}

فلسطين في سيرة أديب

مها عبد الله مها عبد الله 24 ديسمبر 2023
أمكنة فلسطين في سيرة أديب
مريد البرغوثي (1944 ـ 2021)
لا يترك الأديب الفلسطيني أرضه ليروي تاريخها الملوك والضبّاط والأحداث الكبار، فلا يلبث أن يُركن على الرف ويُهجر ويعلوه الغبار ويمضي طي النسيان، إنما يصرّ على رواية التاريخ كما ينبغي له أن يُروى... تاريخ أبناء الأرض فردًا فردًا، وسيرة الوقائع والحواس والأجساد، التي قد تبدو لكل غشيم ـ حسب تعبيره ـ رواية مفككة، تافهة المعنى والمضمون، بل يؤكد أنه تاريخ حكاياتهم الصغيرة التي تحتضن الأعين والخيالات والأرواح، وهو يقول في إصرار: "سنروي الرواية كما يجب أن تروى... سنروي تاريخنا الشخصي فردًا فردًا".
يضع مريد البرغوثي (1944- 2021) كتابه "ولدت هناك، ولدت هنا" الذي يصف ـ في نطاقه الضيق ـ سيرته الذاتية، وقد تلقّفته المنافي العربية والأوروبية بعد تخرّجه من إحدى الجامعات المصرية، ولم تحتضنه مدينته (رام الله) إلا بعد ثلاثين عامًا... غير أنه ـ وفي نطاق أوسع ـ يسلط الضوء على القضية الفلسطينية، وما لحق من عدوان غاشم على أرضه وأرض أجداده، وهو يسترسل في سرد أحداث مصيرية عاصرها بنفسه، ومواقف أخرى مؤثرة تعرّض لها أفراد عائلته وقرابته وأصحابه وآخرون من بني جلدته، وصور لأعلام وفهارس لأماكن، حتى حفرت تعاريجها في ذاكرته على مر السنين. ففي الفصل الذي حمل عنوان كتابه "ولدت هناك، ولدت هنا"، يسترجع رحلته الأولى مع ابنه اليافع إلى مسقط رأسه (دير غسانة)، فأصبح يروي له بأنه (وُلدَ هنا)، بعد أن أمضى عمرًا طويلًا في غربته يروي له بأنه (وُلدَ هناك). يعبّر عن هذا الشعور في إحدى خواطره قائلًا: "يقف جندي الاحتلال على بقعة يصادرها من الأرض ويسميها (هنا) فلا يبقى لي أنا صاحبها المنفي في البلاد البعيدة إلا أن أسميها (هناك)".
والأديب الثائر، وهو يستخدم لغة سلسة في أسلوب أدبي شجيّ، يستحضر العاطفة تارة، ويثير الحنق تارة أخرى، ويستشعر معه القارئ قيم الفخر الراسخة عند أبطال السيرة، ويتألم معهم في ظروف احتلال وتشرد وموت وفراق، فُرض عليهم. ومن جميل ما يُستشف في السيرة، ذلك الجو الأدبي الذي يسود عائلة الأديب وشاعريته، بل وأجملها، معاني العزة التي حرصت فيها زوجة الأديب، الروائية الراحلة رضوى عاشور، على غرسها عند ابنها تميم في صغره، رغم ما تستجلب تلك العزة من عواقب لا تُحمد في زمن يقوده الأسياد ويتبعهم العبيد صمًّا وعميانًا، على خلاف الفطرة والمبادئ وقيم الحق والعدل والإباء والحرية.
