}
عروض

عن السياسة والسياسي وغائية الدولة

عمر كوش

17 سبتمبر 2024


اهتم العديد من الفلاسفة والمفكرين بالعلاقة بين السياسة والسياسي في المجتمعات الحديثة، وعلاقة كل منهما بالدولة وبالمواطنة، ونبهوا إلى ضرورة التفريق بين السياسة والسياسي باعتبارهما مصطلحين منفصلين، يُحدّد أولهما السياسة بممارستها اليومية والواقعية، بينما يشير الآخر إلى معنى فلسفي وجودي للسياسة، بوصفها مجالًا وأداة لحسم صراعات الهيمنة. وساد توجه لدى غالبية منهم عرّفت السياسة بمؤسساتها، وفي مقدمتها الدولة، وبما يتصل بممارسة السلطة والحكم على مستوياتها الأشمل في الجماعة السياسية، وجرى النظر إلى السياسة من خلال الساحة العامة التي تدور فيها، متجسدة في أجهزة ومؤسسات السلطة والحكم وأدواتهما، والقوى السياسية والاجتماعية والاقتصادية الفاعلة فيها، من حكومات وإدارات مركزية ومحلية، إضافة إلى القوى والأحزاب السياسية والمنظمات والشخصيات الفاعلة وسوى ذلك. وترى لورانس فانين فيرنا في كتابها الصادر حديثًا "لماذا السياسي؟ مستقبل المواطنة" (دار الروافد الثقافية - ناشرون، ترجمة محمد شوقي الزين)، أن السياسة تدل على البرنامج ونشاط البشر من أجل الحكم، بينما يدل السياسي على ممارسة. وقد شغلت الفلسفة السياسي بحصافة، وقامت بالتفكير فيه واقترحت نماذج معيارية ومعقلنة، كونها اهتمت على الدوام بالحياة المشتركة للبشر وتنظيمها. ويمكن اعتبار الفلسفة السياسية منهجًا عقليًا قادرًا على فهم الرهانات السياسية للمجتمع ومقاربتها بتعقّل ووضوح، لذلك من واجب الفلسفة أن تستكشف السياسي كي تسهم في إصلاح النظم السياسية المجتمعات، ولتتحقق من فعاليتها أيضًا، فضلًا عن مناقشة الآليات والتصورات المختلفة حول الحياة الاجتماعية، أسسها ونواقصها، من أجل التوصل إلى الشكل الأمثل للدولة.

تلجأ لورانس فانين إلى المنهج العلمي في تناولها المسائل المتصلة بالسياسة والسياسي والمواطنة، وتطرح تساؤلات حول السياسي بهدف الوصول إلى فهم حيثيات رغبة البشر في الاجتماع، وكيفية توصلهم إليه، والتعرف على ماهية الأسباب التي تدفعهم إلى العيش المشترك والانخراط في الجماعة. ثم يمتد التحليل إلى المأسسة الاجتماعية، كما يطاول غائية الدولة وفق رؤية فلسفية جديدة، لا تلجأ فيها إلى التعقيد، بل إلى تبسيط المفاهيم وتفكيك مركباتها، حيث تميل إلى تقديم مادتها الفكرية التي تهدف لتحقيق فهم أفضل للموضوع المطروح والبرهنة عليه.

