}

شارع الرشيد: أجواء عبقة بذكريات الماضي

مها عبد الله مها عبد الله 9 أكتوبر 2023
أمكنة شارع الرشيد: أجواء عبقة بذكريات الماضي
مبنى قديم في شارع الرشيد في بغداد (16/11/2018/فرانس برس)

كتاب "شارع الرشيد" لباسم عبد الحميد حمودي (الدار العربية للموسوعات، 2014) الذي نستعيده هنا، كتاب توثيقي يحتضن بدفء ذكريات من التراث العراقي، والذي يُعد شارع الرشيد خير شاهد على ما تكتنزه تلك الذكريات الحميمة من حضارة ومعمار وحِرف وأحياء وأزقة وأحداث وأسماء وأعلام، ترسم الثقافة العراقية ماضيًا وحاضرًا في أبسط صورها وأعرقها على الإطلاق. يتفرّد هذا الشارع كأحد أبرز المعالم الحيوية في العاصمة بغداد بعراقة أخرى، حيث يرتبط به الفرد العراقي وجدانيًا لما شهد في ساحاته من أحداث سياسية واقتصادية واجتماعية، مع ما اعترك فيه من مآس، وما ازدان به من مسرّات، قد شكّل في مجمله تاريخًا يعدّه مدعاة للفخر. يتحدث الكتاب عن نشأة الشارع وأسمائه وأسواقه ومشاريعه ومراحل تطوره والأحداث التي جرت عليه، ويتطرق إلى سرد عدد من روّاده من أدباء وسياسيين وأطباء ومهندسين وغيرهم، بالإضافة إلى استعراض جانب من التراث الأدبي الذي احتفى بالشارع نثرًا وشعرًا، أو كان شاهد عيان على كثير من الأحداث التي وقعت بين جنباته آنذاك.
مؤلف الكتاب الأديب والمعلم الراحل باسم عبد الحميد حمودي (1907 ـ 2018)، والذي تذكر شبكة المعلومات بأنه كان في حد ذاته كنزًا من الإرث التربوي والأدبي والفكري الذي يزخر بدوره بثروة من الذكريات والصور ما يجعل منها تاريخًا آخر.



