}
عروض

"الوحش": مدريد وصراعاتها وجماعاتها السرّية

عارف حمزة

31 يوليه 2024

يستطيع المرء أن يقول بأنه حصل على وجبة قراءة كاملة بعد انتهائه من قراءة رواية "الوحش" لكارمن مولا، وهي الرواية التي فازت بجائزة "بلانيتا" الإسبانية كأفضل رواية إسبانية لعام 2021، وتُرجمت إلى الكثير من اللغات العالميّة، ونالت بعد ترجمتها إلى اللغة العربية، من خلال المترجم المصري محمد الفولي، ومن ضمن منشورات دار عصير الكتب، جائزة جابر عصفور للترجمة في عام 2024.

مدريد 1834

تتناول الرواية فترة تاريخيّة حسّاسة ومؤلمة لمدريد وإسبانيا، وهي فترة الحرب الكارليّة الأولى (1833 - 1840)، كصراع على عرش إسبانيا، أدت إلى سقوط عشرات الآلاف من القتلى والمفقودين. وهي الفترة ذاتها التي اجتاح فيها إسبانيا وباء الكوليرا (1833 – 1843)، وفتك بما يُقارب 300 ألف قتيل.

ولكن الرواية لا تتناول كل المساحة الجغرافية لإسبانيا، بل مدريد وسكانها من جهة، والأهالي الفقراء والمعدمين الذين كانوا يعيشون وراء الجدار الذي كان يُحيط بمدريد، ولا تُعطي أرقامًا للضحايا ولا تصف معارك ومؤامرات وحصارات وتعذيب واعتقالات وسجون، بل تتحدث عن "وحش" إضافيّ يفتك بعذراوات مدريد الصغيرات، مُقدّمة، أي الرواية، مصير وآلام طفلات صغيرات على مصير بلد كامل. وكذلك شرح أحوال أولئك الفقراء الذين لا قيمة لحياتهم، ولا معنى لوجودهم سوى من أجل خدمة  الأثرياء، وكأنهم خُلقوا لهذه المهنة ولذلك المصير، وجعلوا بين الطرفين جدارًا لا يسمح للفقراء بالمرور إلى مدريد، إلا في حالة ذهابهم للخدمة والعمل، وكأن أولئك الناس المعوزين كانوا في أقفاص دائمة وكبيرة يفتك بهم الداء والجوع. الرواية الضخمة هذه، تجري في 490 صفحة و4 أجزاء و85 فصلًا، تبدأ مع تاريخ 23 حزيران/ يونيو 1834 وتنتهي في 1 أيلول/ سبتمبر 1834، أي أن زمنها السردي يجري في شهرين تقريبًا، تبدأ مع جملة أولى صادمة لكل قارئ، ولكن مشوّقة بدرجة عالية: "تحت الوابل الذي صارت معه الأرض الرملية وحلًا، يلعبُ كلب برأس فتاة".  

هكذا تبدأ الرواية. كلب يحاول التهام رأس فتاة صغيرة. وبعد تجمّع الناس، مع تباطؤ غزارة هطول المطر، يعثر أهالي الحيّ والشرطي الأعور "دونوسو" على بقيّة أجزاء جسد الفتاة "بيرتا"، وبالتالي هي الجثة رقم 4، والمقطّعة الأوصال بطريقة متشابهة جدًا، خلال فترة زمنيّة قصيرة. فيعرف الناس أنه الوحش من جديد، ولكن لا أحد رأى ذلك الوحش، لذلك يُعطون الصحافي "دييجو رويث" أوصافًا عن حيوانات خرافيّة مختلفة، مثل دب ضخم، وسحليّة ضخمة وأيل برأس بشريّ أو خنزير بريّ كبير. ولكن كيف يقوم ذلك الحيوان بتقطيع أجساد الضحايا بطريقة واحدة، وقياسات واحدة؟ ألا يدلّ ذلك على أن الوحش كائن بشري؟

ما يُغيّر التكهنات أكثر، ويُقرّب الوحش من فصيلة الجنس البشري، هو اكتشاف قطعة ذهبيّة صغيرة، مثل تلك الشارات التي توضع على الصدر، عليها شكل مطرقتين متقاطعتين، مغروزة داخل فم الفتاة. وهذا يعني أن القاتل كان يَسِم ضحيّته بشارة تدلّ على الفاعل.

