بدأ علاء خالد العمل في الكتاب منذ عام 2016 تقريبًا. ظلَّت موادُّه تتكوَّن، تدريجيًّا، عبر تَوَلُّد واختمار ومُعالجة وتراكم للأفكار والتصوُّرات والمحاور إلى أن اكتمل الكتاب وصَدَرَ كعمل إبداعي بحت، و"ليس عملًا نقديًّا"، على حدِّ وصف علاء نفسه. ومن هنا، تأتي أهمِّيَّة الكتاب وفرادته وتميُّزه في مجال النَّقد السِّينمائي العربي المُعاصر، حيث الابتعاد الشَّديد عن النَّقد السِّينمائي المُعتاد والمُتخصِّص.
بنية الكتاب
بعد مُقدِّمة المُؤلِّف، بعنوان "داود عبد السيّد: سيرة تحوُّلات"، ينقسم الكتاب إلى قسمين. الأوَّل: "سيرة التَّجاوز... سيرة الأمل". ويتفرَّع هذا القسم إلى عدَّة فصول مُتفاوتة في الطُّول، ومُتباينة العناوين والموضوعات ومُستويات الطَّرح والمُعالجة. أمَّا القسم الثَّاني: "الحوارات"، فيضمُّ ثلاثة حوارات. الأوَّل، وهو الأطول بينها، خلاصة حوارات امتدَّت بين المُؤلِّف والمُخرج لأكثر من عشرين سنة. أمَّا الحوار الثَّاني، الشَّيِّق والعميق، فهو مع مُهندس المناظر أو الدِّيكور الشَّهير أنسي أبو سيف، وتجمعه بداود عبد السيّد صداقة عُمر، وزمالة دراسة، وثنائيَّة عمل. الحوار الثَّالث والأخير مع المُؤلِّف المُوسيقي راجح داود، صاحب المُوسيقى التَّصويريَّة لأغلب أفلام داود عبد السيّد الرِّوائيَّة الطَّويلة. ورغم أهمِّيَّة الحوارات في حدِّ ذاتها، كونها مع مبدعين كبيرين ورفيقين فعلًا لداود، ورغم تفاوت مُستوى عمقها والرَّبط بينها وبين الأفلام وتفسير المُبدعين لسينما ونهج داود في العمل، إلَّا أنَّ أهمِّيَّتها نابعة من نُدرة إجراء حوارات كهذه مع صُنَّاع السِّينما، من غير المُخرجين والمُخرجات والنُّجوم والنَّجمات، خاصَّة في عالمنا العربي.
تكشف عناوين الفصول عن طبيعة أو نهج مُؤلِّف الكتاب في قراءة الأفلام، وتناول الأحداث، والرَّصد الثَّاقب لسمات الشَّخصيَّات والنِّقاط المُشتركة بينها، دون التَّوقُّف عند كلِّ فيلم بمُفرده أو تناول الأفلام وفقًا لتواريخ ومُلابسات صُنعها أو وفقًا للفترات التَّاريخيَّة أو غيرها. إذ يخضع التَّناول، ومن ثمَّ تقسيم الفصول، إلى التَّمحور حول فكرة بذاتها أو تيمة مُتكرِّرة في عالم داود عبد السيّد السِّينمائي، والتَّوقُّف عندها بالرَّصد والتَّأمُّل والتَّحليل، وتبيان دلالاتها وتكرارها، ورصد تطوُّرها عبر الأفلام، وفكِّ رمزيَّتها وإحالاتها.
