}
عروض

"التخييل في الرحلة العربية المعاصرة": ما بين الماضي والحاضر

وارد بدر السالم

15 أغسطس 2024


نعتقد أن ما يسمى بـ أدب الرحلة هو تسمية إجناسية مناسبة لهذا اللون الأدبي، لا لتفريقه- شكليًا- عن الأجناس الأدبية الأخرى، إنما لكون جوهره المضموني هو جوهر رِحَلي، حتى وإن تَضرّب بالخيال السردي وطريقته النثرية في استيعاب القصص والحكايات، وبالتالي فإن قيمة هذا الجنس الأدبي، هي قيمة مضافة للسرديات بشكل عام، كلون قديم- جديد يُضاف إلى السرديات الروائية والقصصية؛ لكنه يستقل عنها قطعًا، وأول استقلالية يمكن لنا أن نؤشرها هنا هي استقلالية الشكل الفني الذي يبتعد كليًا أو جزئيًا عن سرديات الرواية والمذكرات، والكتابات الحرة التي تميزت باللاشكل الأدبي. أي أنه يبقى في الخانة التي يراها موضوعية له، وفاعلة في تأثيث وجودها الشكلي على أية حال وهو يروي، يقصّ، يحدّث، يصوّر، يسرد، ويتماهى.

إن ابتعدت الكثير من الخطابات السردية عن الجغرافية، فإنها تُعد لأدب الرحلة عمودًا فقريًا له. وهي ليست جزئية عابرة في المتن الرحلي، بل تتجوهر فيه وتُجوهِره وترسم شكله الفني وتقدمه كجنس أدبي قدِم من الجغرافيا في الأغلب الأعم، متشظيًا من التاريخ واقعيًا وسُجّلت فيه وقائع بِنية الرحلة. ونرى أن أي جنس أدبي يقف في مكانه ولا يتحرك إلا إلى الرجوع الماضي في تداعيات ليست مشروطة إلا من شرطها الفني الذي يسعى اليه خطاب السرد. ومنها أدب الرحلة الذي يبحث عن قارئه المعاصر في اكتظاظ الساحة الأدبية بالسرديات الروائية والقصصية والمذكراتية والكتابات الحرة التي تريد أن تنفلت من الشكل الأدبي.

ثمة أجناس أدبية تشكلت من السرديات بوجهٍ خاص وأخذت تسمياتها واستقرّت عليها نقديًا منذ زمن طويل، كأدب الحرب أنموذجًا وهو أنموذج واضح وقار، بينما لا يتفق النقد على تسمية السرديات الرومانسية بأدب الحب، وهذا وجه واحد من الإشكاليات النظرية التي يمكن أن نعاينها من دون أسئلة ليست لها أجوبة واضحة. مع أن السرديات الرومانسية توازي سرديات الحرب إن لم تكن أكثر شيوعًا منها وأثرًا بين أجيال القراءة والكتابة في العالم. لكن استقرار المصطلح في أدب الحرب له ما يسوّغه على الصعيد الإجرائي، فهو استثناء في السرديات بعموميتها، بما له من وجود تاريخي وجغرافي واجتماعي ونفسي، ماضيًا وحاضرًا، ومستقبلًا أيضًا. لنجد أن الاستقرار على المصطلح يشير إلى أولويات في استقرار الأدب المكتوب في هذا الجانب، لكن لا ينعزل عن السرديات العامة تاريخيًا.

أدب الرحلة بهذه التسمية والمصطلح يشي باستقرار النوع فيه وانتشاره النسبي، فأدب الرحلة المعاصرة - كما يبدو في أحد جوانبه- غير معني بالأحداث الآنية، بقدر ما هو تاريخي في متوالية الضبط الاجتماعي والتاريخي والسيكولوجي العمومي للمكان. لا سيما إذا بحثنا في تاريخيته ووجوده العربي القديم، وهو ما عمل عليه الباحث نور الدين بلكودري في كتابه المعرفي الشامل "التخييل في الرحلة العربية المعاصرة" (*) والإجراءات النظرية التي جمع بها شوارد الرحلات ووقائعها منذ زمن قديم حتى اليوم، والتعريفات المحايثة له اصطلاحًا ومفهومًا وتعريفًا.

