}
عروض

"ثورة الكف الأخضر": جماعة كفاح مسلح منسيّة قبل النكبة

يوسف الشايب

5 سبتمبر 2024


سلّط الباحث الفلسطيني حسام أبو النصر، في كتابه "ثورة الكف الأخضر 1929 م"، الضوء على ما وصفه بـ"أول كفاح مسلّح في القرن العشرين"، كاشفًا عن أنه في الوقت الذي كان يهيمن على فلسطين بكاملها مزاج معادٍ للحكم البريطاني، كان الحاج أمين الحسيني يؤكّد للمندوب السامي تشانسلور في تشرين الأول/ أكتوبر 1928، أن غالبية العرب يكنّون لبريطانيا "شعورًا وديًا"، بحيث كان "يؤمن أنه يمكن منع الصدام المباشر مع بريطانيا، والاقتصار على مناهضتها سياسيًّا"، في وقت ذكرت فيه مصادر "البوليس" البريطاني أنه في الشهر السابق، أي أيلول/ سبتمبر 1928، كان شكيب وهاب، وهو قائد ثوري سوريّ من الطائفة الدرزية، عرض على "المفتي الأكبر"، تنظيم جماعات للقيام بحملات ثورية يمكن أن تتواصل لعام على الأقل، لكن الحسيني لم يجد في ذلك أمرًا مُلحًّا.

لكن الحراكات الثورية الشبابية التي انطلقت منذ مطلع عشرينيات القرن الماضي، ودعت إلى الكفاح المسلّح ضد الاحتلال البريطاني والصهيونية كانت لها الغلبة، وهو ما تحدّث عنه "تشانسلور" إلى رئيسه وزير المستعمرات البريطاني، وهو ما كان في جماعة "الكف الأخضر" المسلحة التي كان قوامها مجموعة من العرب الدروز، في تشرين الأول/ أكتوبر 1929، بقيادة أحمد طافش، العربي الدرزي، من سكان قرية "قَدَس" المهجّرة لاحقًا، شمال صفد، بالتعاون مع مجموعات في صفد، وتحديدًا الشبان العرب المسلمين، حيث كانت تقطن عائلة طافش، وتحديدًا في حارة النصارى، الذين شاركوا في ثورة الدروز ضد الفرنسيين بسوريا في عام 1925، فشكلوا العمود الفقري لهذه الجماعة التي أخذت بالتوسّع انطلاقًا من الجليل الشرقي.

كان أول تحركاتها في تشرين الثاني/ نوفمبر 1929، بهجوم في صفد، ما دفع إدارة الاحتلال البريطاني لفلسطين إلى إرسال تعزيزات من "بوليسها" إلى المنطقة، لكن، وبعد وقت قصير على وصول هذه التعزيزات إلى صفد، برز رجالات "الكف الأخضر" في قضاء عكا، حيث بدأوا يعدّون الكمائن لدوريات الجيش البريطاني وشرطة الانتداب، غير أنه بحلول الشهر الأخير من العام نفسه كانت التعزيزات الكبيرة من الجيش البريطاني قادرة على مكافحة الثوّار، وخاصة من مشاركة قوّات فرنسية، عبر تسيير دوريّات كبيرة من قواتهم على الجانب السوري من الحدود.

وبرهنت جماعة "الكف الأخضر" على قدرتها الفائقة لجهة المناورة، باعتبارها كانت تحظى بحاضنة شعبية في الريف خاصة، حيث كانت تنشط، فكان الفلاحون، ومنهم من انتسبوا إليها، يمدونها ليس فقط بالتموين اللازم، بل ويوفرون لها أماكن آمنة قدر الإمكان، غير أن الافتقار إلى التنسيق والتعاون بينها وبين القيادة السياسية الفلسطينية جعل من إمكانيات اتساعها كواحدة من أوائل الثورات الكفاحية المسلحة ضد الاحتلال البريطاني والصهيونية متعذرًا، خاصة في منطقة نابلس.