تعتمد هذه المراجعة على الطبعة الأولى للكتاب الصادرة عام 2009 عن رياض الريس للكتب والنشر، والتي أعرض من خلالها مقتطفات، واقتباسات تخدم النص (مع كامل الاحترام لحقوق النشر) كما يلي:




بينما يدكّ الاحتلال أرض الفلسطيني، يهتز الفلسطيني بسرور حقيقي لوهلة، فقد تمكّن لتوه من الحصول على ربطة خبز، أو أنبوبة غاز، أو تصريح مرور، أو مقعد مهترئ في باص... لقد وجد حبة ضغط الدم في الصيدلية البعيدة أخيرًا، ففرح لها كما فرح لوصول سيارة الإسعاف لإنقاذ مريضه قبل فوات الأوان... وكم غمرته السعادة ذات يوم حين عاد إلى بيته ليلًا وقد عاد إليه التيار الكهربائي... أما المشي على الشاطئ فيطربه، وأما فوزه في أي مجال وإن كان في لعبة ورق فيدفعه إلى الرقص... "هذه الهشاشة الإنسانية في أرّق صورها تتجلى بأبعاد أسطورية في صبره الطويل عندما يصبح الصبر وحده مخدّات لينة تحميه من الكابوس". وعن إسعاف المرضى، يسترجع الأديب في فصل (عربة الإسعاف) رغبته الملّحة بزيارة مدينة رام الله التي يضطر معها إلى استقلال عربة إسعاف، وذلك لتجنب ظروف الاحتلال بالغة الصعوبة والطرق المقطوعة بين المدن، رغم المغامرة المحفوفة بعواقب قد تكون وخيمة ما إذا تعرضت سيارة الإسعاف للتفتيش عند بعض الحواجز الأمنية! لم تكن المغامرة الجريئة في حد ذاتها تستدعي الذكر، بل حملقة تلك العجوز المسجّى جسدها فوق سرير يشهد تأرجحها بين حياة بائسة وموت محتّم... حملقة كانت موجهة بسهام القدر، حين ظنّ الجندي المحتل وقد همّ بتفتيش العربة أن ذاك الأديب ليس سوى الطبيب المسعف، فأغلق باب العربة وهو بالكاد فتحه! يا ترى؟ هل شلّت روعه تلك الحملقة، أم أن المشهد برمّته بدا وكأنه اعتياديٌّ؟ وعن الموت المحتّم الذي إن قدّر له أن يكون طبيعيًا، فبعد انقضاء عمر طويل، لكن الأديب يفزع لتكراره ولفجاءته ولشبحه الملازم لأهل الأرض، فيقول: "أكثر ما يفزعني أن نعتاد الموت، كأنه حصة وحيدة، أو نتيجة محتومة علينا توقعها في كل مواجهة".
يقف الأديب على سور عكا، وعلى الفور تقف أمامه "وفي صف واحد علامات استفهام متجهة اتجاهًا واحدًا: كيف ضاع بلد كهذا؟". لكنه يعود ليقول في محاولة إقناع ذاتية "بعض الأوطان هكذا: الدخول إليه صعب، الخروج منه صعب، البقاء فيه صعب... وليس لك وطن سواه". وفي ذكر الوطن الذي لا ينقطع، لا يعتقد الأديب في فلسطين والحرب التي كُتبت عليها، ما يحكيه التاريخ عن بقية الحروب، إذ أن "فلسطين لم تسقط في حرب ذات بداية ونهاية كالحروب التي نعرفها! الحروب الكبيرة والحروب الصغيرة تبدأ ثم تنتهي، من حرب طروادة إلى فيتنام إلى الحرب العالمية الثانية... إلخ، وبوضوح يليق بالعقل البشري تعرف أنك خسرت، أو تعرف أنك انتصرت، ثم تفكر في الخطوة التالية وينتهي الأمر". فكيف الأمر هو إذًا؟ يستشيط الأديب غضبًا وهو يكيل اللوم للأمة التي غلب نعاسها يقظتها على حين غرّة، فيستمر قائلًا: "لم تأتِ بوارج الجيوش اليهودية وتدكّ هذا السور وتقتحمه على أهل عكا... ها هو في مكانه منذ كان وكما كان! لم تقم قوة بمحاصرة جيش فلسطيني ليرفع لها الرايات البيضاء وينتهي الأمر برابح نهائي وخاسر نهائي. أقول فلسطين ضاعت نعاسًا وغفلة واحتيالًا! في كل يقظة حاولناها، وجدنا موتنا ورحيلنا الموحش إلى المنافي والمنابذ والأخطاء. نعم الأخطاء... ونحن لا نزال نخطئ حتى الآن! كل هذا تم ببطء يبعث على الرهبة. كيف تنعس أمة بأكملها؟ كيف غفلنا إلى ذلك الحد بحيث أصبح وطننا وطنهم؟". لذا، لا للاستسلام، إذ لم تكن هناك حرب هُزم فيها الفلسطينيون، ولا للمهادنة، فليست فلسطين قضية تُسوّى بالجدال! فيقول في قسوة أشد: "نحن لم نخسر فلسطين في حرب بحيث نتصرف الآن كمهزومين... ونحن لم نخسر فلسطين في مباراة للمنطق بحيث نستردها بالبراهين".