تنطلق المؤلفة مما أظهره التاريخ أن الإنسان لا يمكنه العيش وحيدًا، لذلك اتفق بعض الفلاسفة على القول بأن الإنسان بطبعه حيوان سياسي، أي أنه يظهر بهويته الاجتماعية، ويسعى إلى تحقيق إنسانيته داخل المجتمع، الذي تجسد بالمدينة في صورته الأولى. وباعتبار أن الإنسان يميل بطبعه إلى تشكيل مجتمع سياسي، فإن أرسطو أشار إلى أن أول جماعة بشرية تشكلت من عدة عائلات، بغية إشباع حاجات لم تعد يومية، فنشأت القرية التي بدت امتدادًا للعائلة، ثم جرى تقسيم العمل ونشأ الاقتصاد في المدينة (البوليس)، التي تحول فيها الإنسان إلى كائن اجتماعي وسياسي، حيث يمثل المجتمع شرط تطوره، فيما يحثه التعايش والتعاون وتقسيم العمل على التأقلم، وعلى تحسين لغته وتحويلها. وبالنظر إلى امتلاكه القدرة على استعمال اللوغوس، أي اللغة والعقل، فإنه يستطيع بواسطة العقل التمييز بين النافع والضار، وبين الطبيعي والاصطناعي، إضافة إلى أنه يمتلك القدرة على إنتاج اللغة التي تعبّر عن مشاعره وغرائزه وخواطره. وشكلت المدن، التي تعدّدت بمرور الزمن، مركّب الاندماجات بين البشر، حين يجري الاحتفاظ بالطابع السلمي للعلاقات الاجتماعية، الأمر الذي يفسر سبب تحليل الفلاسفة الصعوبات الاجتماعية، وسعيهم إلى الانخراط فكريًا في السياسي، من أجل تنظيمه. ورأى البشر منذ العصر الوسيط أن المصدر الشرعي للسياسي هو الإله، فنشأت نظرية الحق الإلهي، ودخلت الكنيسة على الخط، كي تمارس سلطتها، وبات الحق الإلهي يتوافق مع شكل الدولة أو الحكومة، استنادًا إلى الاعتقاد بأن أساس الدولة يكمن في الله وفي العقل، وأصبح الإله يجسد عقلانية العالم الفيزيائي أو الكون، وعقلانية التنظيم السياسي والأخلاقي والروحي. لكن الفصل بين الدولة الكنيسة والمسيرة الطويلة نحو اللائكية سيضعان حدًا لمثل هذه التصورات حول السياسي، وستتحرر الدولة عن الكنيسة، ويتم تمييز المواطن عن المؤمن، وراح الفلاسفة يفكرون بحالة الطبيعة، لكنهم سرعان ما تفادوا فكرة العودة إلى الطبيعة البدائية، واقترحوا إرساء السياسي بوساطة العقد الاجتماعي الذي وضع القواعد الأولى للعيش المشترك، وأسس لنشأة الدولة التي تتخذ شكلًا بالانضمام والموافقة، وتقوم الإرادات بتنظيمها، وباتت مفهمة الدولة وسيلة للخروج من حالة الطبيعة، فضلًا عن أن الدولة تتيح التلاحم والارتقاء إلى المواطنة، حيث تحدد الدولة بوصفها ممارسة السلطة في شكلها المؤسسي، وتدبّر المجتمع، وتقيم تنظيمًا عموميًا، وبالتالي فإن فعل تأسيس الدولة ينطوي على سلوك عقلاني، وهو فعل الإنسان، الذي وعى ضرورة إنشاء المعايير لتسهيل الحياة المشتركة.

يفترض وجود المعايير والتنظيم داخل الدولة وجود سلطة لها، بوصفها الدال على القوة الهيكلية والتنظيمية للسياسي، حيث تفترض السلطة ضمنيًا السياسي، وذلك بعد أن باتت الدولة، مع تطورها المضطرد، تعرّف انطلاقًا من طبيعة السلطة التي تحوز عليها، التي توزعت على ثلاث سلطات، السلطة التنفيذية، والسلطة التشريعية، والسلطة القضائية، ويمكن إضافة سلطات أخرى كالسلطة الاتحادية وسواها. وقد أظهرت المجتمعات الحديثة أن ممارسة السلطة ترتبط بالتقنيات وبالسيطرة على وسائل الإعلام والتواصل، حيث تتحول السلطة إلى إدارة الأعمال، مستعملة تفاصيل استراتيجية واقتصادية كي تعزز قوتها بفاعليتها، فيما يروّج السياسي لما يمكن فعله، وما يريد إنجازه، مع أن ما يتم الترويج له ليس واقعيًا، فثمة اختلاف أساسي بين النجاعة السياسية وتلك الممارسة فعليًا، وبين البرنامج السياسي وتطبيقاته العملية والفعلية، ونشأت تيارات سياسية متنوعة من أجل تنظيم الدولة، توزّعت بين الليبرالية والدستورية والذرائعية واللاسلطوية والماركسية والحكم المطلق والشمولية وسواها، وازدهرت الديمقراطية بوصفها نظامًا سياسيًا من أجل التعبير عن حكم الشعب، وبوصفها نموذجًا اجتماعيًا، لكنها بقيت مسكونة بأزمة متفشية، تظهر في النمو وخطورة تشظي الرابط السياسي والعلاقة الصراعية التي تؤسسه.


