}

وداعًا بهاء طاهر.. كاتب "السردية المتأملة"

أحمد عبد اللطيف أحمد عبد اللطيف 29 أكتوبر 2022

مساء الخميس الماضي (27 تشرين الأول/ أكتوبر)، تلقى الوسط الثقافي المصري بكثير من الحزن خبر رحيل الروائي بهاء طاهر، أحد أعمدة جيل الستينيات الأهم في تاريخ الرواية المصرية، بعد أن عانى من الزهايمر لسنوات، سبقها انعزال تام عن الحياة وتوقف عن الكتابة.
ولِد طاهر في محافظة الجيزة لعائلة جنوبية عام 1935، ليعيش طفولته ومراهقته في ظل الحكم الملكي، ويشهد تحولات مصر من مملكة إلى جمهورية مع ثورة يوليو، وهي المرحلة التي تركت أثرًا على كل أبناء جيله. تخرج بهاء طاهر في قسم التاريخ بكلية آداب جامعة القاهرة، وحصل على دبلوم في الإعلام، ليعمل بعد ذلك مترجمًا في هيئة الاستعلامات، ثم مذيعًا ومخرجًا في الإذاعة المصرية. وفي منتصف السبعينيات، قرر الروائي المصري المنفى الاختياري، واستقر به الحال في النهاية في جنيف، حيث عمل مترجمًا في الأمم المتحدة لأكثر من 15 عامًا، وهي مرحلة هامة في مسيرته الحياتية والكتابية، استطاع من خلالها طرح أسئلة عن الهجرة تضمنت سؤال الشرق والغرب، ومعنى الاغتراب عن الوطن.


من الخطوبة إلى الطواويس



بدأ بهاء طاهر مسيرته الأدبية بمجموعة "الخطوبة"، التي نشرت عام 1972، ليتوقف بعدها عن الكتابة مدة 12 عامًا، ففي عام 84 صدرت مجموعته الثانية "بالأمس حلمت بك"، تلتها مجموعة "أنا الملك جئت"، ثم رواية "شرق النخيل"، و"قالت ضحى"، ومجموعة "ذهبت إلى الشلال"، ثم رواية "خالتي صفية والدير"، و"الحب في المنفى"، و"نقطة النور"، وأخيرًا "واحة الغروب"، التي فاز بالجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) عام 2008 في دورتها الأولى، ليختم مسيرته الأدبية بمجموعة "لم أكن أعرف أن الطواويس تطير" عام 2010، ليتوقف مرة أخرى عن الكتابة حتى رحيله.




حظى الكاتب المصري بالاعتراف والتقدير منذ مجموعته الأولى، ورغم توقفه لسنوات عن الكتابة، ثم غيابه عن المشهد الأدبي بسبب الهجرة، إلا إنه ظل حاضرًا بمجموعة قصصية قال الكاتب الكلاسيكي يوسف إدريس عن كاتبها: "إن بهاء لا يستعير أصابع غيره"، في إشارة واضحة لأصالته، وهي السمة التي ستبقى ملازمة لصاحب "واحة الغروب" في كل أعماله التالية.



ورغم قلة إنتاجه، إلا أن بهاء طاهر استطاع بجودة هذه الأعمال أن يشغل مكانًا بارزًا بين جيل الستينيات، الذي تكوّن من "أسطوات" الرواية والقصة المصرية، مثل جمال الغيطاني، وإبراهيم أصلان، وخيري شلبي، وصنع الله إبراهيم، ويحيى الطاهر عبد الله، وحافظ رجب، ومحمد البساطي، وهي أسماء صنعت مجد الرواية والقصة المصرية، لتنوع مشاربهم الأدبية، وإضافاتهم الكبيرة للبانوراما التي رسمها نجيب محفوظ، وطه حسين، وجيل الرواد.
داخل هذه االبانوراما، تميز صوت طاهر بما يمكن أن نسميه بـ"السردية المتأملة"، التي لا تسعى إلى طرح تصور عن العالم بقدر تأمل التصورات المطروحة بالفعل. من هذا المنطلق، طرح تحولات المجتمع عقب ثورة يوليو في "قالت ضحى"، بنبرة لم تخل من الألم وضياع الأحلام، ليرصد في هذه الرواية البديعة فساد الواقع الجديد، وتكرار المشاهد التي قامت ضدها الثورة، ليقول عبر سردية ناعمة إن التغيير الذي حدث لم يطُل المجتمع، وإنما كان تغييرًا سياسيًا فحسب. وعبر هذا العالم، رسم طاهر شخصيات لا تُنسى، مثل ضحى، وسيد القناوي، الأولى كنموذج للغرام، والثاني للنضال من الهامش لمجرد الحصول على الحقوق البديهية.