لو اتفقنا على ما قاله ت. تودوروف من أن الجنس الأدبي يأتي من جنس أدبي آخر، وأن نص الرحلة (يتعايش مع نصوص سردية وغير سردية) كما يقول الباحث، فهذه حقيقة تجمع أنساق الأجناس كلها، فلا جنس أدبي بمعزل عن غيره. لكن ماذا عن الرحّالة القدماء العرب وغير العرب الذين أوجدوا هذا النوع الإجناسي وحددوا هويته الفنية بمعزل عن تأثيرات كتابية سابقة؟ بفرضية أن التواصل الأدبي كان شبه معدوم بين الأمكنة والبلدان آنذاك، ولم تتبلور بعدُ صيغة التقاربات الفنية والقرائية، ولا شيوع مثل تلك الكتب الرحلية التي يكتبها المغامرون والتبشيريون الدينيون والحجاج والعلماء.

الرحّالة العرب في تلك القرون كانوا مغامرين بوسائل اتصال ونقل بدائية. يجوبون الأمكنة والآفاق البعيدة، وفي الحالات كلها كتبوا عفويًا ما نسمّيه اليوم بأدب الرحلات، وهو جمعُ مشاهد وعادات وتقاليد شعبية والإشارات إلى مخاطر بحرية وبرية، ومفارقات عند الشعوب والبلدان التي يقصدونها، وتنطبق على كتاباتهم صفة الأدب التسجيلي الذي يقص القصص ويروي الروايات ويحكي الحكايات، أكثر من كونه سِيَر أمكنة تاريخية ذات أبعاد ميثولوجية واجتماعية ودينية وأثرية. أي أنه شعبي بالضرورة، يتوجه إلى قارئ محدد من دون تحديد هويته الشخصية؛ إلا أن آليات الكتابة السردية الحديثة أخرجت خطابه من الشعبية إلى العمومية ونشرته في الفضاء الأدبي العام، وإنْ من دون قارئ محترف أو متماهٍ مع الأثر القديم. وهذا القديم الذي مثّله ابن بطوطة وابن فضلان وابن جبير وسواهم من المغامرين الرحالة، بقي كمصدر تاريخي يتقاطع فيه التسجيل بالرؤية الشخصية والوثيقة الواقعية عبر الوصف والسرد. وبالتالي فالأثر الرحلي المعاصر امتداد للماضي الرحلي في أدواته البسيطة، التي لا تتناسب وحجم المغامرات الرحلية التي كان يتقصدها أسلاف الرحلات. لذلك فـ "السارد الجوّال" كما يسمّيه بلكودري أكثر انطباقًا على الرحّالة القديم منه إلى الرحّالة المعاصر. فالأول مضطر بسبب حركته البطيئة لأن يرى المدن والقرى الصغيرة والكبيرة، ويطوي ببطء جغرافية الرحلات مهما ابتعدت واتّسعت؛ بينما المعاصر، وبسبب سهولة الحركة من طائرات وقطارات وسيارات، لا ينتبه إلى أن أكثر من نصف الجغرافية مرّت من دون أن يرى ملامحها، فيستعين بالمصادر والخيال السردي لتدوين رحلته السريعة مهما طالت بها الأيام، لهذا فإن ملاحظة الباحث بأن علاقة الروائي بالرحلة، هي أكثر نضوجًا من رحلة سواه، نتيجة الخيال المرافق له، لإعادة إنتاج الخيال بالشكل الذي يقترب من السيرة المسافرة في بنيتها وتركيباتها، فـ "الذات المسافرة هي الذات الكاتبة" وهذا يعطي قصدية مسبقة للسفر، فالخيال السردي "حادثة" مجهولة النسب؛ إعادة لإنتاج الرؤية برؤيا جديدة؛ وربما هي تضخيم للرؤية برؤيا أكثر تماسًّا مع اللغة، فهذه مدرّبة على صناعة الخيال وتجسيد المكان، ليس بصورته المرئية العابرة، إنما تضفي عليه الوصف غير المرئي بإجادة فيها من سحر اللغة أكثر مما فيها من الواقع، لذلك فالوصّافون من الروائيين هم الأقدر على محاكاة الواقع والطبيعة والمكان، وأن أي سارد يستطيع خلق أية صور متتابعة عن أصل الصورة وثباتها. في إنشاء لغوي يجسد ويجسم الصورة في المكان من داخله الواقعي، ومن ثم فإن الرحلة كشف واكتشاف ثقافات البلدان وأساطيرها ومنهجها الثقافي والاجتماعي. بمعنى أن العدة السردية ربما تتمكن من إنشاء خيال يوازي الواقع إن لم يتفوق عليه، وبالتالي فن التخليق التخييلي هو إعادة وقائع المكان بصورة جديدة، لا بثيمة جديدة بهذا المعنى. لا علاقة لها بالصورة الأصلية. فالوعي الجديد لروائيي الرحلة هو اكتشاف الذات وآفاق التخييل، فسفر اليوم يُعد "سفرًا بلا عودة لأنه نحو الكتابة والذات العالقة في مرايا الآخر" باعتبار أن "الروائي متمرس في الكتابة الواقعية والتخييلية...". لذا نرى الخلق الذهني والابتكار الوصفي وطرائق السرد ناجحة عند الروائيين، مع أن بنية السفر بنية متحركة، سياحية أو استكشافية، فتتحرك بنية السرد معها بالتقاطات باهرة في الأغلب الأعم. مع اكتشاف وفرة سحرية من القصص والحكايات عند شعوب لا تأبه لها، أو أنها عدّتها من بقايا الأسلاف، وأنها من ضمن ميثولوجيا شعبية متحركة أو ثابتة في المكان. لهذا نجد الروائي يتحرك في بقعة أوسع من الخيال الشعبي، ويتمكن من نقل الرحلة إلى الخانة الأدبية بسهولة، عبر اللغة والذات الساردة الفاعلة في تحويرها إلى سفر أدبي. فالبنية الرحْلية عمومًا محفزة للسارد وذاته المتحررة من أشكال التجنيس الأدبي.