التشويق

هناك خطان تسير عليهما الرواية في أول أجزائها. فصول مع دييجو، الذي يعيش داخل مدريد، وتحقيقاته الصحافية والميدانيّة لمعرفة القاتل/ الوحش، وفصول تجري مع لوثيا وأختها كلارا، وأمهما التي ستموت بالكوليرا، وهن يعشن خلف الجدار، وتورطّتا بشكل غير مقصود، ليكونا هدفًا للوحش.

يظن القارئ حينها بأنه أمام رواية بوليسيّة تبدأ مع جثة مقطعة الأوصال، والحديث عن قاتل ارتكب جريمته الرابعة بالطريقة ذاتها. وبالتالي سيبدأ التشويق مباشرة، واللهاث وراء الألغاز والرموز وحلّها، والمطاردات حتى العثور على القاتل. ولكن القاتل لا يبقى مجهولًا. بل يتعرّف عليه القارئ بعد عدّة فصول. لا بل يكتشف أن القاتل يتخذ من قصر قديم مهجور مكانًا لسجن 8 فتيات صغيرات "لم يحضن بعد" في 8 زنزانات.

وبعد ذلك بعدّة فصول تقوم لوثيا، التي صارت تعمل في أشهر بيت للدعارة بعد موت والدتها، بقتل ذلك الوحش الذي كان يطاردها هي وأختها، لاستعادة خاتم سرقته لوثيا من رجل مات بالكوليرا في بيته. وذلك الخاتم سيحمل نفس تلك الشارة: مطرقتان متقاطعتان.  

يموت الوحش، ولكن الرواية لم يمض ثلثها بعد. ومع ظهور جثة جديدة لفتاة مقطعة الأوصال بنفس الطريقة، والشارة المغروسة في فمها، ومع اختفاء كلارا أخت لوثيا، ومطاردة البوليس للوثيا التي قتلت الوحش، ومع وصول القارئ إلى تلك الزنزانات الخاصة بالفتيات الصغيرات، يكتشف أنه يوجد أكثر من قاتل، أو بأن القاتل الحقيقي لم يمت بعد. بل ستظهر جثة في باريس أيضًا؛ لنصل إلى جماعة سرية تقوم بطقوس قروسطية، تخطف فتيات، من خلف الجدار أو من بيوت الفقيرات، وتسجنهنّ بانتظار أن يحضن للمرة الأولى، ليتمّ قتل الضحية من خلال مشهد التضحية والقربان للوصول إلى دواء ضد وباء الكوليرا!!، ولكن يتبيّن لاحقًا أن هذه الطقوس ليست سوى طريقة لقتل الكارلييّن، وهم الذين تحالفوا مع حق كارلوس ماريا إيسيدرو، شقيق الملك المتوفي فرناندو التاسع، بالعرش ضد حلفاء ابنة أخيه إيسابيل الثانية.

الكوارث

لسوء حظ لوثيا أنها قامت بسرقة بيت كاهن وعالم كان قد مات قبل يوم بداء الكوليرا، وكان من ضمن المسروقات القليلة خاتم ذهبي عليه شعار جماعة "مشعلو الفحم" السرية التي كانت تقوم بتلك الطقوس، فأدى ذلك إلى ملاحقتها، وملاحقة أختها، لاسترداد الخاتم الخاص بأعضاء الجماعة، وإلى قيام لوثيا بقتل ملاحقها، كما وإلى اختطاف أختها وانتظارها مصيرًا يماثل مصير صاحباتها السابقات. كما أدى ذلك الحادث البسيط، سرقة الخاتم، إلى مقتل الصحافي دييجو الذي كتب عن حوادث تقطيع أوصال الفتيات العذراوات، "لو أنها قادرة (أي لوثيا) على الرجوع في الزمن، لما انتبهَت على الإطلاق إلى هذه الشرفة المفتوحة في شارع طريق القديس جيروم، ولما دخلت إلى هذا البيت لسرقة ممتلكات الكاهن الذي توفي بالكوليرا، ولما عثرت على الخاتم في ذلك الصندوق الصغير، ولأهدَت إلى أختها (كارلا) شيئًا آخر لتهدئة مخاوفها. ربما أهدتها عصا أو حجرًا شكله مضحك أو ورقة شجر. لو حدث هذا لظلّت كلارا إلى جوارها" (ص 279).