ورغم تعمُّق طاهر في الواقع المصري، سواء المعاصر، أو التاريخي، كما في "واحة الغروب" التي تناولت حقبة الاحتلال البريطاني، إلا أن حضوره الأبرز كان في "الحب في المنفى"، وهي رواية الهجرة إلى جنيف وعمله في الأمم المتحدة. استطاع الكاتب المصري أن يطرح بفرادة سؤال الشرق والغرب، ككاتب بقدم في الغرب وأخرى في الشرق، فلا ينسحق أمام الحضارة الأوروبية، ولا يتخلى عن أبناء لغته الأم. لكن هذا الموقف المبدئي الذي التزم به طاهر ككاتب تجاه القضية الفلسطينية، ورصده لمذبحة صبرا وشاتيلا، ونقده للتواطؤ الغربي مع إسرائيل، كان ركنًا من ضمن أركان أخرى هي انشغالاته بالهم السياسي وحقوق الإنسان، والتزامه الإنساني الواسع بقضية الشعوب المجهضة. كانت الرواية فارقة في تجربة طاهر، لكن أيضًا في الرواية العربية التي تتناول الغرب، والصراع بين حضارتين. وكانت تجربة الكاتب المصري حية ومؤثرة، اعتمدت على إيمانه الشخصي بالقضية، بالإضافة للحياة في هذا الغرب، والعمل في الأمم المتحدة نفسها.
من ناحية، يمكن اعتبار بهاء طاهر كاتبًا ملتزمًا، إذ لا يخلو عمل من أعماله من سؤال السياسة الصريح، أو الضمني، والنقد للسلطة، أيًا كانت، سواء عسكرية، أو ملكية، أو غربية، وانتصاره الدائم لأصوات مهمشة ومحجوبة، ليس بمنطق أدب المهمشين، ولكن بمنطق الذين كُممت أفواههم قهرًا. لكن ميزة طاهر أنه لم يحصر نفسه في السؤال السياسي، فلم تتحول رواياته إلى منشورات، أو مطالب بالاستقلال، وإنما راح لما هو أساسي وجوهري: الإنسان/ الفرد. في هذا الانحياز، رسم طاهر شخصيات يصعب نسيانها، وبيئات ثقافية متعددة. ومن ناحية أخرى، كان السؤال الجمالي شاغلًا أكبر، فكانت لغة طاهر فريدة في بساطتها وعمقها وبلاغتها، تشبه الطلقة، كما تمتعت ببعدها الفلسفي الحكيم، فلم تركن للغضب ولا للصوت العالي، وإنما للفهم وتشريح الحالة، حتى مع النقد المتكرر لأنظمة الفساد.
ولعل أهم ما ميز طاهر تنوع موضوعاته وعوالمه السردية، وانتقاله من الراهن للتاريخي، من مصر إلى أوروبا، من التعمق في شخصية البطل الرجل للبطلة المرأة، ومن الشاب للعجوز. كل ذلك في عدد محدود من الإنتاج الأدبي تنوع بين القصة والرواية، فضلًا عن ترجمة وحيدة لـ"ساحر الصحراء" لباولو كويليو، التي ترجمت في ما بعد بعنوان "الخيميائي".
برحيل بهاء طاهر، يفقد العالم العربي كاتبًا نبيلًا لم يتاجر بقضايا الوطن العربي، ولم يسع إلى منصب سياسي، ولم يهادن سلطة من أجل مصلحة، ولا مدح عالمًا غربيًا كان يعيش بين مواطنيه. برحيل بهاء طاهر نفقد نافذة نطل بها على أنفسنا.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.