الحجر والورق
عرَّف فيكتور هيجو الهندسة المعمارية بأنها "خط الإنسانية"، وذلك في الفصل المعنون ب "هذا يقتل ذاك" من روايته "نوتردام باريس (1831)". غير أنه اسْتُغْنِي عن الخط نهائيا بتطور الطباعة. إلا أن هذه الزعزعة المبرمجة للمعارف، والمرتبطة بتطور تقنيات صناعة الكِتاب، لا يمكنها أن تنسينا أن فيكتور هيجو قد شكك في رواية أخرى له، هي "ثلاثة وتسعين" (1874)، في هذه النبوءة، واصفا تدمير كتاب عتيد من مكتبة قصر لاتورغ من قبل أطفال. وقد شُبهت صفحاته الممزقة ب "ركام من ورق أبيض هش" يتشتت "مع هبات الهواء" ك"الفراشات". دُمر الكتاب، وصفحاته مذراة في الريح مثل أوراق الشجر. ثم اضمحل مرأى ذلك "الإتلاف" في عرض السماء". وضع إذن هذا التبعثر الرمزي للكتاب في المحك، وبشكل نهائي، أسبقية المطبوع على الهندسة المعمارية. إذ لا تصمد أسبقية المكتوب على المشيد أمام العملية التدميرية للأطفال الذين يقلبون تراتبية المعارف العالمة. إن الكتاب العتيد ذا الصفحات الأربع المطوية مرهون لأن يتلاشى في كتاب العالم الكبير. وليس بوسع هذه الواقعة أن تُنسينا بأن المهندس المعماري والكاتب يعملان على تشييد فضاء معقد، متخيل وواقعي، والذي لا نستطيع أن نختزله في التضاد ما بين الحجر والورق المطبوع، آخذين بعين الاعتبار التشابه القائم منذ القدم بين الهندسة المعمارية والأدب في أبعاده البلاغية، الشعرية، والتأريخية. إذ تشهد التناظرات العديدة الصوتية: السيميائية، المعجمية التي أثارها الكُتاب في بحثهم عن التطابق ما بين الكلمات والأشياء، على العلاقة الوطيدة التي توجد بينهما. هناك إذن انسجام كبير ما بين الهندسة المعمارية والأدب.
يجعل تاريخ "فن البناء"، بطرائق تفكيره، أشكاله، طريقة الحلول في المسكن، أسلوبه، وتلقيه من الهندسة المعمارية أكثر من تقنية تشييد. لأن الروابط ما بين الهندسة المعمارية والأدب مبنية على العلاقة بين طريقتين فعالتين، متجاورتين ومختلفتين في آن. وتظهر ثمة تداخلات عديدة في التعبير عن فكر الهندسة المعمارية ونظرية الأدب، في تأسيس مشروع معماري وأدبي، بعيدا عن التطابقات المكرسة عموما في التخيل المسبق للبناء وتركيب النص، في فعل السكن في بناية وفي قراءة كتاب، ثم في تصور ذلك وفي تلقيه.