هنا، يجتمع حب عدد من الأدباء العراقيين في تسطير مقالات هذا الكتاب، وهي مقالات حملت عبقًا من الماضي التليد ابتداءً من الخلافة العباسية حتى مجريات التاريخ في الماضي القريب، مع معرض للصور في ختامه. فعلى سبيل المثال، يرسم المؤلف (صورة ناطقة للعراق المعاصر) كأولى مقالات الكتاب، يليه أسامة ناصر النقشبندي، وهو يخصص مقالته لـ (إطلالة تاريخية على شارع الرشيد)، بينما يسلّط عزيز الحجية الضوء على (بعض المعالم الترفيهية في شارع الرشيد قديمًا) في مقالته، وفخري حميد القصّاب على (الأسواق التراثية المطلّة على شارع الرشيد). يعود المؤلف ليتناول الشارع بالنقد الأدبي من خلال مقالة (شارع الرشيد في الرواية العراقية)، بينما يتناول عبد الكريم عناد الحارس الليلي فيه، ووحيد الشاهري سينماته، وجودت عبد المجيد العمري تعبيده وترصيفه.
قد يجد من عاش على أرض العراق، وفي شارع الرشيد تحديدًا، هذا الكتاب بمثابة فرصة لاسترجاع ذكرى ماضٍ أصيل عاصر أحداثه، أو سمع بعض حكاياته من أجداده، بينما من لم يحظَ بطيب العيش في الرشيد، يجده بمثابة إضافة ثرية لحصيلة معلوماته. لذا، تعتمد هذه المراجعة على الطبعة الأولى للكتاب الصادرة عام 2014 عن الدار العربية للموسوعات، وهي تنثر شذرات من الذكرى التي أحياها، لمن عاش هناك ولمن لم يعش، وتقتبس منه بما يخدم النص (مع كامل الاحترام لحقوق النشر)، كما يلي:
لا يسير شارع الرشيد على طريق مستقيم، بل إنه منحرف، ولانحرافه سر يكشفه صادق الأزدي قائلًا: "ومع أن ذلك المهندس يعرف أن الخط المستقيم هو أقصر الخطوط بين نقطتين، إلا أنه جعل شارع الرشيد غير مستقيم، ليس لأن العمارات العالية كانت تقوم على جزء كان الشارع سيمر بها وإنما لسبب آخر... أن العوائل البغدادية المتنفذة تدخلت لحرف الشارع حتى تطل دورها عليه، أو لأنها حريصة على دورها الحسنة البناء والمتوارثة عن الآباء، وربما الأجداد، وهكذا لم يأت شارع الرشيد مستقيمًا كما ينبغي". أما سوق الشورجة العتيق الذي يعود تأسيسه إلى أواخر العصر العباسي، ويطلّ على شارع الرشيد، فله عالم "غريب" على حد تعبير المؤلف الذي تابع: "تشدك نكهة توابله إلى سحر الشرق، وتجذبك ألوان شموعه الزاهية إلى عراقة الماضي المتجذر في نفوس العراقيين، وتعيد إليك رائحة صوابينه رائحة تراث بغداد الذي يربض هذا السوق في عمق شرايينها". يطل على شارع الرشيد كذلك جامع الحيدرخانة الذي شُيّد في العصر العباسي أيضًا، وخضع للتجديد في العهد العثماني، والذي "شهد صفحات مشرقة من أيام بغداد المعاصرة حيث كان مركزًا لثورة العشرين، يلتقي فيه الخطباء والشعراء ليثيروا حماس جماهير بغداد من أجل الثورة". ومع المتابعة سيرًا إلى الجانب الأيسر من الشارع، وعبور ساحة الميدان ومن بعدها باب الآغا الذي كان مقرًّا رسميًا لإقامة آغا بغداد، أو الرئيس القائم بأعمال المحلّة، وتخطيّ جامع مرجان الأثري الفخم، يتم الوصول إلى شارع الكنائس، أو (عكد النصارى)، والذي فيه "تكـثر الكنائس، ومنـها كنيسـة اللاتين، حيث مقر الأديب الأب أنسـتـاس مـاري الكرملي، وهـذه المناطق قديمة. ويذكر التأريخ أن للنصارى حاليًا، وفـي الزمن العباسي، احترامًا خاصًا، وكان للرهبان والقساوسة باب خـاص للدخول على الخليفة العباسي. واعتاد أهل بغداد تقديم التهاني في أعياد الميلاد ورأس السنة، ويقرعون الطبول، والعراقيون يحبون المهرجانات". وبالإضافة إلى طراز (الركوكو) الذي كان يشكّل الطابع العام لعمارة شارع الرشيد، والذي يأتي عادة مطعّمًا بالزخارف الإسلامية، هنالك أيضًا (الشناشيل) التي تقف شاخصة تحكي عراقة الفن المعماري السائد آنذاك، وتحاكي الهوية العراقية التي تميّزت بها مدن العراق وأحياؤها وأزقتها وبيوتها القديمة، فـ "الشناشيل عبارة عن شبابيك الطابق الأول المطلّة على الزقاق، وتكون معظم هذه الشناشيل بارزة على الخارج ومحمولة على روافع خشبية ومزوّقة بمسامير كبيرة نصف كروية تُسمى (جرصونات)"، وقد كانت هذه الشناشيل المنفذ الوحيد للنساء القابعات في الدار للنظر خارجه. وإضافة إلى ما للكلمة من جرس موسيقي أنثوي، فقد اتخذها الفنانون مادة ثرية لإبداعاتهم، كما في قصيدة (شناشيل ابنة الجلبي) للشاعر بدر شاكر السيّاب، والمنحوتات الفنية واللوحات التشكيلية والصور الفوتوغرافية، فضلًا عن الأعمال الأدبية والروائية التي زخرت بها كتراث أصيل باقٍ. أما ملحق الصور الذي عرض ماضي الشارع في لونين لا ثالث لهما، فقد جاء أكثر شجنًا، ما بين الحياة التي كانت تنهض في مرافقها، والمارّة الذين التقطتهم العدسات وما ظنّوا حينها أنهم سيصبحون جزءًا من تراث حضاري يُشاد به. فمن الثلاثينيات، هنالك صورة تبدو فيها منطقة الحيدرخانة تحت وطأة القيظ، بينما تطوف عربات اللاندون التي تجرّها الخيول على طول الشارع، وكذلك صورة لمبنى سينما رويال الواقع في محلة باب الآغا يعلوه اسم السينما باللغة الإنكليزية، المجسّم كما يبدو بالنيون آنذاك. كذلك، تبدو واجهة جامع مرجان ـ الواقع على مقربة سوق العطّارين ـ من الفخامة ما يحيله إلى مسجد أثري بحق، لا سيما وهو مشيّد على نمط العمارة الإسلامية العثمانية، وقد عُرف عن البغداديين حبهم للجوامع التي كانت تمثّل لهم ـ بالإضافة إلى مقامها كدور للعبادة ـ أماكن للقاءاتهم ومضارب لاجتماعاتهم، بينما تظهر كنيسة مريم العذراء الواقعة في ساحة الميدان قبالة شارع الرشيد، شامخة رغم تصدّع أسوارها التي شيّدت في منتصف القرن السابع عشر للميلاد. أما جسر المأمون الخشبي، والذي أصبح يُسمى بـ(جسر الشهداء) نسبة إلى شهداء ثورة يوليو/ تموز المطالبين بتأسيس الجمهورية، فيظهر ضيقًا على جانبيه، فيما يعدّ أول جسر ثابت بُني في بغداد على نهر دجلة.





