}

الصحافة العربيّة والسُلطة: حرية التعبير شرط أساسي للديمقراطية (2-2)

أشرف الحساني 2 أبريل 2021
هنا/الآن الصحافة العربيّة والسُلطة: حرية التعبير شرط أساسي للديمقراطية (2-2)
مظاهرة ضد قمع الصحافة بمخيم خان يونس بغزة(9/5/2004/فرانس برس)
منذ اندلاع شرارة الموجة الأولى من الربيع العربي، في تونس ومصر وسورية، إلى حدود الموجة الثانية، في لبنان والعراق والسودان والجزائر، ظلّت تنانين السُلطة، وأجهزة مخابراتها، وأنظمتها السياسية القمعية، تُمارس تنكيلًا وتضييقًا على حرية الصحافي، بُغية تخويفه ومنعه من الجهر بالحقائق، وكشفه للذي تتستّر عليه الأنظمة السياسية، حتى وصفت سنة 2019 في عدد من الجرائد الدولية بكونها سنة الاعتقالات والخسائر بامتياز، بحكم العدد الهائل من الصحافيين، الذين اعتقلوا إبان الموجة الثانية من الربيع، والتي أكدت استمرار إرادة الشعوب في تحصيل حقوقها المشروعة في العيش والكرامة، والحق في التعبير عن رأيها تجاه أنظمة سياسية مستبدة. ولعبت وسائل التواصل الاجتماعي دورًا في الدفاع عن مهنة الصحافة، وحقها المشروع في نقل الحدث ومجرياته اليومية، على الساحة العربية والدولية.
في هذا التحقيق، نطرح إشكالية السُلطة الرابعة في مواجهة السلطة نفسها، على طول المسار التحديثي والديمقراطي، الذي قطعته الشعوب العربية منذ اندلاع الموجة الأولى من الربيع العربي، إلى موجته الثانية، وما ترتب عليهما من قهر وتأزيم لمهنة الصحافة، وتضييق الحدود على اشتغالها وممارساتها اليومية المشروعة في نقل وصناعة الحدث، وذلك مع مثقفين عرب لهم إسهامات في هذا الشأن، سواء داخل الجرائد، أو المجلات، أو المواقع الإلكترونية.
هنا الجزء الثاني، والأخير:



نصير فليح (العراق):
حرية التعبير شرط أساسي للديمقراطية والتحوّل الاجتماعي



لا يمكن القفز في هذا الموضوع فوق دور السعودية. فهي الجهة التي قادت الثورة المضادة لـ"الربيع العربي"، منذ بدايته عام 2011، ولا تزال، ساعدها في ذلك استخدام إمكانياتها المادية الكبيرة والسائرين في ركبها. وهي الجهة التي كرست قمع حرية التعبير والصحافة، هي وحلفاؤها، والأدلة على ذلك كثيرة، وصلت أفظع أشكالها في قضية جمال خاشقجي المعروفة جيدًا.

لكن المؤسف أنّ الصمت العالمي الكبير حول الموضوع خاضع لمنطق المصالح، أيضًا، سوى بعض الإشارات المتفرقة الخجولة التي تظهر هنا، أو هناك، وعلى استحياء، وبلغة لا تتناسب مع حجم هذه الانتهاكات.
إنّ الاحتجاجات التي عُرفت باسم "الربيع العربي"، التي انطلقت عام 2011، وضعت في أولوياتها حرية التعبير باعتبارها شرطًا أساسيًا قرينًا للديمقراطية والتحول الاجتماعي. فمن النافل تصور تحولاتٍ اجتماعية عميقة تفتح آفاقًا أمام الشعوب العربية، من دون رفد الممارسة الديمقراطية بنهر حرية التعبير والصحافة. كما إنّ لحرية الصحافة دورًا رئيسيًا آخر تلعبه في التغيير الاجتماعي المنشود، وهو محاربة الفساد وفضحه. فقد أصبحت آفة الفساد المتفشية لا تقل خطورة عن الاستبداد، بل إنها أكثر تواريًا وتسترًا ضمن بنى عميقة قد تتمظهر بواجهات ديمقراطية. وليس صدفة أنْ صارت شعارات الاحتجاج العربي، مع تقدم الحركة وتراكم تجاربها، تجمع بين مناهضة الاستبداد والفساد معًا، وأيُّ سلطة قادرة على لعب دور مركزي في هذا الكشف أكثر من سلطة الصحافة؟



عبداللطيف نجيب (المغرب):
الإعلام البديل المتمثل بمواقع التواصل الاجتماعي له تأثير كبير



