}

حي التّفاح: زِندُ مقاومةٍ فوّاح

محمد جميل خضر محمد جميل خضر 6 يوليه 2024
أمكنة حي التّفاح: زِندُ مقاومةٍ فوّاح
رجل يجلس على أنقاض منزله بعد عدوان عام 2014
حقدُ الصهاينة قد لا يشبه حقدًا غيره؛ والدليل حيّ التّفاح في غزة الذي نبشوا مطالع هذا العام 2024، قبور أمواته انتقامًا ممّا أذاقه لهم من ويلٍ وموتٍ وجندلةِ جُنْدٍ وآلياتٍ قبل عشرة أعوام في تموز/ يوليو 2014.
لم يكتفِ الصهاينة بنبشِ قبور مقبرة الحي، بل سرقوا، بحسب بيانٍ لِحركة حماس وقت وقوع الجريمة في السابع من كانون الثاني/ يناير 2024، جثامين 150 من شهداء المقبرة!
اللقطات التي تم تصويرها في مقبرة حي التفاح تظهر جثامين منْبوشةً في أكْفانها وسطَ أكوامٍ من التراب، في حين تبدو جَثامين أخرى مدفونةً جزئيًا بين شواهد مقلوبةٍ في المقبرة الصغيرة المُحاطة بالمباني، أمّا على الأرض، فتبدو بوضوحٍ نُدوبُ جَنازير الدبّابات.
رجال غزّة الميامين... رجال الحيّ المشهود له ولزندِهِ شراسة المقاومة فيه، بدأوا من فورِهِم، من دون تضييعِ أيّ وقت، إعادة دفن جثامين شهدائِهم، بركةُ تطلّعاتهم لنصرٍ حين يأتي سوف يأتي عفيَّ المعاني عميمَ السطوع.
كتاب "العائلات الغزّية في سجلات النّفوس العثمانية"، الذي يوثّق جميع أسماء عائلات مدينة غزة في الفترة ما بين عامي 1903 و1915، المدوّنة في سجلّات النّفوس العثمانية، يفردُ لحيِّ التّفاح وحدَه مجلّدًا كاملًا من المجلدات التسعة التي تضمّنها الكتاب.
حيّ التّفاح، حيثُ الشجرُ شجن... والبيوتُ شهود... والزّهر ثلج... والدُّرُّ شجرة... والمسجدُ "علي بن مروان"... والضريح "سعد الدين بشير"... لا بل الشيخ المجاهد الحاج "عز الدين حسن بن عمر بن عيسى"، الذي ارتقى أثناء جهادهِ في عسقلان سنة 645 هجريًا... حيث الأماني مشوارٌ نحو البحر غربًا، أو جباليا شمالًا، أو الشجاعية شرقًا... وحيث الغُزاة صاروا جميعهم إلى مقبرة في حيٍّ يعرف جيدًا كيف يدفن ضحايا من تسوّل له نفسه التَّطاول على إِباء الحيّ وحُمْرةِ تفاحهِ العنيد.

مُوزاييك...

لا تراجع لا استسلام، يهتف الحيّ فيردّ صدى آل الشّقرة من عوائل الحيّ... يرشّ الشوارع بالصّلوات فيكبّر معه أبناء حمولة الحَسَنات... يُقبلُ الحيُّ نحو الشهادة أو النصر فيُقبل معه أبناء عشيرة مِقْبل... رشدُهُ بعضُ سجايا آلِ مُرشد... يشْوي الحيُّ العِدا شِواءً، وإنْ لم تصدّقوا فاسألوا آل الشوّا. فالويلُ الويلُ لكلِّ عاصٍ مستنكفٍ عن دربِ المقاومة الطويل، يهتفُ أبناء عائلة أبو عاصي. حرزُ الحي بعضٌ من أحراز آل حِرْز... زهرُ الحيّ يزرعه أبناء أسرة الزهارنة شهداء وأحياء... شهداءً أحياء... عوائلُ حيّ التّفاح جميعها تدعو بطولِ السلامة لِمختارِها الحاج أبو فؤاد ضبَان.

