}

إسرائيل 2022.. مظاهر إذكاء التمسّك بـ "سياسة النكبة"

أنطوان شلحت أنطوان شلحت 25 نوفمبر 2022
عادت النكبة الفلسطينية، في الفترة القليلة الماضية، إلى جدول الأعمال في إسرائيل على خلفية عدة أحداث مرتبطة بها، بكيفيةٍ ما، لعلّ أبرزها إنتاج فيلم إسرائيلي بعنوان "طنطورة" حول المذبحة التي ارتكبها لواء عسكري إسرائيلي ("لواء إسكندروني") في قرية الطنطورة الفلسطينية (قضاء حيفا) إبان ارتكاب مجازر النكبة في عام 1948، وتمّ إنكارها في الماضي؛ فضلًا عن إحياء ذكرى النكبة في بعض الجامعات الإسرائيلية (جامعة تل أبيب وجامعة "بن غوريون" في بئر السبع) بالرغم من وجود قانون إسرائيلي يمنع إحياءها. وبموازاة هذا استمرت أيضًا عمليات الكشف عن وثائق من الأرشيفات الإسرائيلية تتطرق إلى ما ارتكب من مجازر وآثام خلال النكبة، بما جعل هذا الماضي الإسرائيلي المظلم يلقي بظلاله على الحاضر. كما أن هذا الماضي الظلاميّ ألقى بظلاله قبل ذلك على الهبّة الفلسطينية التي اندلعت في أيار/ مايو 2021 وشملت على نحو رئيسي ما يعرف باسم "المدن المختلطة" داخل أراضي 1948، وهي بالأساس مدن اللد والرملة ويافا وعكا وحيفا. وكشفت هذه الهبّة عن بنية عنصرية لدى قطاعات كبيرة في المجتمع اليهودي لم تسلّم، ويبدو أنها لن تسلّم، بفكرة أن العرب الفلسطينيين في اسرائيل لهم انتماء وطني، وهم جزء من الشعب الفلسطيني ومن قضيته التي بلغت الذروة في أحداث النكبة.

وسعت كراسة جديدة صادرة حديثًا عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية- مدار (رام الله) بعنوان "من الإنكار إلى التهديد بنكبة جديدة! (عن مستجدات مقاربة النكبة في الحيز العام الإسرائيلي)"، لتقديم نماذج مختارة من الكتابات الإسرائيلية الجديدة حول النكبة، والتي ظهرت على وجه التحديد بعد هبة 2021 وصولًا إلى مناسبة ذكراها الأخيرة- الـ74- في عام 2022، وهي تتوخى أن تُطلع من خلالها جمهور القراء على ما تحيل إليه هذه الكتابات من مستجدات الموقف الإسرائيلي حيال النكبة، وكيفية تأثير هذه المستجدات على المواقف السياسية الإسرائيلية إزاء القضية الفلسطينية بشكل عام، وفيما يتعلق بالجدل الداخلي القائم في هذا الشأن.




وإذا ما توقفنا عند مناسبة إحياء الذكرى الـ74 للنكبة، يمكن القول إن الأصوات الإسرائيلية التي اعترفت بأن نكبة 1948 كانت السبب الوحيد لما يُعرف بـ "قضية الأقلية العربية في إسرائيل" كانت قليلة، وظلّت الغلبة من نصيب أصوات خلُصت إلى نتيجة مسبقة الأدلجة، فحواها أن إحياء النكبة يشكل أبلغ تعبير عن التمسك بالماضي وعدم الاستعداد لمماشاة الحاضر من خلال نسيان ما كان والتطلع من ثمّ إلى ما سوف يكون. وكان من الملفت على نحوٍ خاصٍ أن بعض هذه الأصوات، بمن في ذلك تلك المحسوبة على اليمين الإسرائيلي الجديد، ذهبت إلى الاستنتاج بأن مشاركة حزب عربي (إسلامي) في الائتلاف الحكومي الإسرائيلي (الذي وقف وراء حكومة نفتالي بينت- يائير لبيد المنتهية ولايتها)، لأول مرة في تاريخ الأحزاب العربية التي لا تدور في فلك الأحزاب الصهيونية، يعتبر دليلًا واعدًا على اصطفاف مأمول بين صفوف الفلسطينيين في إسرائيل، بين فريق يؤثر التمسك بالماضي انطلاقًا مما حدث في إبان النكبة على الأقل، وبين فريق آخر حسم أمره بأن يتعامل مع الحاضر، وبأن يدير ظهره إلى الماضي المرتسم تحت وطأة النكبة. وبرز بين هذه الأصوات المحلل السياسي لقناة التلفزة الإسرائيلية 12، عميت سيغل، وهو أحد الضاربين بسيف زعيم الليكود ورئيس الحكومة السابق والمكلّف بنيامين نتنياهو وتيار اليمين الجديد. وإذ نشير إلى هذا الجدال الدائر بين الإسرائيليين، فليس لكي نحكم على صوابه أو على عدم دقته، إنما لتوضيح جانب من جوانب التفكير الإسرائيلي فيما يتعلق بالنكبة، وهو الجانب الذي يشي بهروب أصحابه إلى الأمام من مستحقاتها عمومًا، وخصوصًا فيما يرتبط بما يعرف بعلاقات الأكثرية اليهودية والأقلية الفلسطينية داخل أراضي 1948.