مما لا شك فيه أن "الربيع العربي" شكل سياقًا موضوعيًا لطفرة نوعية في مجال الإعلام بكل أنواعه، المرئي منه والمسموع والمكتوب، ومواقع الشبكة العنكبوتية، والتواصل الاجتماعي. وإذا ما سلمنا بأن ما شهده العالم العربي هو مناخ ورياح ثورية في سبيل البناء الديمقراطي، فإن أهم انتصار حققته هذه الهبات الشعبية، وهو كسر حاجز الخوف لدى المواطن العربي، وانتزاعه لزمام المبادرة من يد سلطة ظلت إلى عهد قريب تحتكر المعلومة، وتنفرد ببسط النفوذ وتوجيه الإعلام الجماهيري.

صيرورة هذا المناخ الثوري، كانت محدودة في الزمان والمكان، وبمجرد ما انفضت الجموع، وعادت أصوات الاحتجاج إلى حناجرها، توارى المشروع الديمقراطي، وإقرار الحريات، أما الترسانات القانونية المقيدة للحريات، فإن واضعها هي حكومات جاءت بعد هذا الذي اصطلح عليه بالربيع العربي. من هنا، نطرح السؤال الذي يبدو لي ملحًا في معالجة قضية هذا التراجع، ألم تفرز هذه المرحلة تعقيدات أرخت بظلالها على واقع الصحافة وحرية التعبير والإعلام؟ ألم يكن المهنيون باصطفافهم في انتماءات متباينة، قد ساهموا في تعبيد الطريق لقوانين تكمم الأفواه وتقيد حرية الإعلام؟ هذه بعض أسئلة تدلنا على بعض مكامن الخلل، في هذه المرحلة الانتقالية، بالعودة إلى تاريخ الثورة الفرنسية، الثورة التي كان فيها الحق في الحرية عاملًا محركًا لكل أطوارها، لما أقدم شارل العاشر على المساس بحرية الصحافة، وفرض رقابته وتراخيصه على الصحافيين، كان مآله إسقاطه من عرش، أُعيد نظامه على أساس التوافق بين الثورة وحقوق العهد القديم. فالصحافة كما هو معلوم مبنية على صدقية الخبر وقدسيته، فيما التعليق، مظلته التي تغطيه هي الحرية. لكننا في الحالة العربية نكتشف عمق التعقيد الذي يحيط بممارسة الحرية، والحق في الإعلام الحر. المؤسسات الإعلامية المكتوبة منها بالأخص، هي على الدوام محكومة بالولاءات. شغلها الشاغل الانصياع لأوامر صاحب النعمة والحماية، تبرر مواقفه أحيانًا، وتطلق العنان للخبر المضلل أحيانًا أخرى. في هذه الحالة، استقلاليتها ودفاعها عن الحرية، يبقى مشروطًا بموقع ولي النعمة في السلطة، أو في معارضتها.
ومع ذلك، وهذا من حسنات الرجة التي مرت منها بعض الدول العربية، فإن الإعلام البديل المتمثل في مواقع التواصل الاجتماعي أصبح لها تأثير بليغ في منظومة الإعلام، بل أصبح مصدرًا للخبر ونقل الحقيقة، مما يضع الإعلام الرسمي والمتداول في حرج مكشوف. وبرغم ذلك فهو سيف ذو حدين، لا سيما أنه يحتاج إلى بوصلة وفهم لخط تحرير، حتى يستطيع التمييز بين النقد والتشهير، التغطية والدعاية المغرضة. خطورة هذا الإعلام البديل، وأحيانًا منزلقاته، غير محسوبة العواقب، لأن الإفراط في الحرية قد يتسبب في الضرر للغير.
أستطيع القول إن مسألة الحريات، وحرية الصحافة على الأخص، مطلب أبدي مستمر ودائم، وسيظل محركًا لكل التغييرات التي ستطرأ على واقعنا العربي، لا لشيء سوى أن واقعنا يحتاج إلى نفس عميق من الحريات.



هند الزيادي (تونس):
الصحافة كانت دومًا في واجهة أيّ تغيير



شكّل العقد الأخير بالنسبة للصحافة العربية عقد المفارقات المستحيلة بامتياز. ففيه اندلعت حراكات وانتفاضات تحرّر ضد معظم الأنظمة العربية التي حكمت المنطقة بالحديد والنار. وكان من المتوقع، ومن المنطقي، بعد تلك الأحداث، أن نطمح جميعًا لقيام صحافة شجاعة حرّة في هذا العهد الجديد، عهد الحريات والتحرّر، وعلا سقف تطلع المواطن العربي إلى قدرة مختلف الصحف على التعبير عنه، وعن شواغله أخيرًا. وهو ما حاولت بعض المؤسسات الصحافية القيام به في البداية. لكن ما حدث تدريجيًا جعلنا نستفيق على عمق الوهم الذي انسقنا إليه وانخرطنا فيه.

