}

حيُّ الزيتون الغزّي: حزينٌ وصامدٌ ومقاوِم

محمد جميل خضر محمد جميل خضر 29 يونيو 2024
أمكنة حيُّ الزيتون الغزّي: حزينٌ وصامدٌ ومقاوِم
فلسطينيون في حي الزيتون فوق أنقاض مبان دمرتها إسرائيل(7/3/2024/الأناضول)
حزينةٌ شوارع حيّ الزيتون الغزيّ، حزينةٌ ومقاومةٌ وصامِدة. هذه هي حال شارع كشكو قرب مسجد الأبرار، وَكذا شارع السكّة شرق الحيّ، وَباقي شوارِعه الحزينةُ الصامدة.
حزينةٌ عائلات حي الزيتون، حزينةٌ ومقاومةٌ وصامِدة؛ طوطح، وأبو حمدي، وباقي عائلاته الحزينة الصامدة.
حزينة بيوت الحيّ، ونساؤه، وكل الناس فيه حزينونَ ومقاومونَ وصامِدون... (أم مازن) فقدت بيتها ومشْغل خياطتِها... تلوذُ بالحيّ جدارها الأخير من دون أن تنسى أفقَ خلاصِها النضير.
(أم فوّاز الدّقّة) هجّت إلى دير البلح عندما جفّت في الحيِّ مختلف منابع الحياة... عاشت هي وصغارها فترة على النّشاء فقط، حين صار سعر كيلو الطحين 40 شاقلًا. جاء أفراد العصابة الصهيونية وفرضوا عليها وعلى باقي أفراد أسرتها وجيرانها الخروج، بعد أن اعتقلوا الرجال من الحي، نحو دير بلح... من نزوحٍ إلى نزوح، ومن طحين القمح إلى طحين الذّرة، ومنهُما إلى النّشا. عادت من خيمةٍ في رفح إلى خيمةٍ في دير البلح، قابلها زوجها هناك وقد عرّته العصابة إلا من ملابسِهِ الداخلية.
حزينونَ أهلُ حيِّ الزيتون، فالحزن في غزّة والقطاع ديْدن الأيام... (أم أحمد) راضية مرضية تحمد الله في السرّاء والضرّاء... الطبيب عبد الرحمن عبده فقد منزله في الهجمة الأخيرة على الحيّ... أحرقت الهمجيةُ داخل منزلِه المدمّر ما يزيد على 40 ألف دولار جمعها الطبيبُ المحتسبُ كل (شِبر بِنذر)... (أبو إبراهيم) فقد عمارةً مكوّنةً من ثلاثة طوابِق... جَرَفها العدوّ الصهيونيّ بالكامل. لِيتيه بعدها هو وأهلُهُ وأشقاؤُه، كل شقيقٍ نزح إلى مكان، واحدٌ في مدارس الإيواء، آخرُ عند أصدقاء، وثالثٌ لا ماء وَلا كهْرباء.

الهلال والصليب يجتمعان في حي الزيتون 

حزينٌ حيّ الزيتون، لم يتركه مجرمو العصر الحديث من عصابات الصهيونية العالمية وفيها أفراد منّا، ومن الغرب، ومن كل العالم الصفيق، إلا ركامًا يرثي بقاياه، يحْدب الحجر على الحجر، يندُبُ الشجر ما تبقّى من رِوايةِ الحيِّ الضارب في التاريخ والحِكاية الكنعانيّة الأزليّة الشّامخة.
حزينٌ كلُّ شيءٍ هُنالك الشعر والنّثر والأَغاني، ها هو المنشد الغزّيّ الزيتونيّ حمزة أبو قينص يصرخ "عزّ الفراق" بكلمات الأسير مجدي القبيسي، وألحان وتوزيع أسامة قاسم، ويجعلُ النشيدَ مرثيةً قديمةً متجددةً للحيّ وأهلِه:
"يا للأحبّةِ إنْ مضوْا... وسموْا إلى دار الخلود
يبقى لهم ذكرٌ بِنا... كالعطرِ فوحًا والوُرود...
عزّ الفراق... عزّ الفراق... عزّ الفراق...
عَزَّ الفِراق أيا حبيب... أَوَ هكذا عنّي تغيب
الشوق مزّق أضلعي... والنار في كبدي لهيب
أضحيتُ بعدكَ ضائعًا... والعيش أضحى لا يطيب
من لي يداوي أوجعي... أَوَ لستَ لي كنت الطبيب
قد عشتَ عمركَ ثائرًا... تأبى المهانةَ والركوع
واليوم ترحل مسرعًا نحو الجِنان بلا رجوع
وأنا في سجني غارقٌ ببحرِ حزني والدموع
خذني إليكَ فإنني أهفو لضمّك ِبالضلوع
ستظل فينا مشرقًا أملي ويا نور الحياة
قد كنتَ حقًّا باسلًا لم تخشَ في الله الطغاة
كالصقرِ تمضي راحلًا فوق الرواسي الشاهقات
تسمو إلى دار العلا حيث الجِنان الخالدات".