يتجاهل أصحاب هذا التفكير أن الفلسطينيين أينما كانوا ليسوا في حاجة إلى أي مُسبّب في الظاهر كي يسترجعوا نكبتهم، فهي كما قيل ويُقال مرارًا وتكرارًا مستمرة في الحاضر، سواء من خلال المواجهة التي يخوضونها مع إسرائيل، أو من خلال المواقف التي تستجد بين الفينة والأخرى، إن كان من طرف جهات عربية أو دولية. وجولة الكفاح التي يخوضها الفلسطينيون في عام 2022، وكذلك الجولة السابقة في عام 2021 والتي بدأت من القدس (حي الشيخ جرّاح) وسرعان ما شملت سائر مناطق فلسطين ولا سيما أراضي 1948، قد تكونان جاءتا بالصدفة متزامنتين مع ذكرى النكبة الفلسطينية، ولكن لا يمكن بحال من الأحوال عدم رؤية أن السبب الواقف وراءهما يعود إلى تلك النكبة وتداعياتها المستمرة، التي ليس من المبالغة القول إنها بمنزلة الشرارة المتوهجة التي لا تخبو لأي جولة كفاح فلسطينية، بما في ذلك الراهنة والسابقة، وكذلك المقبلة، كما كانت الحال حتى الآن.

ملصق الفيلم الإسرائيلي "طنطورة" حول المذبحة التي ارتكبها لواء عسكري إسرائيلي في قرية الطنطورة الفلسطينية (قضاء حيفا) إبان النكبة 


عند هذا الحدّ، ربما ينبغي أن ننوه بأن الناطقين بلسان اليمين الإسرائيلي الجديد يحاولون أن يدمغوا معارضيهم، من أوساط الإسرائيليين، ولا سيما فيما يخص قضية النكبة، بشبهتين: الأولى، أنهم "يساريون"؛ الثانية، أنهم مصابون بقدر كبير من "كراهية الذات"، يصل إلى درجة عقدة نفسيّة يوصم بها كل المُعادين للسامية في أنحاء العالم. ويمكن الاستدلال على ذلك من قراءة سيل المقالات التي يكتبها صحافيو البلاط اليمينيون أو الناطقون باسم اليمين في شتى وسائل الإعلام في دولة الاحتلال، والتي تنشدُ غاية واحدة وحيدة: تحويل هؤلاء المناهضين إلى زمرة من اليساريين الكارهين لإسرائيل، الخونة، المندسين، غير الجديرين بأي شرعية في أوساط الرأي العام. وسبق لأحد هؤلاء أن كتب: إن ظاهرة كراهية الذات قائمة في إسرائيل، وتضم مجموعة محدّدة من الأكاديميين والإعلاميين والأدباء المعدودين على اليسار المتطرف والدوغمائي، وهي تشنّ حملة كراهية وتحريض منفلتة العقال ضد الدولة وحكومتها. وهي تسعى وتحلم بإحداث انقلاب لـ "تغيير الحُكم" على نمط طريقة تحرير شعبية إسرائيلية، وفرض سلطة اليسار المتطرف على الدولة. هذه المجموعة، التي ترى نفسها نخبة أرستقراطية، تحظى بغلاف داعم في وسائل الإعلام التي تمنحها منصة لإسماع انتقادات لا حصر لها حيال الناطقين والمنتخبين في المؤسسات الحكومية والأمنية الذين يشكلون موضع كراهيتهم. ويستحوذ على هذه المجموعة بشكل مَرَضيّ شامل هدف "أيديولوجيّ" واحد ووحيد هو إسقاط حكم اليمين بحجة الدفاع عن قيم سامية مثل السلام والديمقراطية. وبغية تحقيق هذا الهدف فهي مستعدة للتضحية بأي مصلحة قومية وأسرار أمنيّة، وأغلب أفرادها ينتمون إلى ما يسمى "معسكر السلام".

