}
عروض

"ضد الوحدة": في داخل الذات الشاعرة

ليندا نصار

8 يوليه 2024

في الشعر، فقط، يرتكب الشعراء الوحدة مع كثير من الحزن أو الفرح أيضًا. في الشعر، يتكشف المجهول الساكن أبدًا في طفولة تمهد لتشيكل الوعي الإنساني... هكذا هو الشعر مسافة صفر بين الأنا والأنا، حلم يعود من الماضي ويخولنا الاطلاع على ما رمته ذاكرتنا ذات طفولة عجز الجميع عن فهمها سوى طفل تمرد بفعل القسوة، أو الفقد والخسارة، ثم وجد نفسه كمن يقفز فوق السنوات ليبلغ أعمارًا وأعمارًا من الاختبارات. هكذا هو الشعر كوة عميقة منفتحة منغلقة في الروح، كائن عصي على التعبير، عصي على الكتمان، ولغة بألف رمز.
كيف يمكن لأرض محروقة أن ينبت الشعر عليها؟ وهل حقًا الشعر لا ينمو إلا بين النوائب، كما يقول رينيه شار؟ بهذه الكلمات تفتتح الشاعرة المغربية فدوى الزياني ديوانها الأحدث "ضد الوحدة"، الصادر عن براءات المتوسط 2023، وقد ارتأت أن تعيش عوالمها الداخلية والباطنية وهي في حالة من النزاع بين الأنا التي تجد نفسها تتشظى بين زمنين: زمن الذات الهشة المهملة في مرحلة الطفولة، وزمنها الناضج في منتصف العمر، حيث الوعي واستنطاق العالم، لتبقى الوحدة بالرغم من ذلك رفيقتها الدائمة.
ضد الوحدة: بحق لم يخوله لي أحد/ أرمي النهر بزورق الطفولة الورقي/ بقشرة البرتقال اليابسة منذ قرون في جيبي/ بحجر يبحث عن صوته/ بفردة حذاء تجهل الوصول/ كطفل لم يعتن به أحد/ أعود إلى البيت سيرًا على العشب/ ألعن المسافات بالسباب والشتائم البذيئة/ ثم كإله لم يهده أحد لعبة ما/ أعجن جسدي/ أخلط الطين بالطين/ وأبتكر طريقة للتكاثر.

الوحشة والميل إلى العزلة
يرى شوبنهاور أن العزلة صفاء النفوس، أما روسو فقد وجد في العزلة حاجة طبيعية للإنسان، وقد دعا إليها عدد من الفلاسفة، منهم: هايدغر، وهوسرل، اللذان يريان أنه بالعزلة يفهم الإنسان نفسه، ويفهم العالم كونه كائنًا اجتماعيًّا. ولكن العزلة تبدو هنا اختيارية، ولا تعني الابتعاد عن الآخر. كذلك كان ريلكه يراقب العالم والأشياء بتفاصيلها، وبالعزلة استطاع أن يكوّن رؤية وتجربة شعرية. هكذا ترتكب فدوى الزياني الوحدة، وتميل إلى العزلة، لكنها في فترة الوباء والعزلة المفروضة على العالم تمكنت أكثر من مراقبة الأشياء والغوص عميقًا لتنصّ تجربتها الشعرية وتخرج بنصوص تحفر عميقًا وتستدعي التحليل الذي تتعدد فيه المنظورات. وكما فعل ريلكه، كوّنت الزياني نظرة إلى هذه الحياة وكتبت قصائدها من دون أن تهمل الهامشي. فلا شك في أن الشاعرة في عالمها الداخلي عمدت إلى تأويل الأشياء بتفاصيلها، والإنسان بجوهره، وقد اختارت العزلة بعيدًا عن هذا الصخب.