الأدب باعتباره أنموذجا
أبان المهندسون المعماريون وذلك في القرن الثامن عشر على مدونة نموذجية للوشائج التي تربط ما بين الأدب والهندسة المعمارية. وعرض حفيد الشاعر فيليب كينو، جيرمان بوفرون (1667-1757) مبدأ تشابههما الجوهري في "كتاب الهندسة المعمارية" وذلك سنة 1645. فهو ينتمي إلى طراز المهندسين المعماريين في القرن الثامن عشر، أي المهندس المعماري الموسوعي الذي يجمع ما بين المعرفة العلمية والأدب. فبوفرون منظر، طبيب وكاتب، قد ألف مباحث مسرحية في شبابه، ونصا مسرحيا يحمل عنوان "حمامات باب سان برنار"، وكذا بعض المذكرات. فهو يربط في مبحثه ما بين الهندسة المعمارية والأنواع المختلفة عنها، لاسيما الأدب. "مهما كان موضوع الهندسة المعمارية يبدو أنه ليس سوى استخدام ما هو مادي، فهي قابلة على احتواء أنواع متباينة تعبر عن أجزائها كلها، بمعنى أن الخاصيات المتنوعة التي تعتمل فيها هي ما يحركها". ذلك أن كتاب الهندسة المعمارية مقسم إلى عدة أبواب: هناك في البدء نص تقديمي معنون ب مقالة حول ما نسميه بالذوق الرفيع في الهندسة المعمارية يليه مبحث مبادئ الهندسة المعمارية مأخوذة من كتاب "الفن الشعري" لهوراس، بالفرنسية وباللاتينية وذلك في عمودين. وينتهي بمقالين آخرين، ويأخذ الأول عنوانا هو مبحث حول الأبعاد التي يمكن أن نمنحها للتوجهات الثلاث للهندسة المعمارية، حيث في واجهة مبنى، نوظف واحدة محل أخرى، الثاني هو، التزين الداخلي والتأثيث، كلاهما مقدمان حسب نفس الطريقة في عمودين، حيث يوجد على اليمين النص اللاتيني، بينما نجد ترجمته الفرنسية على اليسار. الجزء الأساسي من الكتاب مكون من الصور، واللوحات، التي تُظهر نماذج من الهندسة المعمارية، معروضة بإيجاز، مع تمهيد توضيحي. لا يُقدم المقال حول ما يُسمى بالذوق الرفيع في الهندسة المعمارية والمبادئ المأخوذة من الفن الشعري لهوراس، الذي كان في الأصل محاضرات ألقاها في الأكاديمية الملكية للهندسة المعمارية على أنه مبحث بقدر ما هو مقاربات حول الهندسة المعمارية. لا يزعم بوفرون في نصه التمهيدي بأنه يؤسس لقواعد، ولكن لمبادئ هندسة معمارية مبنية على "العقل"، وهي الكلمة التي يستعملها بصيغة الجمع، لكي يوضح أكثر التعامل الجيد مع الأمكنة. يقصد ب "العقل" بصيغة الجمع "المواءمة، الرفاهية، الأمن، الصحة، واللياقة" ولكن أيضا "محاكاة الطبيعة"، "التأقلم مع الغرض من المبنى"، ومع شخصية الموصي به. يثير الانتباه أيضا إلى ضرورة الأخذ بعين الاعتبار السياق، المناخ، والعادات، والمواد المستعملة. هذا الحرص على السياق الجغرافي والمناخي، بالموُصِي والمستفيد يجعل من المبنى المعماري رهان ترسانة مورفولوجية وطوبولوجية حاملة لرسالة يأخذها بعين الاعتبار المهندس المعماري الذي يوجد في وضعية "مهندس معماري-شريك". تستدعي العدة التي عددها بوفرون مقولات نظريات البيان التي لا تؤخذ في استعمالاتها المجازية ولكن بمعناها الحرفي. إذا كان اللسان يخدم النظرية المعمارية منذ القرن السابع عشر، كما يذكر بذلك جاك غيليرم في مقالته "معنى اللغة المعمارية: تقص نقدي"، لأنه يرى بأن جرمان بوفرون أتى في مبحثه تأويلا يمضي أبعد من إقرار بداهة التشابه المعروفة في القرن الثامن عشر ما بين الأدب والهندسة المعمارية.
من التوافق إلى التداخل
يتضمن نص بوفرون حول "المباديء" في الهندسة المعمارية مقاطع مأخوذة من الفن الشعري لهوراس، مُسْتَشْهَدٌ بها، مترجمة ومعروضة بموازاة تعليقه باعتباره مهندسا معماريا.