ذاتيَّة تناول
إنَّ تناول علاء خالد لسينما داود عبد السيّد في هذا الكتاب، المُهمِّ جدًّا لفهم الجوانب المفصليَّة والأساسيَّة في سينما المُخرج، ينبع من قراءة بالغة الصِّدق والحبِّ، تتَّسم بقدر كبير من الذَّاتيَّة. إذ وَجَدَ المُؤلِّف في عوالم المُخرج، وما يطرحه من أفكار وأسئلة وهواجس وهموم، بعض العزاء أو حتَّى المزيد من الأسئلة الباعثة على الحيرة والاضطراب. وكان لاقتراب علاء خالد من شخص وروح المُخرج على مدى عقود أثره في الرَّصد الصَّادق والأمين لهموم وأفكار وتطوُّر داود وسينماه. ومن ثمَّ، وضعنا أمام صورة بالغة العمق في تفسير الأفلام ومُنطلقاتها، وتحليل الشَّخصيَّات ودوافعها وردود أفعالها. وذلك بطريقة جدِّ سهلة، ولغة بسيطة للغاية، وقدرة تحليليَّة تقرأ وتربط بمهارة بين الأفلام والشَّخصيَّات والمواقف والأحداث، دون إغفال السِّينمائي والأدبي والاجتماعي والسِّياسي والدِّيني، وصولًا للإنساني والذَّاتي.
وقد جاء هذا كلُّه بعيدًا جدًّا عن النَّقد المطروق أو التَّحليل السِّينمائي المُعتاد. إذ ابتعد المؤلِّف كلَّ البُعد عن تحليل بنية الأفلام وتفاصيلها، والصُّورة السِّينمائيَّة أو البناء المشهدي، وإبراز الجماليَّات الفنِّيَّة. ناهيك بتبيان أوجه القصور أو النَّقص أو حتَّى الخلل، سواء سينمائيًّا أو فنِّيًّا أو فكريًّا أو فلسفيًّا. مُفضِّلًا الاشتباك مع المُخرج نفسه، بإلحاح وحِدَّة أحيانًا، في الحوار المُطوَّل الوارد في الجزء الثَّاني من الكتاب.
من ناحية أخرى، هذا الاقتراب الشَّديد بين المؤلِّف والمُخرج له عيوبه. إذ اتَّسمت رؤية علاء بالتَّناول المُحايد والمُحِبِّ للأعمال والشَّخصيَّات والعوالم والمُخرج. وبالتَّالي، انتفاء النَّقد بكافَّة أشكاله. هو ذاته يصف نفسه بالقارئ المُحايد لداود وسينماه. ورغم أنَّ عمق علاقتهما، والمُشترك الإنساني والفنِّي والفكري الجامع بينهما، يسمح بالنَّقد والانتقاد أو حتَّى الاشتباك بغية إطلاع القارئ أكثر على سينما داود وعوالمه وخباياه وأفكاره وذوقه، إلَّا أنَّه آثر التَّوقُّف وبحزم عند كونها "قراءة شخصيَّة" مُحايدة ومُحِبَّة.
بعيدًا عن الصَّداقة، يتَّضح لنا أنَّ العلاقة بالنِّسبة لعلاء خالد جدُّ مُتداخلة ومُتشابكة ليس مع داود فحسب، بل أيضًا مع جيل الثَّمانينيَّات في السِّينما المصريَّة أو ما يُعرف بجيل "الواقعيَّة الجديدة". وعلى رأس هذا الجيل رأفت الميهي ومحمَّد خان وخيري بشارة. وما شَكَّلَه هذا الجيل من نقلة سينمائيَّة نوعيَّة بين عصرين، تكاد تكون فارقة مع من سبقوهم، على عدَّة مُستويات، فكريَّة وسينمائيَّة وجماليَّة. وهذا يُفسِّر الإتيان على ذكر أفراد هذا الجيل في غير موضع بالكتاب، والإحالة إلى أحداث أو شخصيَّات في أفلامهم.
سمات بارزة
يرصد الفصل الافتتاحي، "داود عبد السيّد: سيرة تحوُّلات"، أهمَّ النِّقاط المفصليَّة في سينما المُخرج والَّتي سيتمُّ الاشتغال عليها بالتَّحليل والتَّفسير والرَّبط والتَّدليل، لإبراز أهمِّ مفرداتها أو عناصرها، وأيضًا التَّطرُّق إلى سمات الشَّخصيَّات وخصائصها وعوالمها.
