تنقل لنا شاشات التلفزة، بقصد أو دون قصد، الهمجية الإسرائيلية في التعامل مع مناطق الصراع في شرقنا، في غزة وجنوب لبنان، وهي إذ تحاول إحصاء الخسائر بالأرواح والبنى، من خلال تكرار إحصائياتها وأرقام احتياجات إعادة بنائها، فهي تغفل أيضًا، أن هذا الاعتداء لا يهدف إلى اقتلاع الشعوب من أرضها فحسب، بقدر ما يعمل على اقتلاع الذاكرة الجماعية لهم، والتي تشكّل أحد أهم أركان الهوية الوطنية والحضارية، في بلاد يتغذّى وجدان حاضرها من تجارب وتاريخ ماضيها، ما يجعل من هدف الحرب أبعد من الانتصار والسيطرة على موقع ما، بل هو طمس هوية المكان وتفكيك لكل الروابط التي تجمع الساكن بالمسكون، إنها تجفيف بل اجتثاث لما يمكن أن يورث للأجيال القادمة من تعبئة وجدانية لجذورهم الراسخة في الأرض.
لذلك فإن تحويل مناطق السكن والعمران لأهالي فلسطين أو لبنان إلى خراب لا يصلح للعيش، حتى بعد انتهاء المعارك، ونهوض خطط إعادة الإعمار التي تليها، هو غاية بحدّ ذاته، لأن ذاكرة المكان هي جزء من هوية الشعوب، كما هو التراث التاريخي والآثار القديمة. كذلك هي الحال بالنسبة إلى التراث المعنوي المطوق بالعادات والتقاليد واللغة والفنون، فعند انتزاعها من مكانها الطبيعي (المدينة والحي والحارة والبناء)، تسهل مهمة هدم المحتوى المعنوي للروابط التي تتوارثها الأجيال، وبخاصة في ظل تشريد من تبقى من السكان، وتحويلهم من مجتمع متماسك إلى كيانات مشتتة بلا ذاكرة مكانية في بلدان اللجوء ومجتمعاته.
يمثل ما يحدث لقطاع غزة مثالًا حيًا لمعنى العمل على هدم الذاكرة المكانية لسكانها، أو محوها، فاستمرار قصفها بمختلف أنواع القذائف والصواريخ وممارسة الطيران الإسرائيلي اعتداءاته اليومية عليها، على رغم أن معظم أحيائها فرغت من سكانها، ما يعني أن الغاية ليست الانتصار بمفهومه العسكري، الذي يعني بطريقة أو بأخرى، كسر الطرف الآخر، الذي تعتبره إسرائيل عدوها، بل تدمير البيئة الفلسطينية بكل ما تحتويه من تراث أثري، ومعالم ثقافية، وأسواق تاريخية، وصولًا لتدمير أزقتهم وأماكن عباداتهم الإسلامية والمسيحية، ومدارسهم ومشافيهم، ليس لجعلها خارج الخدمة خلال معاركها الدامية، بل لتغيير معالمها المحفوظة بعقول وقلوب السكان، بغاية مسحها من الوجود بتمريرها من مرحلة الهدم والخراب، إلى مرحلة الزوال الكلي، وإحلال صورة أخرى لها، فاقدة لأي جذور تاريخية أو عاطفية مع الأجيال الحالية واللاحقة.
لقد علمت إسرائيل منذ نشأتها كدولة احتلال أهمية التغيير الهوياتي للمكان، فمنذ عام النكبة (1948) بدأت بتغيير أسماء المدن والشوارع والأحياء، وربطتها برموزها الدينية اليهودية، بهدف صناعة هوية جغرافية وتاريخية لها، يربط مواطنيها الإسرائيليين المجمعين من كل مكان برواية يهودية. إلا أنها بعد مرور العقود السبعة على محاولاتها لا تزال تشعر أنها أخفقت بمهمتها، وأعادت ذلك الفشل إلى استمرار الوجود الفلسطيني على الأرض، برغم احتلالها لأرضهم، وممارساتها العنفية معهم، أي أن بقاء السكان الفلسطينيين الأصليين مثّل التحدي الأكبر لمحاولة إسرائيل طمس الهوية الفلسطينية.
ومن هنا يمكن أن نفهم لماذا صارت الحروب التي تشنها إسرائيل على أي بقعة على الأرض، غايتها اقتلاع الحياة منها، وليس فقط النصر على من يحاربها، بل قتل الحاضنة السكانية للثقافة والتراث والقيم والعادات والعلاقات المجتمعية، وهو أمر لن يحدث ما لم تشتت شمل الشعب، وتضمن عدم بقاء أي روابط له تغذي ذاكرته البصرية عنه.
فما تصنعه اليوم أيضًا في الجنوب اللبناني، هو مماثل لما فعلته ومستمرة فيه في قطاع غزة، ليس على الصعيد العسكري، فهي تبحث عن قتل المكان بما يحمله من هوية اجتماعية وثقافية، وإن استطاعت أن تمنع عن أهله ذاكرتهم الشفوية لمنع تداول أسماء أماكنهم التي عرفوها عبر التاريخ، فهي ستجتهد في بذل المزيد من العنف والقتل والتدمير، لأن ما رأته من تأثير الثقافة والفنون والأدب المستمدين من ذاكرة المكان في مقاومة مشروع تغيير الهوية الجغرافية والمكانية لفلسطين، يجعلها تضاعف عنفها ضد البيئة المكانية لأهالي الجنوب اللبناني، وتحويلها إلى خراب شامل، يهدر أي أمل في عودة الحياة إليها وفوقها، كما تفعل في غزة تمامًا، وتتوسع في عدوانها على كل الأراضي الفلسطينية ومن عليها، فالمكان هو عدو لمن يحتله بقوة السلاح وتزوير الرواية التاريخية والثقافية عنه.
*كاتبة سورية.