النص الرحلي في كل تحولاته السردية لا بد وأن يخضع لنزوع المؤلف الثقافي، وهذه حتمية واعية أو غير واعية، فالمتخيل السردي يعيد الكثير من ماضي السارد، بدءًا من المكان وحتى أصغر التفاصيل التي تكونه وتؤثث وجوده الواقعي. إذ "يرتبط المسافر بالمكان" في حين يبقى الزمن عائمًا، بحسب الباحث، لكن المكان "المسافَر إليه" هو غير المكان الذي أوجد الكاتب والسارد، ومن هنا ينشأ الافتراق، بل الاغتراب عنه، وبالتالي ينشط خيال الكتابة؛ في صراع الماضي مع الحاضر. مهما كان المكانان مختلفين أو حتى متطابقين في الجذور أو التكوينات الطبيعية. على أن تكون أسبقية الواقعي تتقدم على الخيالي- الكتابي، غير أن الأخير يتفوق على الأول في اللغة والسرد وتكوين بنية أدبية خالصة، قد لا تكون لها صلة مباشرة بالمكان.

(*) التخييل في الرحلة العربية المعاصرة: مقاربة تداولية- نور الدين بلكودري -2024- دار السويدي للنشر والتوزيع- أبو ظبي {الكتاب الحائز على جائزة ابن بطوطة لأدب الرحلة- فرع الدراسات- 2023-2024} 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.