ويعتبر تنظيم "الكف الأخضر"، من أوائل إن لم يكن أول تنظيم مسلّح في المقاومة الفلسطينية، ما أثار حفيظة المندوب السامي البريطاني تشانسلور، الذي كتب عنه تقريرًا خاصًا إلى حكومته في لندن، وهو الذي كان يقوده أحمد طافش، وأصوله من عائلة أبي شقرا في لبنان، وسكنت "قَدَس"، و"الرّامة"، و"بيت جنّ".

ونجحت الجماعة في شنّ هجمات في مدينة صفد وشمال فلسطين، كما هاجمت بعض أهداف الاحتلال البريطاني في القدس، وأيضًا في عكا، وهو تنظيم تشكل بداية من سبعة وعشرين عضوًا، وانضم إليه في وقت لاحق عدد من الشباب العرب الدروز السوريين الذي اشتركوا سابقًا في الثورة العربية ضد فرنسا في بلدهم، وقادها سلطان باشا الأطرش في الفترة ما بين عامي 1925 و1927، وبينهم عرب السويداء على المستوى المسلح، علاوة على شخصيات سياسية وازنة كانت أقرب إلى الإدارة السياسية للتنظيم كشكيب أرسلان اللبناني الدرزي، وعجاج نويهض، وعادل أرسلان، وهاني أبو مصلح، وعلي ناصر الدين، وفريد زين الدين، وفؤاد شرم العلّامة اللبناني، وغيرهم، خاصة أنهم اعتبروا "الكف الأخضر" امتدادًا لثورة سلطان باشا الأطرش.

وكان رجالات "الكف الأخضر" يتواجدون في مناطق قريبة من الحدود الفلسطينية السورية اللبنانية، وكانوا يتسللون إلى تلك الدول عندما يضيّق البريطانيّون الخناق، بحيث كان عناصره يختفون ويعودون مجددًا للعمل والتحرك في فلسطين.

وكانت صفد في فترة الانتداب أو الاحتلال البريطاني من المراكز النشطة للحركة الوطنية الفلسطينية، فكانت إحدى بؤر هبّة البراق في عام 1929 في القدس، وامتدت من هناك إلى مدن فلسطينية أخرى، وكان من أبنائها فؤاد حجازي، أحد الفلسطينيّين الثلاثة الذين أعدمتهم سلطات الاحتلال البريطاني، في السابع عشر من حزيران/ يونيو 1930، بتهمة "تأجيج وتنظيم أحداث آب/ أغسطس وأيلول/ سبتمبر"، وفيها نشطت فصائل منطقة الجليل بقيادة أبو إبراهيم الكبير (خليل العيسى)، وفصائل محلية بقيادة عبد الله الشاعر، وعبد الله الأصبح، بحيث بلغ عدد ثوّار هذه الفصائل بضع مئات من أبناء صفد وقراها عام 1929.

ويسرد الكتاب أنه شاع في صفد خبر مفاده أن اليهود اعتدوا على الحرم القدسي الشريف وهدموه وأحرقوه، فهرع الناس مساء 18 آب/ أغسطس 1929 إلى الجامع الكبير، للاستماع لخطب الأئمة، ولم يمضِ وقت طويل حتى دخل المسجد ضابط بريطاني ليهدئ من روع الجماهير الغاضبة، أو المصلّين، حتى تم منعه من إكمال كلامه، وارتفعت دعوات الانتقام والثأر، ليصرخ أحدهم: اغتيل القائد أحمد طافش على يد القوات البريطانية، وكان ذلك اعتقادًا وليس حقيقة، تبيّن أنه ما زال حيًّا فيما بعد، فخرجت الجماهير العريضة متجهة إلى حارة اليهود في المدينة، وأخذت تخلع أبواب المحال التجارية وتشعل النيران فيها، حتى تدخلت الشرطة البريطانية، ونقلت اليهود إلى "السراي"، حيث مكثوا هناك ثلاثة أيام، حدث خلالها أن ألقى مجهولون من أنصار أحمد طافش قنبلة أدت إلى مقتل أربعة يهود وثلاثة خيول من الشرطة، فقدمت في 30 آب/ أغسطس 1929 القوات البريطانية من الجاعونة وطبريا، ودخلت حارة اليهود في صفد، وأطلقت النار على كل عربي وجدته فيها، وسط مقاومة عنيفة من شباب صفد.


