تستوقفني الرسائل التي يبثّها القاصّ والروائي الفلسطيني يسري الغول من غزة، من قلب الحدث، من وسط النار، والموت المتربّص به في أية لحظة، من خلال هاتفه المهترئ، آخر ما تبقّى له للتواصل مع العالم من حوله. ففي رسائله، إضافة إلى الوعي، تماسك يحسد عليه، فنحن هنا بعيدًا عن خط النار، نفتقد هذا التماسك، بل منا من يعجز أمام الكلمة من هول ما يجري، لكن يسري متماسك، يكتب بتركيز شديد عن أهمية الكلمة، وأهمية الكتابة عن ما يحدث، مؤمنًا أن الحرية ثمنها باهظ، والشعب الفلسطيني يريد الحرية، يتمسّك بذلك ليجد عزاء، ولو على مستوى بصيص ضوء، إزاء الخراب الذي حوله، أمام آلة الموت التي لا ترحم، أمام الخذلان العربي والأجنبي الذي بات معلنًا ومكشوفًا. كما يؤمن يسري أن المقاومة هي السبيل الوحيد أمام عدو يهدف إلى إبادته مع سبق الإصرار والترصّد.
في كتاباته تشعر بالفرق بين ما يكتبه السياسي وما يكتبه المثقف، فإذا كان السياسي معني بتحليل المعطيات، وتقديم خلاصات وفق ما تمليه هذه المعطيات، فإن المثقف يكتب عن الثوابت، والإيمان بها، مهما كان اتجاه بوصلة معطيات الأمر الواقع.
يسري الغول (1980، غزة) يكتب حول الواقع الثقافي والسياسي الفلسطيني، وصدرت له العديد من الأعمال، منها: "على موتها أغني"، قصص، أوغاريت للنشر والترجمة، رام الله، 2007. "قبل الموت بعد الجنون"، قصص، أوغاريت للنشر والترجمة، رام الله، 2010. "الموتى يبعثون في غزة"، قصص، فضاءات للنشر والتوزيع، عمان، 2015. "خمسون ليلة وليلى"، قصص، فضاءات للنشر والتوزيع، عمان، 2016. "غزة 87"، رواية، مكتبه سمير منصور ، غزة، 2017. "نساء الدانتيل"، قصص، فضاءات للنشر والتوزيع، عمان، 2020. "مشانق العتمة"، رواية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2021. "جون كينيدي يهذي أحيانًا"، قصص، 2023. وأخيرًا "ملابس تنجو بأعجوبة"، المؤسّسة العربية للدراسات والنشر في بيروت، 2024.
وهذه الرواية الأخيرة لها قصة تستحق أن تروى، فبعد أيام من العدوان الإسرائيلي على غزة، بعث الغول برسالة مؤثرة مؤلمة للناشر ماهر كيالي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، يقول له فيها: "كنت قد كتبت روايتي عن هذا الهراء الذي يجري الآن، عن موتنا، وقمت بتعديل معظم الرواية ولكن المادة المعدّلة موجودة بجهاز العمل وتم قصف كل الأبنية المدنية هناك، كذلك خوفًا من موتي قبل أن تصلك هذه المادة. فإنني أرسل لك مادة بحاجة لتدقيق لغوي ونحوي وكان بودّي إرسال النسخة النهائية، ولكن لا أعرف إن كنت سأعيش حيث الموت يحيطنا بغزة في كل مكان. أمنحك حق طباعة ونشر هذه الرواية نهاية العام الحالي أو بداية العام القادم، وإن عشنا سأرسل لك المادة النهائية بعد التعديل.. إن عشنا. يمكنك تعديل ما تراه مناسبًا، لكني أرجو تدقيقها قبل نشرها حال وفاتي لأنها ستكون آخر عمل لي".
في هذا الموقف، وهذه الرسالة، أثبت يسري الغول أن الكتابة أبقى من الحي، فإذا كان الحيّ يموت، فإن الكتابة لا تموت، بل تبقى حيّة بين أيدي القراء، وما يهمّه أن تبقى كتاباته حيّة، إذا ما نالت منه آلة الموت الإسرائيلي، الممكنة في أية لحظة، المتوقعة مع كل ثانية تجيء تحت سماء غزة الملبدة بأشكال وألوان من أدوات الموت المحقّق.
وقد صدرت الرواية، وهي الآن حيّة ترزق، وهي الرواية الثالثة له، كتبها بين عامي 2021 و2023، وعدّل في بعض أحداثها، بعد اندلاع معركة "طوفان الأقصى" والحرب الإسرائيلية على غزّة.
"في ‘ملابس تنجو بأعجوبة‘، يخوض الغول في المسكوت عنه في الأدب الفلسطيني، ويقوم بنقدٍ حادٍّ للصراع المعلن والمستتر بين السلطة الفلسطينية وحركة حماس محمِّلًا إيّاهما مسؤولية تردّي الواقع القائم، ويحاكم الفلسطيني، فردًا ومؤسسة، حزبًا وجماعة، إسلاميًا أو علمانيًا أو يساريًا، قبل أن يحاكم إجرام الاحتلال الصهيوني" على حدّ تعبير الروائي والأكاديمي الفلسطيني حسن القطراوي، في كلمته على الغلاف الأخير للرواية.