وفي مقالات أخرى نقرأ أيضًا أن هذه المجموعة موبوءة بكراهية الذات، وهي ظاهرة معروفة في التاريخ اليهودي منذ أجيال عديدة، وحوّلت الكثيرين من اليهود إلى معادين للسامية. ويشير البعض إلى ثلاثة مراجع يهودية أرست "مؤشرات" تلك الظاهرة: الأول، كتاب "كراهية الذات اليهودية" لثيودور ليسينغ؛ الثاني، كتاب "التحرّر التلقائي" ليهودا ليف بينسكر؛ الثالث، الزعيم الصهيوني "اليساري" بيرل كتسنلسون الذي اعتبرها بمثابة تشويه عقلي ونفسيّ. وتفاقم التلويح بهذه الشبهة في إثر ظهور بوادر ما يُعرف بـ "خطاب السلام الإسرائيلي" وتحديدًا لدى ارتباطه بتنفيذ انسحاب من أراضٍ فلسطينية وعربية محتلة. فمثلًا، في آخر انسحاب كهذا، خلال تنفيذ ما عُرف بـ "خطة الانفصال" ("خطة فك الارتباط") عن قطاع غزة (2005)، وصف عضو الكنيست السابق آرييه إلداد، وهو طبيب جرّاح تجميليّ، معارضي منح عفو عام للمحتجين على الخطة المذكورة بأنهم يعانون من كراهية للذات تصل إلى حدّ المرض النفسيّ القاسي الذي لا شفاء منه بتاتًا قبل الذهاب إلى اللحد. كذلك يجب أن نشير إلى أن إحدى أبرز المنصّات السابقة لليمين الإسرائيلي، وهي مجلة "ناتيف" ("مسار")، التي كانت تصدر عن "مركز أريئيل لدراسة السياسات" في مستوطنة "أريئيل" بالقرب من نابلس، قبل أن يتحوّل هذا المركز إلى أول جامعة إسرائيلية في الأراضي المحتلة منذ 1967، حرصت خلال أعوام صدور المجلة العشرين (1988-2008) على تخصيص زاوية في كثير من الأعداد عنوانها "كراهية الذات"، نُشرت فيها مقالات تؤطر اليهود الذين يمكن أن تنطبق عليهم هذه الشبهة.

إحياء ذكرى النكبة في جامعة تل أبيب هذا العام


بالرغم مما تقدّم، ينبغي أن ننوّه بأن هناك مزيدًا من الأصوات في إسرائيل التي تدعو إلى العودة إلى النكبة والاعتراف بها بوصف ذلك خطوة لا بُدّ منها للسير في طريق المصالحة بين الإسرائيليين والفلسطينيين، كما يمكن أن نقرأ في بعض مواد الكراسة المذكورة أعلاه. وداخل هذه الأصوات بالإمكان ملاحظة أن ثمة أصواتًا، ما زالت قليلة جدًا ولكن شديدة الصفاء وبالغة الدلالة، تذهب أبعد من ذلك وتدعو إلى التحرّر من العقيدة الصهيونية، بوصف ذلك الطريق الأنسب لمعالجة أهم أسباب استمرار الصراع مع الفلسطينيين. وهي دعوة أتت، بادئ ذي بدء، في الأعوام القليلة الفائتة، على خلفية سنّ "قانون القومية" الإسرائيلي في عام 2018، وتنامت أكثر فأكثر في ظل الأزمة الحكومية التي شهدتها إسرائيل تحت تأثير محاولات وضع حدّ لعهد حُكم بنيامين نتنياهو، وأسفرت- في ما أسفرت عنه- عن تأليف حكومة جديدة ضم ائتلافها لأول مرة حزبًا عربيا- إسلاميًا، ما أجّج سيلًا لا ينقطع من المواقف العنصرية.