وعلى الرغم من أن عرض الشارع كان يبلغ ستة عشر مترًا في أول الأمر، إلا أن إهماله الذي استمر حتى العشرينيات أحاله إلى شارع من الخرائب الذي لم تكتمل أبنيته. وفي هكذا وضع بائس، تفيض قريحة الشاعر معروف الرصافي (1875 ـ 1945) رثاءً، أو هجاءً، أو ما بينهما، في قصيدة "الشارع الكبير" التي يقول في بعض أبياتها:
نكّب الشارع الكبير ببغداد         ولا تمش فيه إلا اضطرارا
شارع إن ركبت متنيه يومًا        تلق فيه السهول والأوعارا
تتراص سنابك الخيل فيه          إن تقحّمن وعثه والغبارا
فهي تحثو التراب فيه على        الأوجه حثوًا وتقذف الأحجارا
لو ركبت البراق فيه أو البرق     نهارًا لما أمنت العثارا
تحسب العابرين فيه سكارى       من هواء تنسّموه غبارا
مستجيشًا من الجراثيم جيشًا      مسيّطرًا عرمرمًا جرّارا
وإذا ما مشيت في جانبيه         فتجنّب رصيفه المنهارا
ودكاكين كالأفاحيص تمتدّ         يمينًا بطوله ويسارا
يبدو أن هنالك شيئًا من السبق الحضاري! فلقد كان مقهى عزاوي السبّاق قبل كافيهات شانزليزيه الباريسية، وهو أحد مقاهي بغداد الشعبية الواقعة في سوق محلة الميدان. كان بداية يقدّم عروض خيال الظل، أو خيال الستار، مع نشاطه الأساسي كمقهى، ثم تطوّر نشاطه إلى استحضار الراقصات على غرار ما استحدثته المقاهي الأخرى في السوق، "وقد ورد ذكر (كهوة عزاوي) هذه في الأغنية العراقية القديمة (فراكهم بجاني) التي يقول أحد مقاطعها: يا كهوتك عزاوي.. بيها المدلل زعلان". وأجدها من أكثر ما جاد به الفولكلور العراقي العذب طربًا وشجنًا، لا سيما عندما يصاحبها صوت ذو بحة وكأنه صدى يتردد من ماضٍ، ودّ كتّاب هذه المقالات لو يعود!.
ختامًا، أقول: إن كانت العرب تظن بأن لكل امرئ من اسمه نصيب، فإن العراق حاز من اسمه كامل النصيب... وحُقّ له.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.