تتميّز قصيدة الشاعرة التونسيّة المقيمة في هولندا لميّاء المقدّم (1971) بذلك النَفَس الرومانسيّ الشفيف، جنبًا إلى جنب مع تلك التعابير الإنسانيّة السلسة في تناولها الحميم لجوانب عديدة تخصّ الحياة اليوميّة.
قصيدةٌ تكاد أن تكونَ مرآةً لكل ما يجول في تلك الفسحة الهامشيّة من حياتنا أو ما يسمّى بالظلّ، وبقدر ما تنحو- هذه القصيدةُ- نحو المزيد من البساطة، بقدر ما تسمو فيها اللغة، سواء من حيثُ الدقّة في اختيار العبارات والصور أو من جهة الاختزال والتكثيف، ما يؤكّد أنّ "كتابة الشِعر لا تبدأ بالبساطة، بل تنتهي إليها"، على حد تعبير الشاعر المغربي محمد بنميلود.
كتابة يوميّة
في مجموعتها الشِعريّة الجديدة "قصائد العمى" الصادرة حديثًا عن منشورات المتوسط في ميلانو/ إيطاليا، تنحو الشاعر لميّاء المقدّم نحو كتابةٍ يوميّة، هي سيرةٌ، قد تكون سيرة الشاعرة نفسها أو سيرة متخيّلة تدوّنها ولكنها تبدو وكأنها سيرة حقيقيّة أكثر ممّا ينبغي وواقعيّة، بل ومن لحم ودم، تقول: "في الشطرنج أكون رابحة إلى أن أقوم بحركة مفاجئة أنقلب بعدها إلى خاسرة مطاردة.../ في الحياة وفي الكتابة أفعل الشيء نفسه. أكتب عن أخي الإنسان في كل مكان، ثم فجأة عن الحمام والمطبخ والسجاد فيما يشبه العودة إلى القبو المظلم./ أحدهم قال لي مرة: تبدئين القصيدة حرة قوية ثم فجأة يحصل انقلاب مفاجئ على المعاني والأمكنة والفكرة كأنك تنتقمين من نفسك...".
شِعر العزلة
تكتب لمياء المقدم عزلتها، تكتب وكأنها في رحلةٍ إلى أعماق الذات، فتنطلق قصيدتها من الهم الخاص لتمتدّ إلى الهمّ الجمعيّ العام؛ ثمّة عزلةٌ تتغنّى بها الشاعرة وبمنتهى الرويّة والهدوء، تقودنا إلى دهاليز مضيئة وغير معتمة، حيثُ تقول: "دائما سيأتي من يخبرك عن الحياة/ عن الحب/ عن الصداقة/ لكن لا أحد سيحدثك/ عن الغريب الذي يسكن قبالة بيتك/ تحركاته الليلية/ ظلاله التي تنعكس على يديك وملعقتك/ لا أحد سيشرح لك لماذا تشعر بالوحدة/ وتوشك أن تبكي/ عندما أضواؤه تنطفئ".
ما نجده في القصيدة السابقة من حسّ دراميّ يُضفي عليها المزيد من السلاسة اللفظيّة، عدا عن خصوصيّة الصورة الشِعريّة لدى الشاعرة وما لها من جماليّاتٍ آسرة تبهر القارئ وتشدّه إلى عوالم قصيدتها.
التحرّر من أسر العنونة
المجموعةُ الواقعةُ في 64 صفحة من القطع المتوسط؛ جاءتْ مُتحرّرةً من أسر "العنونة"، إذْ تكتفي الشاعرة بتقنيّة المقطع، بحيثُ كلّ مقطع يأخذُ مساحة صفحةٍ أو أكثر قليلًا، ما سهّل للقارئ عمليّة التلقّي، حيثُ أتاحتْ له الانتقال بسلاسة من قصيدةٍ/ مقطعٍ/ صفحةٍ لأخرى: "ليس للمرأة على نوافذنا اسم يناديها به/ البشر/ ولا صفة محددة/ كانت فيما مضى انعكاسًا/ لضوء بعيد/ ثم مع الوقت صارت/ شرخا بطول الزجاج".
ما نجدهُ هنا، في هذا المقطع، من انسيابيّة وديناميكيّة في اللغةِ أو تلاعب بالمفرداتِ ومن ثمّ رصفها هكذا برويّةٍ وأنّاة، ينسحب على مُعظم قصائد المجموعةِ، حيثُ الجُمَلُ تتوالد واحدةً تلو الأخرى، ما يضفي المزيد من الربط والليونة على أجواء المجموعة، حتى تكاد أن تكون أشبه بقصيدةٍ واحدة، طويلة وغايةً في البراعة والإدهاش.
لمياء المقدم: شاعرة ومترجمة تونسية، ولدت في مدينة سوسة التونسية ودرست الأدب واللغة العربية بجامعة الوسط- تونس قبل أن تنتقل للإقامة والعمل في هولندا.
عملت صحافية ومقدمة برامج إذاعية في إذاعة هولندا الدولية.
صدر لها باللغة العربيّة: "بطعم الفاكهة الشتوية"- شعر (2007)، و"انتهت هذه القصيدة، انتهى هذا الحب"- شعر (2015)، و"في الزمن وخارجه"- شعر (2018)، كما صدر لها باللغة الهولندية: "ستجدني في كل كلمة أكتبها"- شعر، و"قصائد أوقات الفراغ"- شعر، وفي الترجمة عن اللغة الهولندية: "أنت قلت" رواية (2016)، و"مالفا" رواية (2018).
فازت بجائزة الهجرة الأدبية في هولندا عام 2001.