يصدق الشيء نفسه على الشعر؛ فأنواعه مختلفة، وأسلوب كل صنف منها لا يتناسب مع أسلوب الآخر: فقد قدم عنها هوراس مبادئ جيدة في كتابه الفن الشعري؛ ورغم أنه لم يخمن أبدا في الهندسة المعمارية، فيبدو لي أن بينهما وشائج كثيرة، والتي اعتقدت أن بوسعنا أن نوظفها وأن نضمها إلى تلك التي وضعها القدامى والمحدثين بالنسبة للهندسة المعمارية، والتي بوسعهم الاعتداد برقيها".
لا يقر بوفرون بوجود صلات مشابهة ما بين الفنين فقط: ولكن بمواءمة النوع لمتلقيه أيضا، واختيار اللغة المناسبة، مع تلافي أي تهجين بمزج الأنواع كلها. يستشهد بهوراس الذي يبسط التشابه إلى الرسم حسب نموذج الشعر يشبه الرسم: "يمكن للشعراء وللرسامين أن يجازفوا في خيالاتهم، باستثناء في جمعهم ما بين الأشياء المتعارضة". إذ تفترض المشاهد التراجيدية والمشاهد الرعوية لغة مختلفة وخاصة. ذلك أن قصرا ومنزلا عاديا ليست لهما نفس الغاية ولا نفس المالك. تُحيل هذه المقارنة بين الرسامين، الشعراء والمهندسين المعماريين المقامة انطلاقا من مفتتح الفن الشعري لهوراس، على فكرة أن الإنسان يتلقى الهندسة المعمارية مثل كلمات لغة. ذلك أن "منظر الزخرفة، والجوانب الأخرى التي تتكون منها بناية ما، هي فيما يخص الهندسة المعمارية بمثابة الكلمات التي تؤلف خطابا". فالهندسة المعمارية مصممة باعتبارها "فضاءَ علامات" مشفر ومتناسق. فاقتضاء التناسق يُمكّن من وحدة الكل. "يلزم، باختصار، ألا تشكل الأطراف جميعها سوى كلا، رتبة وحجما، كل شيء في مكانه". وقد لَفَتَ بوفرون الانتباه إلى فكرة هندسة معمارية تُتصور مثل نظام بناء متناسق حيث كل الأجزاء "تقترن من جهة الشكل والحجم" إلى درجة تشكيلها لجهاز يحتاج لكل جزء لتكون كلا عضويا. "تشكل الأنظمة المعمارية الكلاسيكية المستخدمة في الأعمال اليونانية والرومانية، بالنسبة لعدد متنوع من البنايات، ما تشكله الأنواع المختلفة من الشعر بالنسبة للأغراض المختلفة التي تسعى إلى تناولها."
يذَكِّر هذا الاستشهاد بتشابه العلاقات فيما بين الأنواع الهندسية والأدبية، وبضرورة تكييف الموضوع للأنواع. ويتماشى هذا المبدأ مع فكرة الوحدة، وفكرة النظام (الدوري، الأيوني، الكورنتي، التوسكاني)، التناسق، والاتفاق التي يلزم احترامها. لأن كل عنصر تقابله وظيفة محددة.
"لهذه الأنظمة الهندسية أحجام مرتبطة بخاصياتها، التي يصل اطراده من السفالة إلى السمو، وبالوقع الذي لابد أن تحدثه: كل واحد من هذه الأنظمة الثلاث له أسلوبه الذي يتلاءم حصريا مع نوعه، وليس مع آخر". تُمَكّن المبادئ المستخلصة من الفن الشعري لهوراس من الإرساء النظري للمبدأ الأعلى "للتوافق" بمساعدة تشابه واضح للبنيات بين الأدب ونظرية الهندسة المعمارية. توجد الهندسة المعمارية في نفس الرتبة والأدب مثل فن ذي اكراهات وخاضع لمبادئ وقوانين.