من أوَّل وأبرز ما رصده المُؤلِّف تيمة العجز الحاضرة في الأفلام، وشعور الشَّخصيَّات بالعجز المُحاصر لها دائمًا من خلال ظروف ومُعوِّقات مُختلفة، اجتماعيَّة واقتصاديَّة ونفسيَّة وجسديَّة وغيرها، تحول بينها وبين الإحساس بالتَّحقُّق وسط الجماعة. ويدفعها إلى السَّعي الحثيث لتجاوز الظُّروف المُجهِضَة لأحلامها. ولا يتحقَّق هذا إلَّا بالاتِّساق مع النَّفس. ولا يتأتَّى الاتِّساق إلَّا بعد لحظة استنارة تُصادفها الشَّخصيَّات في حياتها تدفعها لمُراجعة ونقد وتطوير أنفسها.
ولإنجاز هذا التَّحقُّق أو الكمال أو الكشف أو المعرفة الذَّاتيَّة، يتعيَّن على الشَّخصيَّة الانطلاق أو الشُّروع في رحلة. ولمعنى ومفهوم الرِّحلة، يُخصِّص المُؤلِّف أحد الفصول الشَّارحة لمدلولاتها وأهدافها، وكيف أنَّ المُراد في النِّهاية هو اكتشاف الجديد، وبالطَّبع، تجاوز العجز والضَّعف والقيود. ورغم الحضور المُتكرِّر للرِّحلة في أفلام داود، إلَّا أنَّها لا تتشابه، وليس شرطًا أن تكون الرِّحلة عبارة عن انتقال أو حركة مادِّيَّة أو جسديَّة. إذ يُمكن أن تكون نفسيَّة أو روحيَّة أو دينيَّة. ومع ذلك، فهي بعيدة جدًّا عن التَّكفير عن الذَّنب أو التَّطهُّر، وأقرب للتَّصالح مع الذَّنب، والتَّسامح مع النَّفس والآخر، بعيدًا عن المُعاقبة والصِّدام والانتقام. إجمالًا، وعبر هذه الرِّحلة، لا يستسلم أبطال داود لقدرهم، فهي سبيلهم للانتصار والتَّجاوز، أو لتحقيق فكرة البعث من جديد أو لتجسيد الرَّغبة الفطريَّة في البقاء.
من هنا، نَتَبيَّن أنَّ سينما داود عبد السيّد ليست سينما طبقات أو مُجتمعات أو فئات أو غيرها بقدر ما هي سينما شخصيَّات أو ذوات، بصرف النَّظر عن أيِّ انتماء كان. صراعاتها داخليَّة بالأساس، وليست خارجيَّة أو مادِّيَّة أو طبقيَّة بشكل جوهري. يتوسَّع المُؤلِّف في مُناقشة هذه الفكرة على نحو مُستفيض في فصل بعنوان "رحلة "الفرد"؛ حيث الفرد ليس انعكاسًا للمُجتمع أو الواقع الأصلي، ولكنَّه يعكس مُجتمعًا مُوازيًا أو واقعًا آخر، غير الواقع المُباشر. كما أنَّه يربط رحلة الفرد هذه بمفهوم الحلم، بمُختلف أشكاله وتجلِّياته، أو بما يُطلق عليه تحديدًا، "الحلم الفردي".
كما يتطرَّق المُؤلِّف إلى تناول "الفرد الهامشي" أو الفرد الاستثناء في سينما داود. وهو ليس الفرد الفقير أو المنبوذ أو الحالم أو المُتمرِّد، وإن تقاطع مع كلِّ أو بعض هذه الصِّفات، إنَّه الشَّخص العادي بكلِّ تناقضاته. والأهمُّ أنَّه في سياق هذه السِّينما ليس البطل أو المُخلِّص أو المُنقذ أو غيره، إذ ليس ثمَّة نوعيَّات كهذه في سينما داود.
وعليه، فقد أوجد المُخرج "فرده" الخاصَّ، الواقع في منطقة بين البطل التَّقليدي صاحب الهمِّ الجمعي، والشَّخص صاحب الهمِّ الفردي المُنكفئ على الذَّات. وإن حدث أحيانًا أن تجلَّى حضور هذا الفرد ليس نيابة عن نفسه بل عن قضيَّة كبرى أو جماعة مثلًا، دون الانتماء الكلِّي لها أو الانفصال التَّامِّ عنها. أي، ضمن هذه المنطقة الواقعة بين تحمُّل المسؤوليَّة وفي الوقت نفسه الانفصال عنها، وقد كان هذا من تبعات هزيمة 1967 الَّتي ضَرَبَت الوعي الجمعي والفردي معًا، وأفرَزَت المُجتمع الَّذي تأثَّر به داود وجيله، وعَبَّرَ عنه في سينماه.
