يبدو التاريخ، بأحداثه وشخصياته، وتعاقب الأجيال فيه، مادةً جاذبة للروائيين، في الشرق والغرب، وفي الشمال والجنوب. إنه يبدو كذلك، خصوصًا في العقود الأخيرة، حيث تعصف بالكثير من المجتمعات الأزماتُ السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وتوتراتُ الهوية، وسؤال "من نحن؟"، ويقبلُ العالم على تغيرات حاسمة قد تطيح بمجتمعات، وأنظمة، ودول، وكيانات سياسية، وإمبراطوريات. ولربما، واستنادًا إلى هذه الخلفية، وانطلاقًا من هذه التوترات والأزمات التي تمرُّ بها البشرية، تصدر الكثير من الروايات، في معظم اللغات والثقافات، التي تستعيد شخصيات، وحقبًا ومراحل، وأحداثًا تاريخية، من ماضي الشعوب والأمم، القريب أو البعيد. لقد عادت بقوة تلك الروايات الضخمة التي تتخذ من مراحل زمنية متعاقبة مادةً لها، حاشدةً عشرات، وربما مئات الشخصيات، في صفحاتها، وساعيةً إلى النظر إلى التاريخ بعين أخرى، هي عين الروائي هذه المرة، لا عين المؤرخ.
يلجأ الروائي إلى التاريخ لبناء عالمه الروائي، وإعادة تخليق الأمكنة والأحداث والشخصيات، والتفاصيل، ووصف الطبيعة، والأمكنة، وموجوداتها، واستعادة مراحل معينة من التاريخ، للإضاءة، بصورة من الصور، على الحاضر، ومشكلات الزمان الذي يعيشه، أو أنه يفعل ذلك لقول ما لا يستطيع قوله عن الحاضر، والراهن، في أزمنة الاستبداد والقمع، والتضييق على حرية التعبير، وكمِّ الأفواه، والضيق بأي رأي يخالف رؤية النظام أو النخبة الحاكمة.
ومع ذلك، فليست هذه الأسباب وحدها هي ما يجعل كتاب الرواية يستخدمون المادة التاريخية في رواياتهم. ثمَّة أسبابٌ أخرى عديدة، من ضمنها ما يضفيه التاريخ على الكتابة الروائية من سحر وغرابة، وقدرة على جذب المتلقي، وأسره في شبكة الأحداث والشخصيات التاريخية، وجعله ينسى واقعه، وحاضره المأزوم، ومستقبله الغامض المجهول.
لكن المشترك الأساسي في معظم الأعمال الروائية، التي تنهل من مادة التاريخ، أو تستوحيه، أو حتى تنسج على منواله، وتعيد تشكيل عوالمها الروائية، استنادًا إلى مروياته، وما ورد في كتب المؤرخين، وأصحاب الحوليات، وكتب الأسفار والرحلات، ووصف الشعوب والأمم، هو السحر والغرابة اللذان يمتلكهما التاريخ، ولا يمتلكهما الحاضر. ولعل ذلك هو ما يجعل روائيين عرب عديدين، وكذلك في العالم، يعيدون قراءة مراحل وعصور تاريخية، ليشكلوا، استنادًا إلى بحثهم في التاريخ، وتنقيبهم في مروياته، عوالمَ تسعفهم في التعبير عن رؤاهم للعالم، والمجتمع، والسياسة، والوجود بعامة.
في هذا السياق من الاستعانة بالمادة التاريخية، تتنزَّل رواية "مدينة التين الأزرق" (منشورات الدار الأهلية، عمان ــ الأردن، 2023) للشاعر والروائي الأردني سمير القضاة. فهو يعود إلى فترة محتشدة بالأحداث، في تاريخ الأردن، مُحْييًا الأمكنة والشخصيات التاريخية، وحاشدًا المكان والتاريخ، بشخصياته المتخيَّلة، والأحداث التي اصطنعتها مخيلته الروائية، والحوارات والتأملات التي يضعها على ألسنة شخصياته، لكي تعبر عن رؤية العالم التي يبثها الراوي، الذي يقيم خلفه الكاتب، ويلهمه كلماته.
