات منها بعد اندلاع ثورة الرابع والعشرين من يناير/ كانون الثاني 2011.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.