التفاح مثل كل المناطق: مقبرة للغزاة 

كِبارُ الحيِّ كُبّارُتُهُ... شبابُهُ توثّبُهُ... صِغارُهُ أَوَارُهُ... نساؤُهُ حِضْنُ مَراثيه... وَجْدُ الحكايةِ فيه... بوصلةُ الدّروب في الطريقِ إلى التّيه...
موزاييكُ غزّة وحيّ التّفاح يشمل عائلات وحمائلَ أخرى كثيرة: النخّالة، مكّي، آل رضوان، الحُسيني، الريّس، الغُصَيْن، العلمي، الطبّاع، دلّول، ملِك، مُرتجى، مُشتهى، الوحيدي، السقّا، برزُق، أبو خضرا، الصّوراني، فِلفل، خيّال، أبو رمضان، أبو شعبان، بسيسو، حسنين، السراج، عياد، شحيبر، فرح، الصايغ، سكيك، أبو شهلا، عاشور، السوسي، البلتاجي، الشرفا، ساق الله، حرزالله، أبو سمرة، حمادة، أبو العافية، الخازندار، اللولو، المزيِن، شعشاعة، أبو حصيرة، بكر، صوان، كحيل، الطرزي، سابا، القدوة، عبد الشافي، عكيلة، البربري، الديب، الدهشان، البورنو، غربية، علاييني، الّلوح، محيسن، الثلاثيني، عرفات، حَتحَت، مراد، الزعْنون، الورد، المخلّلاتي، المبيّض وخلف.

زِنْدُ مقاومة...

في 24 تموز/ يوليو 2014، تحرّك مقاتلو كتائب القسام؛ ردًا على المجازر التي ارتكبتْها (وما تزال) عصابات العدوّ الصهيونيّ، فتسلّلوا خلف القوات الصهيونية المتوغّلة شرق حي التفاح، وقتلوا ثمانية من أفراد تلك العصابات من مسافة الصّفر، ودمّروا ناقلة جُنْدٍ من نوع (شيزاريت) بقذيفةِ (آر بي جي ــ 29).
وفي 31 تموز/ يوليو 2014، كَمَنَت مجموعة من قوات النُّخبة القسّامية لقوّةٍ صهيونيةٍ خاصة قرب مسجد الفردوس شرق حي التفاح، وخاضت معها اشتباكًا عنيفًا، ثم هاجمت قوة خاصة كانت تتحصّن داخل أحد المنازل بِالمنطقة، وأجهَزَت على ثلاثةٍ من (مَقَاطيع) العصابات الغازِية المُعتدية على الحيّ وأهلِه.
في اليوم الأول من عام 2024، أعلنت "كتائب القسام"، الجناح العسكري لحركة حماس، عن "مقتل 15 جنديًا إسرائيليًا في تفجير حقل ألغام في قوة خاصة بِموقع الخليل العسكريّ شرق حيّ التفاح".
هذا ديدنُ الحيّ من أوّل الزّمان حتى آخر الزّمان... زِنْدُ مقاومتِهِ صلبٌ مَنيع... مقبرةُ غُزاتِهِ من أكبر مقابر الأعداء في غزّة البلد وباقي جِهات القِطاع. يزرعون التفاح ويقاومون... يحصدون التفاح ويقاومون... يجلبون من بيت لاهيا أنواع تفاح جديدة ويقاومون... لا ينامون حين ينام الناس؛ يقاومون... لا يتعبون حين يتعب الحديد؛ يقاومون.

قضيّة...

تكتب الباحثة ربى الحُصري عن سياساتِ سلطات الاحتلال بهدم منازل فلسطينيين، مستخدمة الصواريخ المضادة للدبابات، بناء على اشتباه في وجود شبّان مطلوبين فيها. استهدافٌ جبانٌ وصل، بحسب الحصري، إلى حد تدمير حيّ التفاح بأكملهِ في نيسان/ أبريل 1993 (ركّزوا على التاريخ، وتذكّروا أن المُرجفين نسبوا تدمير غزّة هذه الأيام إلى عملية طوفان الأقصى البطولية الفارقة). وثائق الحصري والرسالة التي بثّتها للعالم تقومُ على أقوال شهود عيان، وتقارير مركز غزّة للحقوق والقانون، وبعض المصادر الصهيونية.