فللعمارة "نحوها" الخاص. ويمكن اعتبار الأنظمة الهندسية مثل "وحدات نحوية فرعية" في خدمة هذا النحو المعماري. ذلك أن الوظيفة التزينية والتعبيرية تمثل مفتاحا من مفاتيح الابتكار في الهندسة المعمارية. تجعل اللوازم، الأنسجة، الألوان من عمارة شكلا يحدث أثرا جماليا، بشرط أن "لا نربط جزءا من بناء بزخرفة مخالفة". لأن الوظيفة والتعبير بعدان اثنان للهندسة المعمارية. يبدو أن بوفرون لا يفصل الرمز عن البنية، ولا الدلالة عن الوظيفة العملية. يفتح التقاطع بين الهندسة المعمارية والأدب المجال لتفكير حقيقي حول الأولى، وظائفها، تعبيرها، وتطورها. ويتأسس حول سلسلة من المرجعيات الأدبية، الشعرية، الفوق-نصية، التي بدونها لا يمكن الإفصاح عن هذا الفكر الجديد للهندسة المعمارية. وقد شجع أيضا تصنيف الأشكال في الهندسة المعمارية على بزوغ العديد من الكتابات الأدبية. يمكن أن نضرب أمثلة كثيرة في هذا الشأن، والتأبين أو الرثاء (قبر ل) خير مثال على ذلك. كرمز للأدب الجنائزي في عصر النهضة، ويشكل جزءا من الألعاب الأسلوبية التي مارسها مالارميه وبول فاليري، في نهاية القرن التاسع عشر ومستهل القرن العشرين. مكنت تلك المقارنة، تغيير مواضع الممارسات الأدبية والهندسة المعمارية بفضل التداخل الانعكاسي بعيدا عن التبادل وعن ترجمتها ما فوق الجمالية.
الممارسات التفكيكية
أعادت نظرية "ما بعد الحداثة" في الهندسة المعمارية إلى راهنيته الرجوعَ إلى الأدب في الفكر المعماري. وقد أظهر مبحث روبير فونتيري "التعقيد والتناقض في الهندسة المعمارية" كيف أن الأدب قد احتفظ بوظيفة استكشافية بالنسبة لنظرية الهندسة المعمارية. ويمضي التركيز على البعد الأدبي في تفكير فونتيري أبعد من توظيف الاستشهاد بالكُتاب لتبرير التصورات الجمالية. فالمهندس المعماري يستعمل وسائل النقد الجديد، لأمثال: كلينت بروكس، كينيت بورك، ستانلي إدغار هيومان. إذ يزيل اللبس في الهندسة المعمارية بالطريقة التي يحصي فيها وليام إمبسن "سبعة أنواع من اللبس، 1930" وهو عنوان كتابه الذي يحمل عنوانا فرعيا آخر هو: طرق وأثر اللبس في الشعر الملحمي والتمثيلي.
تعمل الممارسة الأدبية والخطاب النقدي مثل خطاطات ابستيمولوجية وأدوات ابتكار. وتشكل تقنية الكولاج، تجاور العناصر المتنافرة، الشذرة، الاستشهاد، المزج بين الأنواع الشعبية والعالمة، وتقنية عدم الاستمرارية عناصر جمالية معمارية جديدة وتشتغل هذه الإجراءات بالخصوص في أدب جويس. ينظر روبير فونتيري إلى الهندسة المعمارية انطلاقا من الممارسة الأدبية آخذا بالحسبان التمييز الذي قعّده النقد الأدبي. لا يُستعمل الأدب مثل لغة واصفة حول اللغة ولكن مثل مجموعة آليات. إذ يطرح الأدب والهندسة المعمارية أسئلة مشتركة حول الإنتاج، المعنى وتلقي الأعمال الأدبية والمعمارية.