فالمنطقة العربية كمن يقف على صفيح ساخن لم يستقر فيها الوضع على نتاج إيجابي يُعتد به، بل أفرزت لنا تلك التحركات أنظمة أشد استبدادية، أو أنظمة سعت إلى إعادة استنساخ التجارب الديكتاتورية السابقة، وإن كان ذلك في ثوب ديمقراطي مموه. وبما أن الصحافة كانت دومًا في واجهة أي تغيير، فلم تسلم من نيران هذه الأنظمة الجديدة التي سعت إلى عرقلة عملها، وتكبيلها بقوانين، مرةً، وبالتضييق على نشاط الصحافيين مرات أخرى. وهكذا بقي الصحافيون عالقين بين يوتيوبيا الأحلام، ومرارة الواقع.
ومما زاد الوضع سوءًا أن تلك الأوضاع غير المستقرة التي صارت تعيشها الشعوب فرّخت ديكتاتوريات متنوعة (ديكتاتورية دينية، ديكتاتورية الكيانات الإقتصادية الكبرى التي تخاف على مصالحها، الديكتاتوريات الرياضية، الديكتاتوريات الفكرية والسياسية...) زادت في استهداف العمل الصحافي، وحالت بينه وبين تقديم دوره المنوط به كما تتطلب المرحلة. وتنوعت أساليبها بين الخطف والاعتقال والقتل والتهديد. فإذا بنا في وضع مربك ومخاتل جدًا يوحي ظاهريًا بالتحرّر والتطلع إلى بيئة صحية أكثر للعمل الصحافي، ولكنه في حقيقته وضع تتناسل فيه الموانع والعراقيل، وتصل إلى حدود تهديد حياة الصحافيين.
وهكذا، فلن نستطيع الإقرار بأن الصحافة، بما هي سلطة رابعة تقوم بدورها، وتدفع بعجلة التغيير الى أفقها المطلوب، إذ بالإضافة إلى كل ما قلناه سابقًا صارت تغييرات جذرية في الخارطة الجيوسياسية للعالم، ولمنطقتنا، جعلت من الصراع ضد الصحافة سافرًا جدًا، يعيش حالة استقطاب كبرى من القوى التي تملك المال، وتملك الأجندات المختلفة، مما يجعلها قادرة على شراء المؤسسات الصحافية، وتغيير سياساتها الإعلامية، وخطوطها التحريرية، وفق مصالحها.
ملخص الوضع أن الصحافة، مثلها مثل كل القطاعات الأخرى، بعد الانتفاضات التحررية، انتكست وتشتت جهدها، وقلّت فاعليتها، وهو أمر مفهوم ومتوقع، حتى نكون واقعيين من دون تشاؤم.



أسماء عزايزة (فلسطين):
ظهور سلطات استبداديّة إلى جانب المحتل الإسرائيلي



لا تضعنا أسبقيّة فلسطين في مواجهة الاحتلال الإسرائيليّ، كشكل متطرّف من أشكال الاستبداد، في عداد الضحايا الذين ضمنت مُسبقًا أماكنهم في مسالخ الحريّات السياسيّة. بل إنّ السنوات الأخيرة الماضية كشفت عن تطوير ملحوظ في أدوات الاستبداد، أوّلًا، وعن ظهور سلطات استبداديّة، إلى جانب المُحتل، في سلخ الفلسطينيّ عن فكرته ورأسه وآرائه ومبادئه، ثانيًا.
رغم الحاجة الدائمة لتذكير العارف، ولقطع شكوك المتردّد باليقين، إلا أنّ الكتابة عن ممارسات الاحتلال الإسرائيليّ في ما يتعلّق بحريّة التعبير تبدو هنا زائدة، سيّما حين يدور الحديث عن أشكال الاستبداد المتجليّة في الاعتقالات والنفي، وغيرها. فقبالة الحركة الصهيونيّة، من الأدقّ أن نتحدّث عن الاستبداد، الذي كما وصفه عبدالرحمن الكواكبي "يبلغ في الانحطاط بالأمّة إلى غاية أن تموت ويموت هو معها". فهو قائمٌ بقيام الحركة الصهيونيّة وزائلٌ بزوالها، وليس في الإمكان نزعه عن منظومته كنزع قانونٍ، أو بند في دستور.
ولتذكير العارف، وإعلام الجاهل، فإنّ إسرائيل تعتقل سنويًّا آلاف الفلسطينيين، من بينهم مئات المعتقلين الإداريين، ومدافعين عن حقوق الإنسان، باستخدام قوانين النظام العام في الداخل الفلسطينيّ، والأوامر العسكريّة في الضّفة، وتعذّب نسبة عالية منهم بالضّرب، والتقييد، والحرمان من النّوم، وأشكال مُبدعة أخرى لا يمكن تخيّلها. لكن كلّ ذلك لا يمكن أن يُدرج ضمن الاصطلاحات التي يتحدّث بها المجتمع الدوليّ حين يتحدّث عن قمع الحريّات. فإسرائيل لا تقمع. بل تقتل. وإن كانت حريّة الفلسطينيّ الأولى هي أن يكون على قيد الحياة، فالقتل الذي تتعمّده إسرائيل، سواءً بالإعدامات الميدانيّة، أو بإهمال الأسرى حتّى الموت، أو بالقتل العشوائيّ في غزّة، هو خارج معجم الاعتقالات والقمع، كشكل من أشكال استبداد المنظومات السياسيّة الحديثة.