وكان عدد كبير من الذي ألقي القبض عليهم، في ذلك اليوم، ومن ثم تم الإفراج عنهم، من مناصري أحمد طافش، بل وشارك عدد منهم، بعد أقل من شهرين، في تأسيس جماعة "الكف الأخضر".

وإلى جانب دور أحداث ثورة البراق في تأسيس جماعة "الكف الأخضر"، كان ثمة سبب آخر ورد في تقرير "لجنة شو"، ويتعلق بابتياع الصهاينة للأراضي العربية، واستعمار اليهود لها، لا سيما بعد استيلاء الصندوق القومي اليهودي على أراضي "وادي الحوارث" في المزاد العلني، بناء على قرار من محكمة بريطانية، لاستيفاء دين مستحق!

وكان طافش، ابن قرية "بيت جالا" قرب "بيت لحم"، ويعود إلى جذور لبنانية، كما ذكرت آنفًا، خاض قبل تشكيله "الكف الأخضر" عدّة معارك في جبال صفد، وعكا، بشكل ارتجالي، لكنه ورغم شعبيته الطاغية، لم يحظ بما حظي به آخرون من حضور في الصحافة الفلسطينية السائدة قبل نكبة عام 1948، لربّما خشية ردود فعل السلطات البريطانية، مع أن المعتقلين من أتباعه كانوا يزيدون عن الأربعمائة، وحكم على بعضهم بالإعدام والسجن المؤبّد.

وكان من أبرز قيادات "الكف الأخضر" علاوة على طافش، كل من: محمد عثمان، وعبد الله الأصبح، ورشيد العبد الله، وهاشم النحو، وليس جميعهم من الطائفة الدرزية، فهناك مسلمون، ومسيحيون، وأكراد، رغم أن أن عمل طافش النضالي كما "الكف الأخضر" تمركز بالأساس في مناطق كان يكثر فيها التواجد الدرزي، لربّما لتسهيل الإمدادات له ولمجموعته النضالية، وكان من أبرز عملياتهم علاوة على الهجوم على الحي اليهودي، محاولة اغتيال "مستر فردي" في صفد، واشتهر بتعذيبه للثوّار في أثناء التحقيق معهم، علاوة على ملاحقة رجالات الجماعة الثورية لعملاء الاستعمار البريطاني خاصة في مدينتي صفد وعكا، ومن نشطوا في بيع الأراضي بمنطقة طبريا.

وهناك إجماع على أنه تم الحكم على طافش، عقب اعتقاله في ربيع أو صيف عام 1930، بالإعدام، لكن تم تخفيف الحكم عليه تحت تأثير الهبّة الشعبية التي قادها الصحافي أكرم زعيتر فأطلق سراحه عام 1946، وتنقل بين حيفا وصفد حتى عام 1948، حيث هاجر إلى سورية، في حين نقل الكتاب أنه هرب من سجنه إلى سورية، واستقر فيها حتى وفاته، في حين بقيت عائلته "في الشام"، حسب مراسلات أجراها أبو النصر مع مصادر عدة.

ونقل أبو النصر عن جميل عرفات في سلسلته "من ذاكرة الوطن"، أن المؤرخين تغاضوا عن التعرّض لتوثيق بعض الحركات الشعبية والثورات الفلاحيّة، مثل: أحمد طافش عام 1929، ومصطفى علي الأحمد 1931، وأبو جلدة والعرميطي 1932، معتقدًا أن السبب في ذلك عدم التنسيق بين هذه الحركات التي كانت الثورة محورها، وبين القيادات السياسية التي خشيت على مراكزها من هذه الحركات.

وكان لعدم وجود إعلام خاص بـ"الكف الأخضر"، وقتذاك، دور سلبي في التوثيق للتنظيم أو للجماعة الثورية المسلحة، حيث لا بيانات موثقة تتعلق بالعمليات العسكرية التي قامت بتنفيذها، ولا إحصاءات دقيقة حول نتائج هذه العمليات التي استهدفت المستعمرات والأحياء اليهودية وقوات الاحتلال البريطاني.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.