وما ينبغي قوله أيضًا في هذا السياق، أن هذه الدعوة موجهة في الوقت عينه إلى جهات تحاول إعادة إنتاج العقيدة الصهيونية عبر تجميل صورتها، في مواجهة آخر مظاهر التطرّف والتوحش، كما تنعكس في الوقت الراهن على سبيل المثال في الأراضي المحتلة منذ 1967 وفي القدس، وذلك على أساس الادعاء أن ما وقف وراءها هو حركة قومية علمانية سعت لتحرير اليهود من ظلم الشتات، منطلقة من علمنة الديانة اليهودية، ضمن أمور أخرى.

في الأحوال جميعًا فإن أهمية هذه الأصوات تكمن في أنها تقرأ على نحوٍ صائبٍ جوهر العقيدة الصهيونية. وفي واقع الأمر فهي تعيد إلى الأذهان ماهية قراءات سابقة لها، ولا سيما تلك القراءات التي تزامنت مع انطلاقها، وبالأساس من طرف حركة "البوند".

هناك الكثير من الشواهد على ما ذكرت، ولا يسمح المجال للتوقف عند جميعها. بيد أن أكثر ما يهمنا هو ما تخلص إليه من تبصرات أو استنتاجات فكرية.

وسأكتفي بالإشارة إلى اثنين من هذه الاستنتاجات، وهما استنتاجان متصلان:

الأول، أن العقيدة الصهيونية لم تُلطّخ تحت وطأة الاحتلال في عام 1967 فقط بل ولدت ملطخة في الأصل، وأن احتلال ذلك العام هو استمرار مباشر للنكبة الفلسطينية في عام 1948؛

الثاني، أن الطريقة الوحيدة لإنهاء الكولونيالية والأبارتهايد هي النضال ضد إسرائيل وضد الصهيونية، وليس التحالف معهما من أجل "تخفيف حدّة" تطرفهما أو "صوغ" طابعهما. وينطوي هذا الاستنتاج على رسالة موجهة بالأساس إلى من يصفون أنفسهم بأنهم "يسار صهيوني" فحواها أن لفظتي اليسار والصهيونية أوكسيمورون فاقع!

وصف عضو الكنيست السابق آرييه إلداد معارضي منح عفو عام للمحتجين على "خطة الانفصال عن قطاع غزة" (2005) بأنهم يعانون من كراهية للذات تصل إلى حدّ المرض النفسيّ !


عند هذا الحدّ يجدر أن نستعيد أن من بين ما ترتب على الجدل بشأن "قانون القومية" الإسرائيلي، الذي تم تشريعه عام 2018 كما ذكرنا أعلاه، عدة محاولات تمحورت بشكل عامد حول تأطير الحركة الصهيونية، انطلاقًا من قاعدة التأصيل والمآل. ومع أن النتائج الناجزة لأغلب تلك المحاولات لم تُصب الهدف المطلوب وانهمكت بقدر متفاوت من التطييف، فإن بعضها تميّز بأنه وضع الأمور في نصابها، على غرار ما فعل كثيرون ممن سبقوه، منذ تأسيس هذه الحركة في أواخر القرن التاسع عشر. وداخل هذا البعض يمكن العثور على عدد من الأصوات الأكثر صفاء، مثل صوتي الأكاديميين نيف غوردون وعيدان لنداو، وكلاهما من جامعة بئر السبع. فالأول كتب بصريح العبارة أن الفكرة الصهيونية هي رديف التهويد، ونقيض الحرية والمواطنة المتساوية. وجزم بأنه حان الوقت للانفصال عن الصهيونية والتمسك بكل قوة بالأيديولوجيا التي تدفع بالمساواة قدمًا، وشدّد على أنه لا ينبغي بالمرء أن يكون راديكاليًا حتى يصل إلى مثل هذه الخلاصة، بل يكفي أن يكون ليبراليًا مستقيمًا وعادلًا.