فلا غرابة في أن تسيطر على الشعراء مشاعر القلق والألم الداخلي، والشاعرة هنا تعيش لحظات فرح صغيرة جدًّا وسط ليل طويل تنهشه الوحدة والخوف، "تبحث عن الذين أحبتهم وخسرتهم ليبقى الكرسي فارغًا"، وفي النهاية المسار واحد، والجميع يسير في اتجاه الموت.
هكذا تسببت العزلة القسرية بثقوب جعلتها تعيش تجارب جديدة تحت وطأة الشعور بالوحدة تحت سيطرة حكم الرأسماليين وحكام العالم الذين فرضوا على الإنسان أن يتعلم كيف يموت.
الذين يحتفون بالعزلة في أعياد ميلادهم/ لأنها خيار سهل/ الذين يؤمنون بالوحدة لأنها رفيق جيد/ يباركون الصمت/ لأن كل الكلام ميت... مرعب أن تكون وحيدًا حتى الموت.

الشاعرة وعوالمها الداخلية وعلاقتها بالعالم الخارجي
تسود القصائد لمحة سوداوية تشي بالخذلان والحزن والنزاعات الداخلية التي تسير في داخل الذات الشاعرة لتتجلى في معان ودلالات تدعو إلى تعدد المنظورات، وكلما تجلى وازداد القمع والعنف في النصوص، نلاحظ اتجاه الذات نحو الداخل، المنطقة السرية، حيث الاحتماء من مشاعر الخوف التي يولدها الألم الطفولي ليتبدى في ما بعد في مرحلة النضج، ويؤثر في نظرة المرأة وعلاقتها بالجسد، وينسحب الأمر على علاقتها بالآخر. وهذا ما يؤدي إلى الاعتبار وكأننا أمام حالة من الموت الرمزي، أو الموت الموقت الذي تعيشه الذات الشاعرة بفعل سطوة هذه المشاعر. كذلك هذا ما يوحي ويفرض بقوة الصور ورمزيتها وجماليتها العالية التي تعبر عن الرؤية إلى العالم، فتبدو القصيدة عندها وكأنها شاشة كبيرة تدور فيها الأحداث بألوانها وحركاتها ورموزها المتنوعة حاملة دلالات عدة.
في مشهد ساخر، أبدو امرأة مقلوبة عميقًا نحو الداخل/ ذراعي ممدودة إلى اللاشيء: المرأة التي فقدت معنى الحياة تتحدث عن ضجر ينحسر فيه الوقت ترفع نخبًا مجهول النوايا لأصدقاء لا تعرفهم، بل هم لا يعرفونها تلك الفلاحة البوهيمية التي تخفي ذراعين خشنتين.
يعبر الإنسان بالشعر عن تساؤلاته ووجوده وازدواجية مشاعره التي تتراوح بين الحزن والفرح من خلال وعيه بنفسه وبالوجود، فوحده الشعر يستطيع أن يلج الروح ليجد الشاعر نفسه في حالة من الفعل وردة الفعل التي تنعكس على القصائد. بهذا الوعي تمكنت فدوى الزياني من التفكر والاعتراف بصدق، فراحت تسائل نفسها كما تستنطق الأشياء وتوظف الكلمات والمفردات في سياقات مختلفة تخدم المعنى المرتجى. إنها حالة من الفرار إلى عالم جميل تكتب الشعر فيه وتقرأه وتبحث عن ماهيته وتضيع في أسئلته، بحيث تصنع الشاعرة فيه متخيلها وهي وحدها من تملك السلطة عليه، تطوعه وتطلقه في قصائد تنسجم مع أفكارها.
أن تقرأ شعرًا للغابة: يعني أن تضع علامة استفهام على كل حجر/ أن يصبح لصوتك مخالب/ تخرج إلى الفراغ/ حين لم يكن هناك وجود للكلمات/ ثم تصبح هواء أو شجرة.
في قصائدها ثورة وزهد بهذا العالم الذي يبدو مصيره واحدًا في عصر التطور والذكاء الاصطناعي، وكأنه عبارة عن تجربة، أو تدريب، وصولًا إلى الموت. وهي تعبر عن ذلك من خلال صور ترمز بها ولغة تتنفس عبرها، لغة تختزل فيها حياة تعيشها، تفرح فيها في الشعر فقط، مهما كانت حياتها مليئة بالخيبات.
ترتبط القصيدة بالهوية، والنظر إلى الأديان التي تحشو الفكر بأفكار مضللة، فيبتعد الإنسان عن جوهره متخذًا الخارج عالمًا له بدلًا من العودة في اتجاه داخلي، حيث الحقيقة تكمن في الذات الإنسانية.
لم يكن في المدينة بحر/ لكننا وجدنا أنفسنا وسط قارب/ لم يكن في القارب ثقب واحد/ لكننا غرقنا.
وهنا السؤال: عن أية مدينة، وعن أي بحر، تكتب الشاعرة فدوى الزياني؟ ترى هل شعور الغرق الذي يراودها هو ضياع الأمنيات والأحلام؟ وأين هي حدود القارب بوصفه الأمان ووسيلة الانتقال والعبور والوصول، وهل هو قارب الثقة، الذي ثقبه الخذلان وضاع وسط ضجر تكرار الخسارات؟
من جهة أخرى، تريد صاحبة ديوان "ماتريوشكا" أن تبدع كائنًا عبثيًا يندمج مع العالم، تجده في كل مكان مع عناصر الطبيعة. وفي الوقت نفسه هذا الكائن لا يعرف معنى الوصول... ربما لأن الوصول إذا ما حدث يفقد معناه.
ليس صفرًا خسارة الأشياء: للوقت عيون ضريرة تضيع وجهة العناق حين تكون المسافة صفرًا/ الصفر رقم حقيقي/ حين تكون ضليعًا في خسارة الأشياء... الصفر التواء ضلعين في صدري/ يئنان حين أضاعا/ دورهما في العناق.
ادفعها خارج جسدك/ اللمسات التي فقدت بفعل الزمن/ عليك أن تنزع عن وجهك كل الأقنعة/ أن تشير لكل شيء باسمه/ الانفلات من اللغة لم يعد شجاعة/ عاجز أنت والمفردات في فمك مصابة بالتورم...
فلا وقت للشعر، الحب بارد كما الشعر الذي يولده الذكاء الاصطناعي... هكذا العجز عن التعبير بسبب التطور والخوارزميات التي تخلق الشعر اليوم وتخنقه أيضًا، فأين الشعر، وما هو دور الشعراء اليوم؟