لا أحد يعلم ما هي أخبار حمزة أبو قينص اليوم.
يقولون استُشهد، لكن مدير أعماله الشاعر خالد الطيراوي ينفي الخبر. فإلى متى سوف تظل تنفي يا طيراوي، وأنتم جميعكم هناك، في حيِّ الزيتون والأَحياء والأَنحاء جميعها، مشروع شهادة موثّقة عبر القنواتِ جميعها؟
حزينةٌ كلُّ كتابةٍ عن كلِّ حيٍّ غزّيّ...

تاريخ عريق
يضم الحيُّ المستريح جنوب شرقي غزّة البلد، بوصفه من أكبر الأحياء هناك، وأكثرها ازدحامًا سكانيًا، أماكن تاريخية كثيرة، من بينها مسجد "كاتب ولاية"، الذي يعد أحد أبرز المعالم التاريخية المهمة في مدينة غزة، إذ يعود بناؤه إلى القرن السابع الميلادي، فترة حكم الناصر محمد بن قلاوون، وتقدّر مساحته بحوالي 177 مترًا مربعًا. ومثل معظم أوابدِ القطاع ومعالمه التاريخية الآثارية القديمة العريقة، تعرّض المسجد، على مرّ التاريخ، للتدمير وإعادة البناء مرّات ومرّات. المسجد عبارة عن مبنى كبير يتوسّطه عمودان وإِيوان وساحة أمامية، تلاصق مئذنتهِ كنيسة القديس بريفيريوس.




حمّام السُّمرة هو ثاني أقدم المعالم التاريخية في قطاع غزة، وتحديدًا في حي الزيتون أحد أحياء غزّة الأحد عشر (الدرج، الشجاعية، التفاح، الرمال، الشيخ عجلين، الشيخ رضوان، الصبرة، النصر، تل الهوى، وقاع القرين، إضافة إلى حي الزيتون). وهو الوحيد المتبقّي من الحمّامات التاريخية في القطاع. أُنشئ في العهد العثماني على مساحة 500 متر مربع، ثم أعيد ترميمه وتجديده في العصر المملوكي. سُمّي بهذا الاسم نسبة للسامريين الذين عملوا فيه لفترة من الزمن.
أمّا كنيسة القديس بريفيريوس فتعد ثالث أقدم كنائس العالم، بنيت في بداية القرن الخامس الميلادي على الطراز البيزنطي، وسمّيت نسبة إلى القديس بريفيريوس ناشر الديانة المسيحية في قطاع غزة. تبلغ مساحتها حوالي 216 مترًا مربعًا، وتتكوّن من جزأين رئيسيين؛ الأول هو رواق المصلين الذي يتسع لـ500 مصلٍّ تقريبًا، والثاني هو الهيكل المخصص لأداء الطقوس الدينية.
من الأماكن التاريخية المهمّة في حي الزيتون دار الإمام الشافعيّ، حيث مسقط رأس الإمام الشافعي عام 150 للهجرة، وهو أحد أئمة المسلمين الأربعة. تقع الدار على مساحة 300 متر مربع تقريبًا، وتضم ضريح السيدة آسيا ابنة الإمام. في سياق الحديث عن دار الأمام الشاعر صاحب المذهب، فقد استطاع الشيخ محمد عواد، مؤسس المعاهد الأزهرية في فلسطين، الحصول على موافقة من الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر لتحويل الدار إلى خدمة العلوم الشرعية، فأصبحت منذ عام 1964 أوّل جمعية لتحفيظ القرآن الكريم في قطاع غزّة.