يستعيد سمير القضاة زمن ازدهار دولة الأنباط، وظهور المسيحية، والصراع بين فرقها، مركزًا على النساطرة الذين أنشأوا بعض الأديرة في البتراء، ومواضع أخرى من الصحراء الأردنية. لكن هذه الخلفية التاريخية، المتصلة بالصراع بين دعاة التثليث في الديانة المسيحية، ومن يؤمنون بعدم اتحاد الطبيعتين الإلهية والبشرية في يسوع المسيح (كما هيو الحال لدى النساطرة)، لا تشكل قلب الأحداث في رواية "مدينة التين الأزرق"، التي تدور معظم أحداثها في القرن الخامس للميلاد، في مواضع مختلفة من الجغرافية التي شكلتها الأردن في تلك المرحلة التاريخية، الحبلى بالصراع بين روما وبيزنطة، وبين الروم والفرس، وتململ العرب من حكم الأجانب. ما يقع في مركز هذا العمل الروائي هو السيرة الروحية، والمَطْهَر الذي يمر به عبد مناة، فتى بترا الحكيم، منتقلًا في تلك الجغرافيا الصغيرة من بترا إلى زيزياء (مركز الدير النسطوري)، وصولًا إلى مدينة ربَّة عمون، ومملكة الفقراء والعبيد، التي يؤسسها في "عراق الأمير" (الواقعة غرب مدينة عمان هذه الأيام). فوالد عبد مناة يرتحل من بترا إلى دير النساطرة ليصبح واحدًا من أتباع كنيستها، ويهيئ ابنه ليصبح راهبًا في الدير، ناشرًا لعقيدته في بترا الوثنية، التي كانت تتمتع بقدرٍ عالٍ من حرية الاعتقاد في تلك المرحلة، إذ يزاول سكانها طقوسهم الوثنية، إلى جانب أتباع نسطور، الذين يدينون بالولاء لبيزنطة. لكن الصراع الذي ينشب في قلب عبد مناة، ابن طبقة الأعيان في بترا الوثنية، بعد تلقينه تعاليم المذهب النسطوري، والسعي إلى تنصيبه كاهنًا في كنيسة بترا، يجعله يعدل عن تعاليم الكنيسة، ليبحث عن تفسير مختلف للوجود والعقيدة، عندما يجد أن الكنيسة لا تنصر المظلومين على الظالمين، وتعزل نفسها عما يدور حولها من جور، وتسلطٍ للقادر على غير القادر، وتكتفي ببرجها العاجي الذي تقيم فيه، قانعةً بعدم إثارة سخط الإمبراطور وممثليه في عمون، وزيزياء، وما حولهما من مدن وضِيَعٍ وبوادٍ.
يلمِّح الروائي، في سرده لحياة عبد مناة، ورحيله من بترا، اتقاءً لشر أبناء عمومته، تجارِ بترا من قبيلة العينيين، والتفاف عبيد بترا، والفقراء فيها، وبعض عبيد المدن والفقراء، في أماكن أخرى، حوله، إلى نموذج تاريخي يتمثل في البعثة المحمدية، فثمَّة رسلٌ وأنبياء، وكهنة، وثائرون على واقع العبودية والتسلط، وغيابِ العدل، ظهروا في مواضع عديدة من جغرافية الصحراء العربية، وبلاد الشام. يدعم ذلك بالطبع الفترةُ التاريخية التي اختارها سمير القضاة لبناء عالمه الروائي، وهي تسبق، بقرن تقريبًا، ظهور الإسلام. وما يهمنا هنا ليس المادة التاريخية نفسها، أو حقيقتها، أو دقتها، أو صحتها التاريخية، بل ما سعى الكاتب إلى التشديد عليه في روايته، وجعله جزءًا من رؤية العالم التي يبنيها في عمله، وتتمثل في مسار عبد مناة من المذهب النسطوري إلى الرغبة في تأسيس مدينة فاضلة يتساوى فيها الجميع، ولا تتضمَّن أي مظهر من مظاهر السلطة، أو رموزها، أو تراتبياتها، أو إكراهاتها. يبحث عبد مناة، الرجل الحالم بعدلٍ أبدي، ومملكةٍ خلوٍ من الشر، الذي ينشأ، من وجهة نظر عبد مناة، عن السلطة، ورغبتها في استدامة الحكم، واستتباب الأمن للحاكم وأعوانه، والجماعات والطبقات التي تلتف حوله. إنه يسعى إلى العثور على العدل الاجتماعي، الذي يتحقق من خلال مشاركة الرجل والمرأة، والتأسيس لشكل، أولي، بدائي، من الاشتراكية الطوباوية. وهو، لذلك، يتخيَّل نوعًا من العدل الممكن، الذي يتحقق عبر تحلل السلطة، وانتفاء التراتبيات الجندرية، والطبقية، والاجتماعية، والاقتصادية، وكل ما يؤدي إلى بروز الظلم، وسطوة القوي على الضعيف. ويظهر هذا التصور اليوتوبي في سلوك عبد مناة، طوال إعداده الروحي في الكنيسة النسطورية، وحواراته مع رهبان الكنيسة، وانفصاله عنهم، وهجرته من أرض إلى أرض، ومن عقيدة إلى عقيدة، وتحلله من التزامه القبليِّ، ودينِ جماعته، ومن ثمَّ، ازوراره عن كنيستِه، إلى رحابة العدل الاجتماعي الذي يبنيه مع طائفة المقهورين، والمستضعفين، الذين يلتحقون به إلى مملكة "عراق الأمير" الطوباوية، أو مدينته الفاضلة، التي حلم بتأسيسها على العدل والمساواة، من دون سلطة، أو رموز سلطة.