وللأديب من الذائقة ـ ليست بالضرورة أدبية ولا لغوية ولا شعرية ولا فنية ـ ما ترتبط بالتوقيت! إنها القهوة، أو توقيت القهوة! وهو إذ يرى أن قهوة القراءة غير قهوة الكتابة، فهناك الشقراء منها، والمحروقة، وهناك وسط بينهما، ومنها ما هو للتعارف، أو للتصالح، أو لطلب حاجة، وهي ليست على الموقد كما هي من آلة التحضير، وهي من وجه صبوح عن وجه نكد تختلف، وهي تقدّم في العرس خلاف ما تقدّم في العزاء، وإن كانت دعوة شربها مصاحبة لكلمة "عندنا" فهي في الحقيقة دعوة للخطف، أو للقتل، غير أن "الغبي هو من يطمئن لقهوة الحكومة". يستمر الأديب في خواطره عن القهوة التي هي ـ ولا عجب ـ رديف لكل أديب: "يختلف الناس في سر القهوة وتختلف آراؤهم: الرائحة، اللون، المذاق، القوام، الخلطة، الهال، درجة التحميص، شكل الفنجان، وغير ذلك من الصفات. أما أنا فأرى أنه التوقيت. أعظم ما في القهوة التوقيت، أن تجدها في يدك فور تتمناها. فمن أجمل أناقات العيش، تلك اللحظة التي يتحول فيها ترف صغير إلى ضرورة. والقهوة يجب أن يقدمها لك شخص ما... القهوة كالورد، فالورد يقدمه لك سواك، ولا أحد يقدم وردًا لنفسه. وإن أعددتها لنفسك فأنت لحظتها في عزلة حرة بلا عاشق، أو عزيز، غريب في مكانك، وإن كان هذا اختيارًا فأنت تدفع ثمن حريتك، وإن كان اضطرارًا فأنت في حاجة إلى جرس الباب". وعن ذائقة أخرى، يُطري الأديب شجرة تباركها الأديان السماوية، وتمثّل لكل فلسطيني معنى التجذّر في الأرض، فلا تُذكر أرض فلسطين حتى يُذكر الزيتون. يقول الأديب: "الزيتون في فلسطين ليس مجرد ملكية زراعية، إنه كرامة الناس، هو نشرة أخبارهم الشفهية، حديث مضافاتهم في ليالي السمر، بَنْكهم المركزي ساعة حساب الربح والخسارة، نجم موائدهم ورفيق لقمتهم. هو بطاقة الهوية التي لا تحتاج إلى أختام ولا صور، ولا تنتهي صلاحيتها بموت صاحبها! تظل تدل عليه، تحفظ اسمه وتباركه مع كل حفيد جديد، وكل موسم جديد".
أخيرًا، وإن كانت سيرة ذاتية لأديب راحل يشوبها كثير من الأدب والحكمة والشاعرية وشظف العيش الممتد، فهي تشبه في تفاصيلها روايات كثير ممن رحلوا وممن بقوا، بين لوعة الذكرى وجفاف الغربة وأمل العودة وإن طال! يقول مريد البرغوثي عن السخرية كسلاح للأعزل: "ومن علامات قوة المقهور السخرية من الأقوى، والاستعداد الصامت للرد في وقت ما، حتى وإن طال. أثناء هذا الصبر يمارس المقهور شهوة الحياة بكل الحواس". وإن لم يمكّنه الوقت من الرد الشافي وقد رحل، فلعل الوقت قد حان لكل مقهور باق على أرضه أن يرد، وله، إذًا، أن يمارس حب الحياة بعد انتصارها.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.