تشتّت السبل أمام يسري، نازحًا من زاوية إلى أخرى، ومن خيمة إلى أخرى، وبلقمة خبز من دون أن يضمن أن ثمة لقمة قد تليها. لكنه واصل الكتابة عبر السبل القليلة المتاحة، فكان الفيسبوك، إذا ما أتاح الإنترنت ذلك، وإذا ما أتاح الظرف ذلك، وإذا ما تمكّن من النجاة من الموت بأعجوبة، واللافت أن الرسائل التي يحاول أن يمرّرها تدعو إلى الصمود، والمقاومة، وتحاول أن ترسّخ وعيًا لكل من يمكن أن يقرأه بعدالة القضية الفلسطينية. يكتب: "قاوم ولو بكلمة"، " كلما كان الهدف نادرًا زاد ثمنه، وهدفنا الحرية، فليس غريبًا الثمن الباهظ الذي يدفعه أهل غزة".
يكتب عن شوقه إلى دفء أسرته التي تشتّت عنها، وعن عدم الحياة في غزة، وعن غياب العدالة، بل حتى الإنسانية في العالم، وعن الاستفراد الإسرائيلي الصهيوني بشعب أعزل، وعن نوايا هذا الاحتلال ومدى تعطّشه للمزيد من الدم الفلسطيني، ونيّته الواضحة بإبادة الشعب الفلسطيني عن وجه الأرض. لهذا نجده كلما أتيح له أن يكتب منشورًا يختمه بعبارة بلغة عامية فلسطينية: "مش طالعين"، أي لن نترك أرضنا مهما اشتدّ البلاء علينا.
بصعوبة بالغة استطعت أن أمرّر له رسالة عبر "الخاص" أسأله فيها من أين يستمد عزيمته، وقوته، وإيمانه بحتمية الخلاص مما يضمر له الإحتلال الإسرائيلي من مكائد ونوايا؟ ليأتيني صوته، عبر رسالة صوتية قويًا، واضحًا، ثابتًا، وبكلمات موجزة لكنها بليغة تصل العقل وتقنعه بحقيقة ما يجري على أرض غزة.
يقول في رسالته: "إن أهل غزة هم من أكثر الناس تديّنًا وارتباطًا بالعقيدة"، كأنه يقول لا تستغربوا الاتكال على الله في غزة: "حسبنا الله ونعم الوكيل"، وهي العبارة التي يجد بها أهل غزة عزاء، وهي العبارة التي هزّت وجدان الكثيرين في بلاد الله الواسعة، حول هذا السرّ الذي يجعل الأم في غزة تستقبل استشهاد ابنها بزغرودة، وتشيّعه مشاركة بحمل كفنه، هذا إذا تبقّى جسد للشهيد ولم يتحوّل إلى أشلاء متناثرة من الصعب جمعها في كيس صغير، وليس في كفن.
ويقول: "ما يراه الناس عبر الشاشات حول طبيعة الحال الذي يواجهه الناس في غزة، وصمودهم، يعتبره كثيرون يفوق الخيال، ويتجاوز حدود العقل، في حين هو يعبّر عن مدى إيمان أهل غزة بقضيتهم، ومدى وضوح الصورة أمامهم، فمن دون الخلاص والحرية فإن القادم أسوأ في جميع الأحوال، أي أن القادم بالنسبة لأهل غزة، إذا ما نالهم الوهن، وهزموا من الداخل، وانصاعوا لنوايا الإحتلال، أسوأ مما هم به. هل من المعقول أن ينوجد ما هو أسوأ مما يمرّ به أهل غزة الآن؟"، ويسري الغول يؤكد في أكثر من إشارة "نعم يوجد".
يقول أيضًا: "أنا مؤمن، بكل فخر، بأن الكاتب العضوي هو الكاتب المنشغل بقضايا أمّته، وعلينا أن نعزّز صمود شعبنا. ما أراه أن الكاتب هو من يستشرف ما يمكن أن يؤول إليه الواقع. وما حدث في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر (طوفان الأقصى) ما هو إلا دليل على أنه لا يمكن أن تتحرّر أمة ترزح تحت الاحتلال، بالسلبية والقبول بالأمر الواقع، بل لا بدّ من المقاومة كسبيل للخلاص".
ويرى الغول أن اغتيال اسماعيل هنية ما هو إلا رسالة بعدم قبول الاحتلال الإسرائيلي حتى بالحمائم، ويعرب عن تجاهله المطلق لمطالب الشعب الفلسطيني.
ثم يقول ما يمكن أن يثير دهشة: "نحن ذاهبون إلى تحرير فلسطين"، مراهنًا بذلك على صمود الشعب الفلسطيني: "عيوننا نحو القدس، وسوف نصلّي في المسجد الأقصى". ويعرب عن قناعته بأن شعوب المنطقة لن تبقى مشغولة في قضاياها الحياتية اليومية، وسوف تفيق. ليؤكد في ختام رسالته أن أطماع الاحتلال الإسرائيلي أبعد كثيرًا مما يظنّه كثيرون، وأن وهم "إسرائيل الكبرى" هو ما يدور في فلك العقلية الصهيونية.
كان بودّي التواصل أكثر مع يسري، لكن صفحته اختفت فجأة عن الشاشة. قلبي معك يا يسري، ومع أهلنا في غزة وعموم فلسطين.