تعود المؤلفة إلى مفهوم المواطن الذي يدل في اللغة اللاتينية على صاحب الحق، أي أنها تتناوله من الجانب الحقوقي أولًا، فالمواطن يمتلك حقوقًا، بوصفه إنسانًا مسؤولًا وفاعلًا داخل المجتمع، حيث تشير المواطنة ليس إلى امتلاك الجنسية والحقوق المدنية والسياسية فقط، لأن ما يشكل صفة المواطن الأساسية هو حق الاقتراع والمشاركة في ممارسة القوة الفعلية. كما أن المواطن مشدود إلى رابطة الانتماء ورابطة الولاء، أي رابطة انتماء فرد ما الى جماعة، من جهة أولى، ورابطة ولاء هذا الفرد للدولة التي تمارَس سلطتها على هذه الجماعة من جهة ثانية، ويفضي خضوع المواطن إلى هذا الالزام المزدوج إلى تمتعه في المقابل بجملة من الحقوق الاجتماعية والمدنية والسياسية التي يتمتّع بها أعضاء الجماعة التي ينتمي اليها. عندئذ يعترف به بوصفه فردًا صاحب السيادة، اي أحد أفراد الشعب السيادي، مثله في ذلك مثل جميع المواطنين على قدم المساواة.

تجادل المؤلفة بأن أفكار المفكرين وتأملاتهم تطرح بشكل ضمني ضرورة غائية الدولة، وتعتبر أن الدولة بإصدار القوانين تدعم السلم الاجتماعي، ويقع على كاهلها مهمة الحرص على النظام العام، والذود عن الإقليم والتراب الوطني. ويمكن القول إن مهمة الدولة تتجلى في الحفاظ على التماسك الاجتماعي بالتغلب على الانقسامات، كما يمكنها أن تسهل شروط التوصل إلى سعادة المواطن، والتغلب على الأزمات من أجل تشكيل فضاء من الرفاهية، حسبما يرى بعض الفلاسفة، لكن لورانس فانين، ترى أن الدولة لا تحقق السياسي فحسب، بل توفر الأمن ورفاهية الشعب، حيث تتجلى السياسة المثلى في توفير الخير العام لجمع الأفراد قدر المستطاع. وعليه، فإن غاية الدولة تتجسد في إخضاع القوانين للأخلاق، حيث يظهر أن الانسجام بين الفكر والعقل والفضيلة يسهم في السعادة.

في الختام، يجري التفكير بفلسفة سياسية جديدة، تنهض على التوصل إلى سياسة جديدة لا تقوم على العقد أو الميثاق، أي اجتماع الأفراد (المجموع)، وذلك بإعادة هيكلة هذا المجموع، من خلال تفكيك الفردانية وهدم الأناني في تفكير الفرد، وإرساء علاقات منسجمة، ينخرط فيها الفرد في رهانات الكل الاجتماعي. وتتطلب هذه المهمة تفكيك الذات عبر ممارسة الحكم النقدي للذات من أجل إرساء إنسان جديد، أكثر إيثارًا، وتواضعًا، واستقامة، وقادر على النقد الذاتي. أما الدولة، فيتوجب إعادة التفكير في العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وبين المواطنين أيضًا، الذين يتوجب عليهم الانخراط في الحياة السياسية، ليس باعتبارهم ناخبين فقط بل مشاركين.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.