في إطار هذه الرحلة الروحية لشخصية عبد مناة، وهجرته إلى مدينته الفاضلة، يبني الكاتب عوالم متوازية ومتقاطعة، لعدد كبير من الشخصيات، بدءًا من رحلة جد قبيلة العينيين الأول (عبَّاد) من شابا (بئر السبع) إلى بلاد الأدوميين، تاركًا زوجته وطفله الصغير في عهدتهم (وحكاية أم الطفل ترجِّع، كما هو واضح، صدى حكاية هاجر، أم العرب، وزوجة النبي إبراهيم)، ثُمَّ هجرة أبناء الطفل المتروك إلى بترا، ليصير أبناؤه أعيان تلك المدينة العظيمة، وتجارها الذين يملكون مقاليدها، ويقيمون حلفًا مع حاكميها، بغض النظر عن جنس هؤلاء الحكام، وأصلهم، ولغتهم. وإذا كانت معظم أحداث الرواية تدور في أنحاء بترا، ومعابدها، وأسواقها، وبيوتها، في زمان الأنباط، فإن رحلة عبد مناة الروحية، وهجرته من بترا، مع أتباعه، تنقل أحداث الرواية إلى أمكنة أخرى، إلى زيزياء، وعمون، ومرج الحمام، وعبدون، وعراق الأمير (وجميعها أماكن تقع الآن ضمن جغرافية العاصمة الأردنية عمان). وفي هذه الأماكن جميعًا تتقاطع المصائر، وتسعى الشخصيات، وتُنسَج المكائد، وتنمو قصص الحب، وتضعف الممالك والإمبراطوريات، وتهوي وتضمحل السلطات، وتحلُّ ممالكُ محلَّ ممالك.
لكن، إذا كان الكاتب يختم عمله بهرب ممثل إمبراطور بيزنطة من ربَّة عمون، واضمحلال حكمه، ورفع عبد مناة راية مملكته الفاضلة في المدينة، وفي النواحي المجاورة، فإن الخيط الخفي، الذي يحبك مجموع هذه القصص والحكايات والمصائر، هو الرغبة في القول بأن السلطة (بمعناها الجوهري) هي مصدر الشرور، ومرتع الظلم. ففي رموز تلك السلطة، وتراتبياتها، وإكراهاتها، يتأسس غياب العدالة؛ وهو الذي يؤدي، في ما بعد، إلى السقوط، والتحلل، وهدم الممالك، والسلطان، وقيام أمم جديدة محل الأمم القديمة. لكن الرسالة المقيمة في قلب "مدينة التين الأزرق" (حيث يبدو التين الأزرق وكأنه الترياق، وفاكهة المدينة الفاضلة) تتمثَّل في أن دواء السلطة الشافي هو غياب السلطة ذاتها، والتخلصُ منها، واستبدالُها بمدينة العدل والمساواة، أي بالمدينة الفاضلة، التي لا يفضُلُ فيها أحدٌ أحدًا، ولا يتسلط فيها أحدٌ على أحد، فالكلُّ سواسية، بشرٌ ولدتهم أمهاتهم أحرارًا.
يعمل سمير القضاة على بث الرسالة السابقة، وتشكيل تأويله اليوتوبي للتاريخ، من خلال حشد روايته بشخصيات حية نابضة، وحوارات تدور بينها، وتأملات وحوارات ذاتية تسري في دواخلها، بلغة رفيعة المستوى، محتشدة بالصور، بليغة، وقادرة على تصوير روح ذلك الزمان، وسحره، وبعده، وغرابته. لكن هذه اللغة الشعرية، العالية، التي يستخدمها الكاتب (ولا أقصد الشعر الذي أدرجه الروائي في ثنايا نصه، فهو لم يُضِف، من وجهة نظري، الكثير إلى العمل) تحققُ ما تسعى الرواية التاريخية، أو التي تنهل مادتها من التاريخ لبناء "فانتازيا تاريخية"، إلى استثارته في المتلقي، أي خلق الإحساس بالبعد الزمني، وفي الوقت نفسه، تبصير هذا المتلقي بحكمة العمل، ورسالته، وتأويله لمعنى التاريخ، وجوهر الوجود، وتقديم إضاءة جانبية للحاضر المكسور.
"مدينة التين الأزرق" رواية لافتة تستحق القراءة والاهتمام، وتشي بولادة روائي متميز يمتلك أدواته، ويعرف كيف يجعل التاريخ يتمرأى وكأنه الحاضر.