وبحسب دراسة نشرتها الحُصري في مجلّة "مؤسسة الدراسات الفلسطينية" (المجلّد 4، العدد 14، (ربيع 1993)، صفحات تبدأ من صفحة 134)، تُعد السياسة الجديدة التي بدأت السلطات الإسرائيلية انْتهاجها، بهدم منازل فلسطينيين، مستخدمة الصواريخ المضادة للدبابات بناء على اشتباه في وجود شبان مطلوبين فيها، "آخر ابتكارات إسرائيل في سجلِ العقوبات الجماعية. وقد طُبّقت هذه السياسة أول مرّة في تموز/ يوليو 1992 في قطاع غزة، بدءًا بهدم منزل، ثم اتسع نطاقها إلى منازل عدة في آنٍ واحد، إلى أن دُمّر في نيسان/ أبريل الماضي 1993، ولأوّل مرّة، حيٌّ بأكملهِ هو حيّ التّفاح في مدينة غزة".
بحسب الدراسة، أحصى مركز غزّة للحقوق والقانون، وهو عضو في لجنة الحقوقيينَ الدولية (جنيف)، ست عشرة عملية من هذا النوع في الأشهر الستة الأخيرة من سنة 1992، وأربع عمليات في كانون الثاني/ يناير من سنة 1993، وعمليتين في شباط/ فبراير، وثماني عمليات في آذار/ مارس من العام نفسِه.
تقول الباحثة إن مدير المركز، المحامي راجي الصوراني، أكّد عدم العثور على مطلوبين في 70% من المنازل التي دُمّرت، "وفي الحالات التي وُجدوا فيها مقاومين، فإن الجنود قضوا عليهم قبل أن يمنحوهم الفرصة للاستسلام".
رائحة الجريمة انبعثت، أيّامها، من تحت الدمار، ومن الأثاث المحترق، بينما لفّ السواد واجهات المباني.
(أم فايز) كانت تجلس على عتبة المنزل، أو ما بقي منه، تُقطّع الخضروات وتهيّىء طعامًا في مطبخٍ بدائيٍّ أعدّه لها زوجُها محمد الشرفا (60 عامًا) من الصّفائح المتبقّية بعد انطفاء الحريق الذي شبَّ في المبنى الذي كانا يقيمان في طبقته الأولى، بينما كان يقيم ولداهما وعائلتاهما في الطبقتين الثانية والثالثة منه.
طرقٌ على الأبواب... حصارٌ مُدْلَهِم... اقتيادٌ جماعيٌّ للرّجال... بعضهم كان في ملابس النوم أو بالجلاّبية. مئات... آلاف الجنود... الوقوف ممنوع... أصوات إطلاق رصاص... ألغامٌ تنفجر... صواريخ... طائراتٌ مروحيّة تحلّق فوقهم. إخراج كلّ النسْوة من منازلهنّ وتجميعهنّ مع أولادهنّ في الشارع... مجرمات العصابات من النساء (المجنّدات) يفتشنَ النساء خوفًا من
أن يكون أحد المطلوبين متنكرًا بزيّ امرأة!
النيران تتصاعد من نوافذ المنازل... رائحة الدمار تملأ المكان، الجو عابق بالدخان. الشظايا اخترقت جدران السلالم... باب البيت متفحّمٌ وكذلك الأثاث. ثلاجة (أم فايز) اخترقتها قذيفة، فتركت فجوةً في أحد جوانبها. كل شيء أسود بلونِ الفحم، حتى أسلاك الكهرباء. نقود زواج ابنها احترقت مع الأثاث.
نظر محمد (أحد شهود الدراسة) من بعيد إلى داخل منزلهِ ومنازلِ أشقّائه من دون أن يستطيع الوصول إليها... جدران واقفة وما بينها مُنهار.... أجهزة تلفزةٍ متفحّمةٍ، أو اخترقها الرصاص... حتى "المَزهريّة" الزجاجية انصهرت وعادت إلى حالتها الأوليّة.... أنابيب المياه تنقّط... مصباح إحدى الغرف لا يزال مشتعلًا بمعجزة. ومن المعجزات أيضًا أن دالية العنب على السطح ما تزال ممتدةً وأوراقُها خُضر، وقفص الأرانب ما يزال في مكانهِ لكن من دون حياة فيه.

حال حي التفاح بعد العدوان الصهيوني 

على جدارٍ في حديقة محمد الشرفا، غطته بقعٌ قاتمة قال سكان الحي عنها إنها بقايا دماء، كُتب بالدهان الأحمر: "هنا مكان استشهاد أسد المقاومة أبو يحيى زكريا الشوربجي في اشتباك مسلح. دمك طاهر أيها الرقيب". ووُقّعت بتوقيع "كتائب عز الدين القسام"، الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية حماس.
لم يعلم أحد كيف قُتل زكريا الذي قال عنه أحد من عرفوه في سجون الاحتلال سنة 1988، عندما تحوّل من ناطق باسم الجهاد الإسلامي في المعتقل إلى ناطق باسم حماس، إنه كان مطلوبًا من سلطات الاحتلال منذ ستة أشهر، ومنذ ذلك الحين أصبح يتجول مسلحًا متنقلًا من مخبأ إلى آخر. هو أصلًا من مخيم جباليا للاجئين، وكان حين حدوث الجريمة يزور أقارب له في حيّ التفاح.
دُمّرِت منازل 44 أُسرة... قُتِلَ ستّينيٌّ كان يعاني الصَّمَم ولم يسمع صراخ الجنود. (يمكن مراجعة التقرير في مجلة "مؤسسة الدراسات الفلسطينية" التي أشرنا إليها أعلاه للراغبين بالاطلاع على تفاصيل ما جرى من تدمير للحيّ في 1993).

