}
عروض

"سُكَّر الهلوسة": شهادةٌ لاذعةٌ لشاهدِ عيان

أنور محمد

7 سبتمبر 2024
في رواية "سُكَّر الهلوسة" للروائي السوري علي عبد الله سعيد (1958)، والتي كَتَبَها بين عامي 1983 و1986، وأرسل مخطوطتها إلى اتحاد الكتّاب العرب في سورية عام 1998 لتنال الموافقة على طباعتها، فجاءه الردّ بعدم الموافقة، وبتخوينه، بحسب ما قاله في حوار مع الروائي نبيل الملحم لموقع البوابة- 10 تموز/ يوليو 2000: (إنَّ اتحاد الكُتَّاب العرب في سورية هو أوَّل من جَرَّمَني، الاتحاد اتَّهمني مثلًا وبالحرف بأنَّني عميل للصهيونية والموساد، وبأنَّني أقبض من أميركا، وبأنَّني يهودي... كان ذلك عام 1998 وآراؤهم تلك، كانت تعقيبًا على رواية "سكَّر الهلوسة" التي قدَّمتها إلى الاتحاد كي أنال الموافقة على طباعتها... هذا بالحرف ما جاء في التقرير الرقابي إضافة إلى شتائم تنال من شرف قريباتي). وبعد مضيّ 38 عامًا على كتابتها ها هي الرواية تصدر عن مُحْتَرَف أوكسجين للنشر أونتاريو/ كندا 2023 والتي تجيء بعد: اختبار الحواس- جائزة مجلة الناقد لندن 1992، جمالية المتاهة- جائزة منتدى ابن خلدون القاهرة 1993، براري الخراب- دار آرام دمشق 2000، جسد بطعم الندم- 2020، البهيمة المقدَّسة- دار خطوط عمَّان 2020، وفي القصة: هكذا مات تقريبًا - وزارة الثقافة السورية 1993، موت كلب سريالي - جائزة أصدقاء الأدب دمشق 1993.
في هذه الرواية "سُكَّر الهلوسة" يتجاوز علي عبد الله سعيد السردُ عنده بُنية الرواية؛ إنْ التقليدية، إلى تيار الوعي وما بعد الوعي، فنراه يكتب وقد خلط الوعي باللاوعي وهو واعٍ لما يكتب، كأنَّه جُنَّ، أو طقَّ عقله ممَّا رأى، وممَّا يرى لما يجري لسوريته، وبيده سيف الانتقام، فيجزُّ رؤوسًا ورؤوسًا. سعيد في روايته هذه لا يحتال على الفكر كي يخدعه، يكتبُ بحدسه فينتهكُ بطلُه أحاسيسَ القارئ وهو يروي عن مشاعره التي تلبس ثياب المواقف من قضايا الحرية واللاعدالة، فتراه يخرج من كابوس ليدخل في كابوس، وهو تحت تأثير شبحي- تشبيحي عنيف من أفعال لصوص يسرقون ويتوسعون في سرقاتهم ولا أحد يقاضيهم. وهذا سبب هلوسته. هو يهلوس ويفتننا بهلوساته التي هي من أثر صدمات مأساوية مؤثِّرة، وكأنَّها أثرٌ وحشي مكتوب بعصبية، مع أنَّ وقائعها السيرية مستقاة من تجربته الإنسانية والاجتماعية لموظَّف بدرجة محاسب: "أنا مستخدم مدني ملعون في مؤسَّسة إنشائية غير مدنية، لا تبني وطنًا إنَّما مديرها العام ينهبه. وقبل أن تستخدمني المؤسَّسة تأكَّدتْ عبر التقرير الأمني- من أنَّني لم أعدْ خَطِرًا"، ص132. هو كما يقول بلسان أُولي الأمر لا يشكِّل خطرًا على الدولة لأنَّ ما سيراه في عمليات الطرح والجمع والضرب والتقسيم من سرقات رؤسائه لأموال المؤسَّسة التي يعمل بها ستكون كافية لتجنينه، فيقع في حفر الأرقام، وتتعطَّل حاسبته التي تعجز عن عدِّ وإحصاء ما سُرِقَ من المال العام، فيصير كيده في نحره كما يقول المثَل، ويموت ونخلص من نقِّه لأنَّ مديره العام يعرف أنَّه مثل مسدسٍ غير محشوٍ بالطلقات. لكنَّ بطل سرديات علي عبد الله سعيد لم يمت، وسيستمر في نقد وكشف هويات اللصوص وهي بالنسبة له تمارين روحية فـ: التاريخ في هذا الشرق اللعين لا يصنعه إلَّا كمْ تيس يغتصب النساء، السلطة، والخطاب، ص 104.




