}
عروض

حرب النوارس في رواية "الجزيرة الأخيرة" للتركي زولفو ليفانيلي

علي العائد

4 سبتمبر 2024


أدَّى فوات السلام في رواية "الجزيرة الأخيرة" للروائي والموسيقي التركي، زولفو ليفانيلي، إلى نشوب حرب من نوع خاص؛ فالإنسان الذي لم يدفع ثمن السلام، دفع ثمن الحرب حين وجد أن السلام فاته، أو كي يستعيد السلام. السلام، هنا، يعني أن تعيش حياة بسيطة، لا تطمع بما يمتلكه جارك، ولا يحسدك جارك أو أخوك على الهدوء والسكينة‏. السلام في الجزيرة كان خيارًا بديهيًا، أما "الفوات" فلم يكن خيار سكان الجزيرة.
سكان الجزيرة كانوا يعيشون في 40 بيتًا فقط. وهم في الرواية أرقام، لا أسماء لهم يتنادون بها. أول السكان يحمل الرقم واحد، وهو وارث الجزيرة عن أبيه. السكان الآخرون هاربون من صخب المدينة، أو من قوانين المدنية الجائرة، جاءوا إليها تباعًا، فوجدوا ما أرادوا. يُضاف إليهم البقال، في شرط اقتصادي لا بد منه. ابن البقال معاق كانت مهمته توزيع طلبات السكان التي كانت تأتي من المدينة مرة كل أسبوع عبر باخرة ترسو قريبًا من الشاطئ، فينقلها قارب صغير لأن المياه الضحلة لا تتيح للباخرة أن ترسو على شاطئ الجزيرة.
ولولا هذه الباخرة لكانت الجزيرة مقطوعة تمامًا عن العالم؛ لا صحف، أو راديو، أو تلفزيون، أو تلفون.
ابن البقال يقع في مقام بهلول الرواية، أو مهرجها، كما نجد في مئات، وربما آلاف الروايات والمسرحيات، عبر تاريخ الأدب. بهلول الرواية، بدوره الخفي، يقول الحقيقة كلها في النهاية، ليفعل ما لم يستطع فعله السادة الأرقام، ممن حاولوا إيقاف الدكتاتور السابق الوافد إلى جزيرتهم المسالمة.
سكان الجزيرة في المنازل الأربعين ليسوا سكانًا بالمعنى المديني للكلمة، فهم لا يمتلكون منازلهم، أو حتى يستأجرونها. هم متساوون جميعًا في ما بينهم، وليس للساكن رقم واحد أي امتياز عليهم، حتى أتى الرئيس المخلوع، بعد أن اشترى المنزل رقم 24 من ورثة صاحبه، فأيقظ نزعة التملك في وارث الجزيرة، ونزعة الطمع لدى أغلب السكان الآخرين، بإقناعهم بعوائد السياحة من جزيرتهم البكر بعد تنظيمها، وانتزاعها من وضعها البدائي المضبوط بالتوازن الحيوي.