وتكمن إحدى الروابط بين الهندسة المعمارية والأدب في الاستعمال التخطيطي للخط، للرسم وللحرف. وقد أشار جورج بيريك في كتابه فضاءات إلى هذه المساحة الفارغة التي عليها "أكتب: أسكن ورقتي، أحاصرها، وأتخطاها". تنتمي الكتابة الشعرية إلى تركيبة غرافية موفقة بين مرونة قراءة المكتوب وجمالية الرسم في أشكال الشعر المرئي. وتتم رغبة تجسيم نص عبر استغلال إمكانيات إخراجه وطباعته. فالحديث عن معمارية الصفحة المطبوعة ليس مجرد استعارة. تُمَكِّن بعض الإجراءات الماكروتيبوغرافية والميكروتوبوغرافية من إعداد إرسالية تؤدي إلى تنضيد المكتوب. وقد استغلت الحركات الطليعية في القرن العشرين، المستقبلية، الدادائية، البنائية، إذا اكتفينا فقط بذكر هذه دون سواها، هذه الإمكانيات بشكل واسع. تمنح الصفحة فضاءَ تشكل معماري والذي يمكن أن يتضاعف النص بداخله مانحا بنية ملفوفة أو مشوهة، خالقا وهمَ فضاءِ على شاكلة الألف البورخيسي مكثفا كل أمكنة الكون أو القصائد المرئية مثل الكاليغرام. ومثال النص السردي الأكثر توفيقا في هذا المضمار هو بدون أدنى شك منزل الأوراق لمارك ز. دانيلوفسكي. لقد مكن نقش المنزل الذي يلزم استكشافه دانيلوفسكي من أن يبني نظاما معقدا من تركيب الخطابات والذي تجاور بداخله التعليقات على الأشكال الهندسية فراغات وبياض الصفحة. يخلق النص معماريته الخاصة في متاهة استطرادية حقيقية، بواسطة التبديل المتنوع لمختلف أنواع الخط، ألوان الحروف والكلمات، الزخرفة الطباعية، الأعمدة العمودية والأفقية، النصوص الموضوعة في إطار أو المعكوسة، ثم الكاليغرامات التي تضخم وقع الحجم. منزل الأوراق، في آخر المطاف، هو منزل الكتاب الذي يجمع في "شكل تزييني" "أكواما من القطع الورقية الصغيرة البيضاء".
يغذي قاموس الهندسة المعمارية كتابة تعليقاته النقدية أيضا. إذ أسهمت مفاهيم البنية، التفكيكية، التصميم، الثنية...في تطوير الخطاب النقدي بين هذه العلوم، وفي تعميق العلوم الجديدة مثل الوراثة. يذكر فيليب هامون بأن المصطلحات المذكورة تشير "سواء إلى مكونات البنية، أو إلى الأنواع، الأنماط أو المفاهيم الأدبية" لكنها تخترق الخطابات النقدية، الأدبية والمعمارية، والمتطورة بشكل مشجر. تمنح الهندسة المعمارية بذلك لغة واصفة، حيث اقتاتت خطاباتها النظرية الكلاسيكية، الحداثية، وما بعد الحداثية والحالية، ليس عن مقارنة أو استعارة، ولكن بنمط التداخل المنتج، من تضافر إمكانات النماذج الإبستيمولوجية وذلك على غرار نظريات روبير فونتيري. تمنح "أجراس" جاك ديريدا في إضافته نص أرتو لتعليقاته مثالا للتمويه النقدي عبر تجاور وتنامي الخطابات الواصفة حول النص الأصلي. فلا تكمن أهمية الموضوع في الهندسة المعمارية في إنجاز مشروعه فقط، وفي الخطاب النقدي الذي يصاحبه، ولكن في تشييد مسكن بوسعنا أن نقطن فيه.