خطأ صغير من لوثيا أدى إلى كوارث بحق عائلتها وأصحابها، ولكن هذا الخطأ أدى إلى كشف المؤامرات والصراعات داخل مدريد وخارجها، وإلى كشف وزراء ونبلاء كانوا يبدون أشخاصًا طيبين ويساعدون الفقراء ومرضى الكوليرا، بينما كانوا يقفون وراء حوادث الخطف والقتل لطفلات بريئات، وإلى كشف مكان تلك الطقوس القروسطيّة وتحرير ست فتيات كنّ ينتظرن دماء حيضهن الأول ومصيرهنّ الوحشيّ. ذلك الدم الذي يُعدّ تحوّلًا في جسد الفتاة، في أنه "سيُحوّلها إلى امرأة مستعدة للإنجاب (...) لم يحوّلها الدم إلى امرأة، بل إلى ضحيّة" (ص 401).

رواية "الوحش" تقدّم شخصيات كثيرة ومختلفة، نفسيًا وجسديًا وطبقيًّا، بطريقة سردية وسينمائية مثيرة، ولشدّة التشويق فيها، يشعر القارئ بأنه شخص داخل الرواية، يسمع ويشعر ويشمّ ويخاف ويريد لو يستطيع تقديم المساعدة. ويمكن القول بأنها رواية تاريخيّة تشويقيّة مركّبة، قدّمها المؤلفون بطريقة سرد بوليسيّة، من الدرجة الأولى، وضخامة صفحاتها ليست عائقًا في انتهاء القارئ منها بسرعة وبإثارة واستمتاع، رغم العنف والرعب. وهذه السلاسة والإثارة، وتعدّد الموضوعات والتحليلات في تفكيك الواقعين الاجتماعي والإنسانيّ والسياسي لإسبانيا في ذلك الوقت، وكثرة المعلومات الطبية والنفسيّة والعمرانيّة والفنية، ما كانت ستصل للقارئ العربي، بهذه الجودة، لولا طريقة الترجمة من المترجم المصري الشاب محمد الفولي. رواية دسمة ومدهشة ومتكاملة، وربما سنشاهدها كفيلم سينمائي أو تلفزيونيّ قريبًا.

المؤلف والجائزة

كارمن مولا كان يتم تقديمها سابقًا على أنها أستاذة جامعيّة ولدت في عام 1973، ومتزوجة ولديها ثلاثة أطفال. وكارمن مولا اشتهرت مع سلسلتها "المفتشة إيلينا بلانكو"، والتي كانت في البداية عبارة عن ثلاثية، وهي العروس الغجريّة (2018)، والتي تم تحويلها إلى مسلسل تلفزيوني وحققت أرقامًا هائلة في المبيعات جعلت دار النشر الفاجوارا تنشر الأجزاء الأخرى، والشبكة الأرجوانيّة (2019) والفاتنة (2020). ولكن في عام 2022 صدر الجزء الرابع منها بعنوان "الأمهات".

وقد بقيت كارمن مولا، بالنسبة للجمهور والقرّاء والصحافيين، تلك الأستاذة الجامعيّة التي خلقت شخصيّة المفتشة إيلينا بلانكو، بخاصة أنها كانت تفضّل الحوارات الصحافيّة المكتوبة، وليس الإذاعيّة أو التلفزيونيّة. ولكن مع إعلان فوز رواية "الوحش" بجائزة مؤسسة بلانيتا، والتي انطلقت في عام 1952 ومُنحت الجائزة وقتها للكاتب خوان خوسيه ميرا (1907– 1980) عن روايته "في الليل لا توجد طرقات"، والتي تبلغ قيمة جوائزها مليون يورو، كان لا بدّ من الكشف عن شخصيّة كارمن مولا، والتي تبيّن أنها اسم أنثويّ مستعار لثلاثة كتّاب من الذكور، وهم خورخي دياث (ولد في عام 1962) وأنطونيو ميرثيرو سانتوس (1969) وأغوستين مارتينيث (1975).

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.