دار الإمام الشافعي 

في عام 2017، أعيد ترميم المكان وافتتاحه من جديد، وأطلق عددًا من الدورات الشرعية، وسمّيَ بـ"دار الإمام الشافعي الأزهريّة للعلوم الشرعية"، وأصبحت تدرّس فيها العلوم الشرعية بمختلف أنواعها على أيدي عدد من الأساتذة الأزهريين.
إلى ذلك، في الحيّ جامع الشمعة، الذي اندثرت معالمه القديمة، وكذلك مسجد العَجمي. وعند الطرف الجنوبيّ للحيِّ مقبرةٌ يُطلق عليها "تربة الشهداء"، تتوسّطها أعمدةٌ رخاميةٌ نُقِشَت عليها أسماء كثيرٍ ممّن استشهدوا في الحروب ضد الغُزاة وهم يدافعون عن المدينة. وبسبب أعمدة المقبرة الرخامية، فإن للمنطقةِ حولَها اسمًا آخر هو "حارة العواميد".

صمودٌ مستحيل...
سطّرت المقاومة الفلسطينية في حيّ الزيتون منذ اندلاع طوفان الأقصى بطولات أسطورية تُضاف إلى بطولات الحيّ التاريخيّة. إذ تلقّت العصابات الصهيونية هناك هزائم جديدة في كلّ مرّة حاولت اقتحام الحيّ، أو خطر على بالِها البقاء فيه. ورغم أن العدوّ حاول تأخير اقتحام الحيّ، وأبدى تردّدًا وجُبنًا في مسألة تجريب حظّه فيه مرّة ثانية بعد هزائمه القديمة المدويّة هناك، إلا أنه، وحين قرّر التوغل نحو مجهولِه، فقد تلقّى ضربات موجعة ومضاعفة من المقاومة وأبطالها. ضربات ذكّرته بِماضي الحيّ ومقاوميه منذ تفجير ناقلةِ الجُند في عام 2004، وتحوّل ستة جنود من قوات الهندسة الصهاينة، آنذاك، إلى أشلاء.
ليس التاريخ من يعيد نفسه، بل أخطاء التاريخ هي التي تتكرّر، وهذا ما يفعله الغباءُ الصهيونيُّ في كلّ مرّة، لينتهي توغله الذي دام عشرة أيام بخسائر مدويّة بالعدّة والعتاد والأفراد.
عمليات المقاومة في حيّ الزيتون كذّبت، مرّة أخرى، رواية العدوّ الصهيوني حول إنجازه القضاء على المقاومة في غزّة، فالإعلام العسكريّ والحربيّ لِفصائل المقاومة الفلسطينية وثّق العمليات النوعية التي شنّتها تلك المقاومة في حيّ الزيتون، صادحةً أن الهزيمة هي، دومًا، من نصيب تلك العصابات المارقة إنسانيًا وأخلاقيًا وحتى عسكريًا.
فأي صمود مستحيل ذلك الذي ينقشه الحيّ بدماء أبنائِه! وأي مجدٍ يصعدُ بالذّرى نحو الذّرى، وبالأعالي نحو مزيدٍ من الأعالي!

تفاصيل...
يقول الناشط الإعلاميّ الخلوق بشير أبو الشعر، ابن حيّ الدّرج، إن "أهل حي الزيتون هم أهل شهامة ورجولة وبطولة". أبو الشعر يورد، بعيدًا عن (غوغَلة) المطالب المعلوماتية من الشبكة الحلزونية، أن مدينة غزة هي الأكبر في القطاع، إذ تتكوّن من عشرين حيًّا ومنطقة سكنيةً معتمدةً لدى المجلس البلدي، إضافة إلى مخيم للاجئين الفلسطينيين.