أن نكتب لنسكن
أن نكتب لنخلق، نبدع لنبني، نبني لنسكن "عملا" هي بعض مراحل الخلق في الهندسة المعمارية وفي الأدب. تشكل الهندسة المعمارية التي تُعتبر بناء لعناصر مشيدة ليس فقط مجازا لإنتاج نص ولكنها تحيل على مهارة جماعية وإلى عمليات مشابهة أبعد من مجرد مجاز. ليست هناك هندسة معمارية بدون تخطيط مسبق للمشروع. فالمهندس المعماري مثله مثل الكاتب يوظفان، من كل جوانب الموضوع المعماري، المادة اللغوية مثل أداة خلق وإخبار وتعبير. يتألف تشكل عمل معماري وعمل أدبي من خطاطات، تصاميم، سيناريوهات، كراريس، وثائق تقنية، مسودات...على شاكلة خطاطات إميل زولا، ولوائح "دفتر التحملات" لجورج بيريك، وتصاميم التوليف لكلود سيمون. تحتوي ملفات مشروع أدبي أو مشروع معماري على ملاحظات عديدة، مخطوطة، أو مرقونة أو منمذجة. تُبين سيرة حياة ستندال إلى أية درجة يعتبر الملمح وكذا التخطيط مكملان لبعضهما في تصور المكان. يصل تفكير المهندس المعماري وتفكير الكاتب عبر إعادة الصياغة الأيقونية والشفهية. فالسيرة العلمية لألدو روسي تمنح مثالا للنظر عن بعد إلى الكاتب وذلك حول مساره وعمله، في الوقت الذي يوظف فيه نموذج السيرة الذاتية الأدبية والرسم لفهم سيرورة الخلق في الهندسة المعمارية. ذلك أن وصف مساره كمهندس معماري يعتبر إسهاما جديدا بالنسبة لعمله نفسه.
ينجز المهندس المعماري مكان ممكنات متخيل أو واقعي، ويشيد أمكنة سكن وعبور، في سبيل السكن فيها. وينتج الكاتب عبر كتابته فضاءً خياليا يمكِّن القارئ من الولوج إليه. القراءة هي طريقة للسكن في هذا الفضاء الأدبي، وامتلاكه. يتساءل جورج بيريك في "فضاءات" قائلا: ألا يلزم أن يمنح النصُ للقارئ أيضا مكانا لاستقباله؟ "هل يعني السكن في مكان امتلاكه؟ ما هو امتلاك مكان؟ وكي يكون نص ما قابلا للسكن فيه، وأن لا يضل فيه القارئ، ألا يلزم إذن أن يتآلف معه القارئ. منزل الأوراق لمارك ز. دانيلوفسكي هو بالنسبة للقارئ متاهة حقيقية. يمكّن التصور الأدبي من تقدير مدى إمكان السكن في هذه الأمكنة الخيالية أو الواقعية، ودرجة حسن إيوائها لنا أو صدنا. يستتبع تنوع الأمكنة (من المكان الهايدغري إلى لاأمكنة مارك أوجيه أو الأمكنة المضادة لبول أردين...) تعدد أنواع علاقاتنا بالمكان وبالزمن والتي باستطاعة الأدب استيعابها. ذلك أن الأمر لا يتعلق فقط بتفحص تداعيات المعنى التي توحي بها الأمكنة والأجسام المعمارية، في دلالاتها وقيمتها. وقد أثارت مساءلة طرق خلق وسكن الفضاء مناهج جديدة في التحليل، وذلك في أخذها بعين الاعتبار الدور الفاعل للأفراد، ومختلف السلوكات تجاه خصوصيات الأمكنة. وقد غيرت هذه الأبحاث النظرية والتطبيقية كذلك مقاربتنا للمدينة. تشكل المدينة باعتبارها تجميعا للمنازل، للأزقة، التحقيق المعماري الذي يتحدث عنه الأدب بشكل واسع. سواء تعلق الأمر بالمدن الحقيقية (شكل مدينة لجوليان غراك) أو متخيلة (المدن اللامرئية لإيتالو كالفينو)، المدن المثالية (سفورزيندا لأنطونيو أفيرلينو) (مدينة الجير المثالية. مبحث الهندسة المعمارية لكلود نيكولا لودو) أو اليوتوبيا المضادة (1984 لجورج أورويل، العوالم المثلى لألدوس هيكسلي، العمالقة للوكليزيو...) فالطوبولوجيا الحضرية هي فضاء مشترك بين المهندسين المعماريين والكتاب. أثار عدد من الزخارف المعمارية نصوصا أدبية تسائل علاقتنا بالمكان: معبر بومري لأندري بيير دو مانديارغ، حلم السلم لدينو بيزاتي، غرف فندق الكريستال لأوليفييه رولان...