تمارين تشكِّلُ لبطله قوَّة حيَّة وقيمة جمالية فلا يذعن أو يستسلم، فسيحكي ويحكي ولا يشبع من الحكي المتهكِّم من أنَّه وُلِدَ في بلدٍ رؤساؤه (خَيْلَة) من مديره العام إلى ما فوقه وما تحته، وهم يمارسون الجنس مع موظفاتهم أم أحمد خاصَّة، التي تمَّ تعيينها في المؤسَّسة منذ عشرين عامًا لينام المدير العام الملاك الخجول بين فخذيها في جناحه الخاص الملحق بمكتبه، والتي تحتفظ في خزانة خاصة بها بالمكتب بعطوراتٍ لجسدها وببياضات ومحارم الدورة الشهرية، والتي يتمنى جنكيز أن ينام هو الآخر بين فخذيها كأعظم وأغلى هدف يحقِّقه.
أغلب شخصيات "سكَّر الهلوسة" التي تقع في مرمى لسان الراوي هي لموظفات/ عاملات في المؤسَّسة العمرانية، واللاتي تشتغل أكثرُهنَّ رافعات أفخاذ، كما يصفهنَّ علي سعيد لمديرهنَّ العام أو رؤسائهن، مثل: لينا الكيلاني وهدى عيسى ومنى شرف، ومريم، وهيفاء القلَّة اليهودية زوجة جنكيز- يهودية لا صهيونية ذات الأربعين ربيعًا والتي هي الأخرى عاهرة، ومن ثمَّ أم أحمد التي يرشي مديرها العام زوجَها الذي يشتغل مسؤولًا مُهمًّا في أحد مراكز الدولة؛ يرشيه بأفخاذ وأفخاذ. ومن الموظفين والمستخدمين الذين يفريهم بلسانه: أبو جاسم الحفيري اللعين أعور الدجال المُحتال المُخبِر بعين مقلوعة، سعدون المفرد كبعير أجرب، وسامي الغستابو الأفَّاق الذي يحتقره الجميع والذي يتلصَّص على نساء المؤسَّسة، يتجسَّس عليهنَّ في المبولة وهنَّ يبدلن المحارم بين أفخاذهن، والذي يعمل مُخبرًا لأكثر من جهة، وقوَّادًا لأكثر من مدير أو مومس من مومسات المؤسَّسة، حتى بنات الجامعة الريفيات المسكينات لم ينجون من مكائده ووقائعه، وكثيرًا ما كان يقود بعضهن إلى حجرات جنرالات عجائز تسحقهم العنَّة، كانوا يفضُّونهنَّ إن كُنَّ عذارى بطرائق بدائية أو وحشية بعد أن كان الجنرالات يقطعون وعودًا للبنات بترقيات ومكافآت ومناصب. وقد استهجن الراوي مُحدِّثُنا وصول رئيفة إلى منصب مدير مالي، رغم أنَّها لم تجتز اختبارات السنة الجامعية الثانية بنجاح.
علي عبد الله سعيد يكتب بقوَّة وغضب، لا يضعف ولا يخشى، هو يرى الحياة من زاوية مُفجعة، وهي بالفعل مُفجعة، هو يكتب بوعي فردي عن انهيار القيم الأخلاقية الخاصة بالمجتمع السوري. ولكنَّه في هذه الـ"سُكَّر هلوسة" وهو الراوي أو ما يُعرف هنا بالبطل المُهَلْوِس، المجنون، فاقد البوصلة، الثائر، من أوَّل السكَّر إلى آخر الهلوسة لا يرتكب جريمة ولا يُفشي أسرارًا. هو يهجو وينتقد بكفاحٍ عنيفٍ الفسادَ والرشوة لأنَّه كما يبدو مصابٌ بفجيعة روحية، فيسرد صورًا/ حوادث وإن لم تكن مترابطة، إلَّا أنَّها مكتوبة بإحساسٍ حادٍّ بالقلق على وطنه، وهو يعيش مع أناسٍ بغاية الأنانية والاستهتار والابتذال يحرِّكهم شيطان الشر.
الروائي سعيد لا يقوم بكتابة بحثٍ جمالي أو أخلاقي، هو يكتب شهادة لاذعة- شاهد عيان وليس شاهد زور، وبشكلٍ مدهشٍ وعذبٍ على مرارته؛ لصورة وطنه وهو يتفسَّخ، يتقزَّم. هو راوٍ شاهد، راوٍ ضحية تُنازعُ جلادها، راوٍ يسرد أحداثًا/ وقائع قاسية ومفجعة عانى آلامها وقد فقد مذاق الحياة. راوٍ ساخط لا يني وهو يكتب بنبرة ساخطة أن يشتم ويشتم بسيلٍ من الألفاظ القاسية المهينة بحسٍّ انتقامي من اللصوص – لصوص المؤسَّسة كأكثر ما يقدر أن يقوم به.
سعيد في "سكَّر الهلوسة" يدافع عن قيم إنسانية يتمُّ انتزاعها منه بالقوَّة القهرية، فتجيء كتابته كدفاعٍ عن النفس، وما شكواه في كلِّ فصل من فصول الرواية التسعة إلى سلام الجزائري صديقته وحبيبته مما جرى له وما يجري من اغتصابٍ لوعيه بالوجود إلَّا ليؤكِّد على سلامة وعيه بأنَّه لمْ ولنْ يتدجَّن، وبأنَّه يكتب/ يفكِّرُ وهو في لحظة انفعال عقلية، ولحظة مراهقةٍ فلسفية، فلا يعرفُ وهو يعرفُ سائلًا سلام: انتهت الحرب- حربه مع الفساد بأنواعه، أو تلك الحروب التي قُتِلَ جنودها من أجل حماية عروش الخونة واللصوص الكبار وأثرياء القذائف والبيانات الكاذبة، أَمْ إنَّها بدأت؟ بدأت الحربُ يا سلام البريئة النقية؟. إنَّها كتابٌ في النقد؛ نقد الظلم والاضطهاد والقمع والسرقة والنهب أكثر من كونها رواية. نقدٌ يبدو فيه علي عبد الله سعيد مثل "بروميثيوس" البطل المصلوب؛ ولكن الذي يذهب بقدميه إلى صليبه من أجل الحرية والخلاص.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.