لكنّ كارثة الفلسطينيين، التي يبدو أنّ الانتهاء منها أكثر تعقيدًا، هي أنّ الجسم بدأ بمهاجمة نفسه، وليس هناك أمل قريب في أن تستطيع المضادات المُعارضة لهذا الهجوم الذاتيّ إحداث التئام حقيقيّ لمرض الاستبداد الذي تعمل به السلطة الوطنيّة الفلسطينيّة. فبعد موت منظّمة التحرير الفلسطينيّة، وتحوّل السلطة إلى أردأ إدارة ممكن أن يحصل عليها الشعب الفلسطينيّ، اختفى العدوّ الإسرائيليّ، وخلقت السلطة أعداءً داخليين لها، هم المثقفون والمعارضون والصحافيون، وأصحاب الرأي الحرّ. فقبل ثلاثة أعوام، أقرت السلطة تشريعًا أخلاقيًا باسم "قانون الجرائم الإلكترونيّة"، لإحكام السيطرة على حرية وسائل الإعلام، ومنع التعبيروالرأي المعارض على شبكة الإنترنت، فتعتقل وتحجب مواقع إلكترونيّة، وتستجوب يمينةً ويسرةً. ولا تقل الحالة تردّيًا في قطاع غزّة الذي تحكمه "حماس"، فلا تتوقّف أجهزتها الأمنيّة عن اعتقال كلّ صاحب منشور لا يعجبها على فيسبوك.
إنّ آخر ما تمنّاه الفلسطينيّ، الذي يؤمن بعدالة قضيّته، ونقاء شعبه المُحتل، ومظلوميّته التاريخيّة التي تعلي من شأنها "قيادته الثوريّة" التاريخيّة، أن يجد في آخر نفق نضاله دولةً بوليسيّة تكتم فاه، وتحزّ عنق أفكاره الحرّة. ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ أسرى الحريّات عند إسرائيل، أو عند السلطة، أو عند "حماس"، أو عند أيّ قوّة مستبدّة، هم ليسوا أولئك الذين يجلسون في زنزانة، أو أمام مُحقّق، أو تحت زناد، وحسب، إنّما هم جميعنا، نحن الذين نجلس في مكاتبنا المكيّفة، ونهاب أن نكتب منشورًا على فيسبوك. هم كلّنا، الذين بدأنا نصير شيئًا فشيئًا كائنات مدجّنة في أقفاص ذات أكثر من قفل، وأكثر من بوّاب. يقول الكواكبي: "حياة الأسير تشبه حياة النائم المزعوج بالأحلام، فهي حياة لا روح فيها، حياة وظيفتها تمثيل مندرسات الجسم فقط، ولا علاقة لها بحفظ المزايا البشريّة، وبناءً على هذا، كان فاقد الحريّة لا أنانيّة له، لأنّه ميت بالنسبة لنفسه، حي بالنسبة لغيره. كأنه لا شيء في ذاته، إنما هو شيء بالإضافة".