ويؤكّد أن حيّ الزيتون هو في صدارة أحياء المدينة من حيث المساحة التي تمتد على نحو 9156 دونمًا، وهو ثاني أحيائها من حيث عدد السكّان البالغ نحو 78 ألف نسمة بحسب إحصائية جرت في عام 2015.
يقول أبو الشعر: يقع الحي في قلب المدينة التليّة القديمة، ويحتلّ نصفها الجنوبي تقريبًا (جنوب شارع عمر المختار).
وهو يذهب إلى أن اسم الزيتون الذي اقترن بهذا الحي جاء كنتيجة طبيعية لكثرة أشجار الزيتون التي ما تزال تغطي معظم أراضيه الجنوبية حتى يومنا هذا، ويقول: "رغم ما دمّره الاحتلال الإسرائيلي في اجتياحاته المتكرّرة للمنطقة من بوابتها الجنوبية والجنوبية الشرقية، وفور كل تدمير يقوم أهل هذا الحي بإعادة ترميم زيتونهم تميمة حيّهم، وزراعته وتحويل الحيّ لجنّة خضراء تجلس على حدود غزة الجنوبية في مواجهة أي عدوان إسرائيلي، من دون أن ينتظر المساعدات من هنا وهناك... فهي مساعدات لا تصل في غالبها".
في الحي، بحسب أبو الشعر، عيادة رعاية صحية واحدة تعمل لفترة واحدة فقط، وفي غالب الوقت لا يوجد فيها علاج، أو حتى تحاليل طبية .
وفيه نادٍ رياضي واحد يحمل اسمه (نادي حيّ الزيتون)، لكنه ناد لا يوجد له ملعب أسوةً بباقي المناطق، يعني نادي من غير ملعب.
يقول أبو الشعر: "في حيّ الزيتون منازل لا تصلح للسّكن، بعضها من الصفيح، أو القماش، أو غيره، لكنها تقف بشرف في مواجهة اعتداءات الاحتلال".

حي الزيتون يعود في كل مرّة من الرماد  

من مواليد الحي الشاعر الفلسطيني هارون هاشم رشيد (1927 ــ 2020) الذي يمثّل جيلًا شعريًا فلسطينيًا أُطلق عليه اسم "شعراء النكبة، أو شعراء العودة". يمتاز شعر رشيد بروح التمرد والثورة، ويُعَد من أكثر الشعراء الفلسطينيين استعمالًا لمفردات العودة، إلى حدّ أنْ كان أطلق عليه الشاعر الفلسطيني الراحل عز الدين المناصرة لقب (شاعر القرار 194).
من ديوانه "يوميات الصمود والحزن" (تونس 1983) نقفل المقال بهذه الأبيات:
"من غزّة الآن قبل الآن قد وثبوا
أمَا سمعتم بهم يا أيها العربُ؟ 
أطفالٌ في عمر الأزهار ما عرفوا
لهو الصغار ولا أغراهم اللعِبُ
من الخيام التي في الريح نازفةً
جراحها طلع الأطفال وانتصبوا
يواجهون رصاص الغاصبين فما
لديهم من سلاح غير ما احتسبوا
فبالحجارة رجمًا فبالعصي قنًا
يقاتلون وما ارتدوا وما هربوا
أطفال غزّة يدري المعتدي أبدًا
ماذا لديهم وما في الصدر يصْطخِبُ
يقاتلون فما كلّت سواعدهم
يومًا ولا دبَّ فيها اليأسُ والتعبُ
تسائل الأمّ أين العزم يا ولدي؟
وأين تمضي وهذا الهول يلتهبُ؟
يقول أين يا أمّي أين أخي؟
وأين أبي وأحبابي ترى ذهبوا؟
مضوا على الدرب لتحرير غايتهم
واستشهدوا وأنا للأهلِ أنتسبُ
فإذا تخاذلتْ الدنيا بأجمعِها
عن الطريق فإني اليوم أقتربُ
قد لا أراك مساء اليوم ذا قدري
فكيف عن قدري يا أمِّ أحتجبُ؟
من خان يونس نأتيهم ومن رفحٍ
من البريج يسيل الدم ينسكبُ
يطهِّرُ الأرضَ من رجسٍ يدنّسها
فينبت الزهر والحنو والعشبُ
وتشرق الشمس يا أمّاه باسمةً
وتختفي هذه الغربان... تنسحبُ".

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.