الديستوبيا في الرواية تبدأ مع حكاية حرب معلنة على النوارس، التي أزعجت الرئيس (كلب البحر)، وأزعجت حفيدته. حمل الرئيس ورجاله مع بعض سكان الجزيرة بنادق الصيد وبدأوا بقتل النوارس، وسحق بيضها على الشاطئ الصخري. النوارس، بفطرتها، بدأت انتقامها بعد أيام، وهاجمت سكان الجزيرة، حتى أنها قتلت أحد السكان وهو يصيد السمك في قاربه.
كان لا بد من طريقة لقتل النوارس بوتيرة أسرع. ما العمل؟ دعا الدكتاتور السكان للتباحث في الأمر. واستقر الرأي على ضرورة جلب عشرة ثعالب إناث، ومثلها من الذكور. الثعالب تأكل بيض النوارس فتجفف نسلها.
فعلت الثعالب فعلها، وهدأت موجة انتقام النوارس، وتراجعت أعدادها. لكن هجوم الأفاعي السامة بدأ، لتقتل أحد السكان بعضة غادرة. هنا تنبه سكان الجزيرة إلى أن تناقص أعداد النوارس جعل الأفاعي تزداد، فالنوارس كانت تصطاد الأفاعي، حتى أن السكان لم يصادفوا أفعى واحدة قبل الحرب على النوارس.
ما العمل؟ دعا الرئيس المخلوع خبيرًا ليحل المشكلة. اللقالق يمكن أن تصطاد الأفاعي. بنى الخبير أبراجًا من أشجار الجزيرة المقطوعة، لتحط عليها اللقالق المهاجرة حين تمر فوق الجزيرة. لكن اللقالق استراحت قليلًا في الجزيرة ثم تابعت طريق هجرتها الموسمية نحو الجنوب، ولم تحقق غاية الخبير، الذي هرب تاركًا الجزيرة وسكانها والرئيس نفسه.
اقتنع الرئيس بالتراجع خطوة: علينا قتل بعض الثعالب، وهكذا يزداد عدد النوارس التي ستصطاد الأفاعي ويعود التوازن البيئي إلى أصله. لكن الثعالب كانت قد ازدادت كثيرًا، ولم يجدِ صيدها بالبنادق في تحقيق الخطة. الحل في إحراق المنطقة التي تختبئ فيها. وهذا كان مقدمة لإحراق غابة الجزيرة كلها، حتى لم يبق منها إلا الشاطئ الرملي مهربًا للسكان. هناك، التقوا مع الرئيس وقد قرر مغادرة الجزيرة نهائيًا.
تأتي ذروة الرواية في استعادة صديق الكاتب صوته، الكاتب الذي وضعه رجال الرئيس في قارب وأرسلوه إلى العاصمة، لأنه كان قد هرب من السجن العسكري الذي كان محتجزًا فيه بتهمة معارضة النظام هناك. الراوي صديق الكاتب كان شاهدًا على حكاية الجزيرة منذ بدايتها إلى نهايتها، لكنه ظل سلبيًا في ردود أفعاله رغم معارضته لكلب البحر.
صديق الكاتب أفرغ كل غضبه في وجه الرئيس، لكن كلامه الذي أزعج الرئيس ورجاله يبقى مجرد كلام. أما الفعل فقد أتى من ابن البقال، الذي لم يسمع أحد من السكان صوته من قبل. الفتى وهو يندفع في اتجاه الرئيس أطلق صرخة أقلقت حتى النوارس، فحلقت من مكامنها، بينما دفع الفتى الرئيس وهو يحتضنه في اتجاه الجرف الصخري ليسقطا ويتفتتا معًا على الحواف الحادة للصخور، في نهاية تراجيدية لديستوبيا الجزيرة الأخيرة، بينما سارع حماة الرئيس إلى الهرب في قاربهم بعد أن سقط صاحب رسنهم.
شخصية الكاتب في الرواية محورية، إذ مارس دور الصوت المعارض، فتعرض للاعتقال في أكثر من مرة على يد رجال الرئيس كلب البحر، قبل أن يكتشف الرئيس نفسه أن الكاتب هو معارض هارب من سجن عسكري في الدولة المتحضرة التي تتبع لها الجزيرة.
كتب الروائي التركي الراحل يشار كمال (1923 ــ 2015) مقدمة أول طبعة تركية من "الجزيرة الأخيرة"، مثمنًا موهبة ليفانيلي: "في هذه الرواية كل الشخوص أحياء يرزقون، حتى الثعالب موجودة. وهناك الغابة وأشجار الصنوبر أيضًا، وموطن الثعالب وطيور النورس. نوارس لم نكن نعلم بوجودها قدّمت على أنها أقوى حتى من الإنسان نفسه. للبقال ابن معاق، لكننا لا نعرف حتى نهاية الرواية إن كان معاقًا أم لا. هذا الصبي لو لم يكن في الرواية، لما كانت هذه الرواية على هذا القدر من الروعة. للرواية جانب مأساوي أيضًا، لو كان في رواية أخرى لأخذ حصة أكبر. لقد خلق الكاتب التركي زولفو ليفانيلي أبعادًا وإمكانيات مذهلة في هذه الرواية فكل شيء يتناسب مع الآخر. هنالك قول جليل في الأدب "الدخول من الباب العريض"، هذا يعني أن كاتب العمل العظيم زولفو دخل بهذه الرواية من الباب العريض".
الرواية إذ تخلو من أي إشارة إلى مكان، أو زمان، محددين، مثلما لا يوجد اسم لأي من شخصياتها، سوى لارا حبيبة الراوي، فإنها تؤكد بذلك بحثها في النوازع الإنسانية، على إطلاقها.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.