صالح لبريني (المغرب):
السلطة ترى أن الصحافة ينبغي لها أن تكون في خدمتها



ثمة علاقة ملتبسة بين الصحافة العربية والسلطة، إذ من الصعب الفصل بينهما، ذلك أن الصحافة في بعض مراحلها كانت في خدمة السلطة، من خلال السعي دومًا إلى الاحتماء الأولى بالثانية، واستغلال السلطة وسائل الإعلام بشتى تمظهراتها للعمل على تكريس سياساتها المتبعة، وهذا لا يعني أنها خاضعة للسلطة كليّة، بل نجد الكثير من المنابر الصحافية تحاول أن تقف في صف الكشف عن الوجه القبيح لممارسة السلطة، الأمر الذي نتج عنه خصومة شديدة أسهمت في تأجيج الصراع بين إرادة سلطة تروم ترسيخ الواقع وتجميله بكل الوسائل.

في المقابل، نجد إرادة إعلامية الغاية من فعلها الصحافي العمل على الوقوف عند الاختلالات التي تعتور الواقع وسياسة الدولة، وهذا التجاذب بينهما راجع بالأساس إلى اختلاف المنطلقات وزوايا النظر لما يريده المجتمع. هذه الخصومة ستشهد أوجها، خصوصًا إبّان "الربيع العربي"، حيث دخلت الصحافة العربية في حرب سرية وعلنية مع السلطة، هذه الأخيرة التي اجتهدت في وضع كافة العراقيل التي في إمكانها الحدّ من طوفان إعلام مناهض لها ومؤيّد للاحتجاجات التي شهدتها بعض الدول العربية، فبدأ شد الحبل بينهما، ولعل الاعتقالات التي تعرض لها العديد من الصحافيين العرب في هاته البلدان تبرز مما لا يدع مجالًا للشك، الشراسة التي تم التعامل مع الصحافيين المعتقلين من خلال ممارسات أعادت الأذهان إلى السنوات المظلمة التي رزحت تحت نيرها الصحافة العربية، بل إن الأمر بلغ قمّته عن طريق التصفية الجسدية، والسبب يعود إلى هذه الخصومة المفتعلة بين الصحافة والسلطة، والاختلاف الحاصل في الفهم الدقيق لوظيفة الصحافة من لدن السلطة. فالسلطة ترى أن الصحافة ينبغي لها أن تكون في خدمتها، وأن تعمل على تلميع صورتها، وفي هذا ضرب حقيقي لأخلاقيات الصحافة ومبادئها التي تحث على ضرورة استقلالية الممارسة الصحافية عن أي سلطة، كيفما كانت، فالصحافي، في جوهره، يجب ألا يبقى تحت رحمة السلطة وإملاءاتها، وإنما الابتعاد عنها وأخذ المسافة منها حتى تكون ممارستها ذات فعالية في التأثير على الرأي العام وتشكيله. ولعل وسائط التواصل الاجتماعي، من الفيسبوك وتويتر، والمواقع الإلكترونية التي تندرج ضمن الصحافة، كان لها الفضل الكبير في إحداث وعي لدى الفئات الاجتماعية في العالم العربي، وتحفيزهم على الجهر برغبتهم في التغيير، مما أدى بالسلطة إلى العمل على تحجيم دورها، إما عبْر التضييق الممنهج، أو شراء ذمم بعض الصحافيين، واستغلال المنابر الرسمية لتشويه الصحافة المضادة، من خلال الحملات التشهيرية، وفبركة قضايا مفتعلة ضد الصحافيين، والزج بهم في السجون بواسطة تلفيق التهم ومتابعتهم قضائيًا. وما وقع في المغرب، مثلًا، من اعتقال صحافيين ينتمون إلى ما يسمى بـ"الصحافة المستقلة"، والحكم على بعضهم بأحكام ثقيلة توضح بالملموس أن السلطة الرابعة في العالم العربي تتعرّض لأكبر حملة لم تعهدها الصحافة العربية من قبل. ذلك أن السلطة غدت محرَجة أمام الملفات الضخمة المرتبطة بالفساد بشتى تلاوينه وتجلياته وتسمياته، التي تقوم الصحافة بفضحها وتناولها بالتحليل والمناقشة، تثير حفيظتها، وفي كثير من الأحيان دفعها إلى القيام بعمليات تشهيرية (نسبة إلى التشهير) ضد كل صوت صحافي حرّ، من أجل النّيْل من مصداقيته، والعمل على جعله كومبارس لخدمة أجنداتها التي ترسمها على مقاس مصالحها السياسية.
إن الخصومة بين الصحافة العربية والسلطة ستظل قائمة ما دامت السلطة تنظر إلى الصحافي بعين الريبة، وتعتبره نقيضًا لها، وما دامت الصحافة العربية لها الرغبة القوية في تحقيق الاستقلالية، بما تحمله الكلمة من معنى، ومن ثمّ العمل على أن تكون صوت المجتمع.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.