أيضًا، من بين النِّقاط القويَّة جدًّا الَّتي يرصدها المُؤلِّف، الحضور الأساسي لـ"الرَّاوي" في سينما داود عبد السيِّد. سواء كان هذا الحضور بصفة تقريريَّة، أي، بعيدًا عن أبطال الفيلم، فقط يُعلِّق على الحكاية ويمنحها التَّفاصيل الخفيَّة أو يربط بينها زمنيًّا، كما في فيلم "مواطن ومخبر وحرامي". أو الرَّاوي صاحب الصَّوت العميق والكاشف، الصَّوت الدَّاخلي الَّذي يُطلعنا على دواخل الشَّخصيَّات ومكنوناتها. وأحيانًا يأخذ هذا الصَّوت شكل أو نبرة "البوح الذَّاتي" بحيث يكون حديثه مُوجَّهًا إلى نفسه وإلينا معًا. ويأخذ المُؤلِّف في ضرب الأمثلة والتَّدليل على الأوجه المُختلفة للرَّاوي وأدواره في سينما داود. مثلًا، صوت "نرجس" في فيلم "أرض الأحلام" أو صوت "نورا" في "رسايل البحر"، وفي هذا الفيلم تحديدًا يكثر الرُّواة. وانطلاقًا من فكرة الرُّواة، يُطلعنا المُؤلِّف أيضًا على تيمة "النَّصِّ" المقروء في بعض أفلام داود، وليس "الكلام أو الحوار" المنطوق، وإلى أيِّ مدى يحضر النَّصُّ المقروء، الَّذي يأتي عادة في هيئة خطابات أو رسائل أو غيرهما.
رغم تخصيصه لفصل كامل يتناول بالشَّرح والتَّحليل مُصطلح "الصَّعلكة" المُنتشر بين أبطال أفلام داود، لكنَّ المفهوم جدُّ غامض ومُلتبس ومُشتبك مع غيره من الأوصاف والسِّمات والتَّجلِّيات الَّتي تحملها شخصيَّات داود، بحيث يصعب للغاية نعت هذه الشَّخصيَّة أو تلك بالصَّعلكة أو المُتصعلِكة. وذلك، رغم اجتهاد علاء الجلي في هذا الفصل وتوضيحه للفارق.
ورغم ابتعاد الكتاب تمامًا عن التَّناول النَّقدي السِّينمائي المُعتاد، مُهملًا بدايات داود كمُخرج مُساعد أو كصانع أفلام وثائقيَّة، وتأثير هذا في تكوينه واحترافه لمهنته قبل انتقاله لاحقًا للأفلام الرِّوائيَّة الطَّويلة، وانطلاق علاء خالد في تحليلاته بداية من أوَّل فيلم روائي طويل لداود "الصَّعاليك" (1985)، أو عدم تناوله، مثلًا، لتأثير السِّينما المصريَّة والعربيَّة والعالميَّة، فنِّيًّا وفكريًّا وجماليًّا، على المُخرج، سلبًا أو إيجابًا، إلَّا أنَّ الكتاب تُمكن قراءته من زاوية أخرى، جديدة تمامًا، بالغة الجاذبيَّة وشديدة التَّميُّز والثَّراء، ونادرة في عالمنا العربي، وقطعًا غير مسبوقة لأعمال داود أو غيره من المُخرجين، بقلم كاتب وأديب وباحث بقيمة علاء خالد. صحيح أنَّ ثمَّة دراسات سينمائيَّة صدرت بهذه الكيفيَّة إلَّا أنَّ منهجيَّة التَّناول تطرح الكثير من الأسئلة حول عدم وجود هذا النَّوع من التَّناول النَّقدي النَّفسي/ الأدبي / الاجتماعي للأفلام وللمُخرجين ولأعمالهم وعوالمهم وشخصيَّاتهم، مُقارنة بانتشار ذيوعه في المجال الأدبي.