الجسد بوصفه فضاء للذاكرة
بالنسبة إلى ديكارت، يعمل الجسد ضمن ميكانيزم محركه العقل. لكن هذا الجسد بالنسبة إلى نيتشه لطالما تعرض للجلد والإذلال وإماتة الرغبات وبذل الذات. هنا، تعمد الشاعرة إلى تأويل علاقتها بالجسد، فمن الجسد الطفولي إلى مراقبة تغييراته، وإلى الشعور بالوجع والاغتراب عنه. نتحدث هنا عن الطفلة التي كانت تراقب جسدها ينمو بينما هي تكبره بوجع.
ويبدو الجسد في هذا الديوان بوجهين: الجسد المعنف، وحالات الرعب والألم الذي قد يولد نزعة مازوشية متمثلة بإماتة الرغبات، والجسد بوصفه حاملًا للرغبات وهو الذي يشهد على زمن عاش في حالات من الحب.
يبقى من الحق أن نقول إن من يقرأ تجربة الشاعرة فدوى الزياني ينتبه إلى تجربة خاصة أسستها لنفسها من خلال التعبير الصادق عن الذات الشاعرة المتشظية في عالم أصبح يحلم بالصدق والجرأة في التعبير عن الإنسان بهشاشته وقوته، عن تفاصيل الحياة بكل ما فيها من تناقضات.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.