تفاصيل...

تبلغ مساحة حيّ التّفاح 2843 دونمًا، ويبلغ عدد سكانه (عام 2015) نحو 37 ألف نسمة.
سمّي حيّ التّفاح بهذا الاسم لِكثرة مزارع التّفاح التي كانت تسحر أعين زائِريها بزهرها الثلجيّ اللون، ورائحتها التي تزكم الأنوف، وقد أطلق عليه قديمًا "حِكْر التفاح"، وكان فيه خان يسمى "خان حِكْر التّفاح".
من أهم معالم الحي الأثرية مسجد "الأيْبكي"، وفيه قبر ينسب إلى الشيخ "عبد الله الأيْبكي" (من مماليك عزّ الدين أيْبك) وهو الأمير أيْبك التركماني زوج "شجرة الدر" (مؤسِّسة دولة المماليك البحرية)، وبالمسجد بلاطةٌ رُخامية تعود لِسنة 751 هجرية.
وَفيه مقبرةُ "الدّررية" أو "التمرْتاشي" (نسبة إلى الشيخ "محمد التمرْتاشي الغزّي)، والمتوفى سنة 1004 هجرية، ويقال إن "الدّررية" جماعةٌ نزلوا بالقربِ من الحيّ.
من المعالم التاريخية في حيّ التّفاح إلى ذلك، منطقة "المَشاهرة" التي تعود في تسميتها لقبيلةِ "المَشاهرة" من بطنٍ من "بني زُريق"، وهم بدورِهم فرعٌ من بني "ثعْلبة بن طي" القحْطانية.
ومثل الشجّاعية، وكثير من مناطق غزّة، في الحيِّ مقبرة للقتلى الأعداء في الحرب العالمية الأولى، على الطريق المؤدي إلى قرية جباليا؛ مدْفونٌ فيها حوالي خمسة آلاف جندي من قتلى جنود الحلفاء على أيدي العثمانيين والغزّيين.
في حيّ التّفاح مركزان للرعاية الأولية الحكومية هما: عيادة الصّوراني، وعيادة الحرية، ومركز صحي غزّة الذي يتْبع وكالة الغوث، ومركز حيفا التابع لجمعية الصلاح الإسلامية. كما توجد فيه مدارس ومساجد، منها: مسجد علي ابن مروان الأثري، القعْقاع الجُولاني، وفيه فرعٌ لِجامعة الإْسراء.

يا حيَّ التّفاح...

يا حيّ التّفاح يناجيك المعرّي:
"يا آكِلَ التُفّاحِ لا تَبْعِدَن... وَلا يُقِم يَومُ رَدىً ثاكِلَك... قَد كُنتَ في دَهرِكَ تُفّاحَةً... وَكانَ تُفّاحُكَ ذا آكِلَك".
يا مأوى الشهداء المجهولين... يا حيَّ الانتقال الضاحِك من خشبِ الأشجار إلى شجنِ الإباء.
وردةٌ أنتَ تحفظ أسماء من رحلوا يا حيّ التّفاح... نشيدُ الحياة... (تفينُ)* السّنين... طنبرٌ، أو طنبورٌ** يحمل الأحلام فوق كائنات الضحك المشروع في قلب حفلة القتل... إسراء قصي الهبّاش (13 عامًا) أنتَ يا حيّ التّفاح، وابنة عمّها شذى... تلعبان فوق سطح منزلهما... بعيدًا... ليس بعيدًا عن قصف طائرات العدوّ الجَبان... لِتصبحان شهيدتيْن جديدتيْن يوم الأحد الموافق 4 كانون الثاني/ يناير 2009.
"ستنجو بلادي بِأولادها
وتأخذ من يظلّ منهم إلى أيام بِلا قنابل
حيث الأطفال يذهبون بِفرحهم إلى "صف بستان"***"


(النص، وبعض المعلومات، لِراسم المدهون في مادته المنشورة في "ضفة ثالثة" تحت عنوان "الشعر في محرقة غزة: عن الأمكنة والذاكرة الشخصية"، 8 كانون الثاني/ يناير 2024).

هوامش:
(*) تفين: هو الاسم الشعبي المتداول لحيِّ التفاح.
(**) الطنبر أو الطنبور: عربة يجرها حمار، أو بغل.
(***) صف البستان: اسم روضة الأطفال في فلسطين.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.