وقد أوضح غوردون، في سياق جدل خاضه مع إحدى طالباته على صفحات جريدة "هآرتس"، أن الأيديولوجيا الصهيونية، في جوهرها الحقيقيّ، تنصّ على أن الجماعة الإثنية اليهودية تمتلك حقوقًا زائدة في البلد (فلسطين)، بما في ذلك الحق في السيطرة على منظومات القوة السياساتية. ومن أجل ضمان مثل هذا الأمر وعلى مدار كل الأعوام المنصرمة منذ النكبة الفلسطينية في عام 1948، كان الصهاينة بحاجة إلى أن يقوموا بممارسات آثمة كثيرة، تشمل من بين ما تشمل تهويد الحيّز بواسطة اقتلاع وتركيز سكان المكان الأصلانيين في مناطق صغيرة وذات كميات أرض محدودة، وترتيب منظومة العلاقات بين الجماعات المتعددة في المجتمع الإسرائيلي بشكل يكون فيه المواطنون اليهود هم المسيطرون بالمطلق، والمواطنون الفلسطينيون هم الخاضعون إلى السيطرة. ويشير غوردون إلى أن كتاب "العقد الاجتماعي" لجان جاك روسو هو أحد أهم الأسفار الفكرية التي كُتبت في عصر النهضة والتنوير في الغرب، وقد جرى استهلاله بالكلمات التالية: "يولد الإنسان حُرًّا، ويوجد الإنسان مُقيّدًا في كل مكان"، وربط فيه بين الحرية والمساواة. وقد شرح روسو أن حرية الإنسان مرهونة بالمساواة الأساسية في المجتمع، وعندما تكون لجماعة ما حقوق زائدة فإن الجماعة الأخرى تفقد ليس حقوقها فحسب إنما أيضًا تُصادر حريتها. وبناء على ذلك، حسبما يؤكد غوردون، عندما تقوم الصهيونية بالتضحية بمسألة مساواة المواطنين الفلسطينيين على مذبح "مشروعها القومي" فإنها لا تصادر منهم المساواة فقط بل وتسلبهم حريتهم أيضًا. وفي ضوء هذا فإن الاستنتاج المنطقيّ هو أن اختيار أي مواطن إسرائيلي الصهيونية كعقيدة يعني بصورة آلية قبوله التضحية بقيمتي المساواة والحرية لكل من هو غير يهوديّ. وفي قراءته فإن محاولة الصهاينة، الذين يُعرّفون أنفسهم بأنهم ليبراليون، أمثال أنصار حزب ميرتس، أن يرفعوا في الوقت ذاته رايتي الصهيونية والديمقراطية الليبرالية لا تعدو كونها أكثر من مجرّد وهم. 

ويتابع غوردون أنه وفقًا لما يؤكد عليه روسو، فإن التنازل عن الحرية مثله مثل التنازل عن الإنسانية، وعن الحقوق والواجبات المكفولة لكل إنسان لمجرّد كونه إنسانًا. ونظرًا إلى أن كل عقد اجتماعي يقوم على أساس توزيع معيّن لحقوق مواطني الدولة وواجباتهم، وإلى أن الإنسان المنزوع الحرية هو مواطن من دون حقوق وواجبات، فإن المواطنين الفلسطينيين في أراضي 1948 لا يمكنهم أن يكونوا شركاء حقيقيين في العقد الاجتماعي الإسرائيلي. وكما يؤكد تقتضي الاستقامة الفكرية القول إن المواطنين الفلسطينيين بالنسبة إلى الصهيونية، بما في ذلك التيارات الليبرالية، هم لا أكثر من عائق أو مصدر إزعاج. 

أمّا لنداو فأكد أن "الأبارتهايد الإسرائيلي"، كما يصفه، هو "جزء حيّ منّا، من تكويننا. وليس فقط أن لغالبية الإسرائيليين حصة فيه ودورًا، وإنما هي تستفيد منه أيضا"! ولذا فـ "من الصعب التجنّد ضده، لأن النضال ضده يعني، في الوقت ذاته، النضال ضد مجتمعك، ضد أقاربك، وأحيانا كثيرة ـ ضد نفسك أنت، أو ضد أجزاء من شخصيتك"!