وقد أوجد المكان، خلاف ذلك، باعتباره فسيفساء (الفضاء الجواني لبناية، فضاء غرفة...) إكراهات معينة للأدب ليس فقط على شكل بناء خيالي ولكن فيما يخص الكتابة أيضا. وتجربة السجن والكتابة التخييلية في ثلاثية بيكيت مولوي (1951)، ماتت مالون (1952)، المقززة (1953)، هي خير مثال على ذلك. إذ تمكن الروايات التي تتخذ من بناية موضوعها، المعاشرة الزوجية (1882) لزولا، معبر ميلانو لبيتور (1954)، كيف يمكن أخذ الحياة لبيريك (1978) من تقدير أثر هذه الثيمة على التركيب، الكتابة وتاريخ النوع.
ليس التداخل ما بين الهندسة المعمارية والأدب أقل اطرادا من ذلك الموجود ما بين الهندسة المعمارية والفلسفة، الهندسة المعمارية والفن...ولكنه ليس من نفس الطراز. يقينا فالأدب يساعد المهندسين المعماريين على تهذيب الجهاز المفاهيمي، وعلى إنشاء ابيستيمولوجية معمارية جديدة. لأن التكامل ما بين الفضاء المعماري والسرد الأدبي يؤسس خاصة لتكامل ما بين الفعل المعماري والكتابة، تشييد مكان والقيام بوصفه والسكن فيه، وأن نجد فيه "مستقره". "الأماكن هي مواضع يحدث فيها شيء ما، حيث يقع شيء ما، حيث تتبع تغييرات زمنية مسارات فعلية على طول المسافات التي تفصل وتربط بين الأماكن" كما يلفت بول ريكور النظر إلى ذلك. إن هذه التجربة الزمنية هي التي يؤسسها الأدب في التخييل ويضعها في المحك. الأدب هو عنصر غير مادي بالنسبة للمهندس المعماري الذي يسهر على إنجاز ومعرفة فضاء مهيكل معماريا.
الهندسة المعمارية باعتبارها شعرا
المقارنة، التوازي، التواءم، التداخل، كلها تحديدات تشي بتعدد الروابط ما بين الهندسة المعمارية والأدب، وتنوع علاقاتهما. أُقيمت الوشائج بين الرسم والأدب على مبادئ شعرية بواسطة الكتاب والنقد بالرغم من اختلافهما السيميائي. العلاقات ما بين الهندسة المعمارية والأدب خصبة جدا ليتم النظر إليها على نمط الهندسة المعمارية، باعتبارها شعرا. ويلزم للوقوف على تنوعها، القيام بانعطافة تاريخية لإبراز تطور قواعد الهندسة المعمارية.
تمنح الهندسة المعمارية رؤية حياتية واقعية، يمكن أن يندس فيها الفن بطريقة مخالفة. لا يسعى توضيحُ العلاقات ما بين الهندسة المعمارية والأدب إلى القول بتشابه معرفتين وممارستين متنافرتين، ولكن يجب خلاف ذلك بذل قصارى الجهد لمنح معنى لتجربتيهما، دون السعي بالضرورة إلى ضم بعضها إلى البعض.
إشارة:
*من مجلة أوروبا عدد مارس 2017. وهو عدد مخصص لتناول العلاقة ما بين الهندسة المعمارية والكتابة.
*أسقطنا من الحسبان ترجمة الهوامش الكثيرة المرافقة للمقال.إ