 الأمر الأكثر جدة هو ما استجدّ في مواقف اليمين الإسرائيلي، الذي تراكمت إشارات قوية تشي بأنه قام بالانتقال من إنكار النكبة إلى الإقرار بها وبفظائعها والتلويح علنًا بالاستعداد لتكرارها!!


خطاب اليمين.. من الإنكار إلى التهديد بنكبة جديدة

تركز مواد الكراسة المقدمة إلى القارئ العربي على مجموعة من الموضوعات المرتبطة بتعامل إسرائيل مع النكبة الفلسطينية، ولعل أبرزها الدوافع العامة والخاصة التي تقف وراء استمرار إنكارها، وأحدث المواقف التي تدعو إلى الاعتراف بها إلى ناحية تحمّل المسؤولية عنها في سبيل المضي قدمًا نحو تجاوز تبعاتها التي ما زالت مستمرة. وربما أن مساهمتها في هذين المجالين كانت مقتصرة على جانب الرصد، ذلك أنه سبقت الجهد المبذول في هذا الصدد جهود عدة.
أما الأمر الأكثر جدة فهو ما استجدّ في مواقف اليمين الإسرائيلي، الذي تراكمت إشارات قوية تشي بأنه قام بالانتقال من إنكار النكبة إلى الإقرار بها وبفظائعها والتلويح علنًا بالاستعداد لتكرارها، كما انعكس ذلك في تصريحات عدد من المسؤولين الحكوميين والبرلمانيين في الفترة القليلة الفائتة. وإن ما ينبغي التنويه به هو أن هذه الكراسة قصدت أن تتمحور من حول أحدث المقاربات الإسرائيلية إزاء النكبة، ابتداء مما تزامن مع ذكراها في العام الماضي (2021) والتي ترافقت مع الهبة الشعبية، وانتهاء بما توازى مع ذكراها في العام الحالي (2022) والتي رافقها كشف مزيد من الوقائع بشأن ما ارتكب في أثناء وقوعها.

وتضم الكراسة نماذج من مقالات كتبها أشخاص أو كتاب رأي من شتى أطياف اليمين في إسرائيل، فضلًا عن تحليلٍ جديدٍ من وجهة نظر سوسيولوجية لأستاذة جامعية إسرائيلية متخصصة في دراسات الذاكرة والمصالحة حول آخر المقاربات المتعلقة بالنكبة في السياق الإسرائيلي، إلى جانب نماذج من مقالات جديدة تقرأ الغايات الكامنة من وراء استمرار سياسة الكذب المتفق عليه بالنسبة إلى النكبة، وغايات اليمين في إسرائيل من وراء الكلام حول النكبة ومن وراء إذكاء التمسك بما يسمى بـ "سياسة النكبة". كما تضم ملحقًا يتوقف عند الجهود التي قام بها أول رئيس حكومة في إسرائيل، دافيد بن غوريون، من أجل أن يزيح عن كاهل الدولة أي مسؤولية عن عمليات طرد الفلسطينيين من بيوتهم خلال النكبة، وكيف أدى الضغط الذي مارسه الأميركيون من أجل إعادة اللاجئين الفلسطينيين إلى قيامه بتلفيق بحث يظهر كما لو أنه أكاديميّ يروي للعالم أن الفلسطينيين نزحوا طوعًا عن بلدهم ولم يتعرضوا إلى التهجير بما من شأنه أن يؤول إلى الاعتقاد بأن النكبة هي مُجرّد كذبة أو هراء. وبالإمكان أن نعتبر أن سلوك بن غوريون هذا مهّد الأرضية أمام اليمين الإسرائيلي لتبنّي هذه السردية وترويجها قبل أن يقرّ قراره على الكفّ عن إنكارها والتهديد بتكرارها. 

* إشارة: هذه المقالة هي مقدمة كراسة "من الإنكار إلى التهديد بنكبة جديدة (عن مستجدات مقاربة النكبة في الحيّز العام الإسرائيلي)" الصادرة حديثًا. 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.