}

حنا أبو حنا.. في تلازم الثقافة والتربية الوطنية

أنطوان شلحت أنطوان شلحت 7 فبراير 2022
هنا/الآن حنا أبو حنا..  في تلازم الثقافة والتربية الوطنية
حنا أبو حنا (1928 ـ 2022)

من حقّ الأديب حنا أبو حنا (1928 ـ 2022)، الذي وقف سنوات طويلة في قلب مسيرة أدبنا الفلسطيني المعاصر، أن نلتفت، إثر رحيله عنا الأسبوع الماضي، وربما أكثر من أي شيء آخر، إلى ما كان يجسّده حتى آخر أيامه كمثال حيّ على ثقافتنا الفلسطينية، وعلى كيف بقيت محتفظةً بهويتها الوطنية والقومية بالرغم مما تعرضت له في نكبة 1948، وبالأساس في سياق تحدّي الظروف العصيبة التي واجهها مثقفون قلائل بقوا في أراضي 1948 بعد أن أقيمت إسرائيل. ولقد جمع معظم هؤلاء، وكان أبو حنا في طليعتهم، بين الالتزام الوطني والقيم الثقافية الحداثية، كما تشهد على ذلك مؤلفاته، وكذلك المضامير التي اختار الخوض فيها.
إن العودة إلى قصائد أبو حنا سرعان ما تضعك أمام شاعرية صافية متمكنة من أدوات الإيحاء والبناء الفنيّ. ولكنه، كما سنذكر، اختار ألا يبقى متعبّدًا في محراب الشعر، بل وازى بينه وبين دور المثقف العضوي، ودور المُربّي الوطني، وظل يؤديهما حتى آخر رمق.
ومن الجدير أن يُقال إنه في السياق العام الذي وجد نفسه في خضمه أخذ الثقافة إلى حيث ينبغي لها أن تكون.
ترك أبو حنا لنا عشرات المؤلفات، ولا سيما في الشعر، والسيرة الذاتية، والأبحاث الأدبيّة. وهو تميّز على نحو خاص بما يُشار إليه على نحو شبه دائم في براءات الجوائز العديدة التي مُنحت له، ومؤداه أن الوضع الجديد الذي وجد نفسه تحت وطأته دجّج لديه ممارسة النقد السياسي ـ الاجتماعي للواقع الفلسطيني، بعيدًا عن المنظور التقليدي القائم على الوعظ والبلاغة (ولا شيء عداهما). كما أنه عبر الاتكاء على منظور يساوي الثقافة بدورها الوطني والاجتماعي، ركّز عنايته أيضًا بقضايا التربية والتعليم، ومارس الصحافة، والتفت إلى أشكال العمل الثقافي الجماعيّ. كما يمكن القول إن هواجسه الوطنية المتعددة المنفتحة على ما هو تنويري في أشكاله المتنوعة، هي التي أخذت بيده إلى درس التراث والنقد الأدبي، وجعلت منه شاعرًا مدافعًا عن الشعر الحديث، وملتزمًا بالدفاع عنه، وأحد رواده. وهي التي أمنت له مكانًا واسعًا في الصحافة الأدبية، بعد احتلال فلسطين ونشوء إسرائيل.




صدرت لأبو حنا عدة مجموعات شعرية، أبرزها "نداء الجراح" (1969)، و"قصائد من حديقة الصبر" (1983)، و"تجرعت سمك حتى المناعة" (1990)، و"عرّاف الكرمل" (2005). كما أصدر سيرته الذاتية في ثلاثية: "ظل الغيمة" (1997)، و"مهر البومة" (2004)، و"خميرة الرماد" (2004)، وهي سيرة جيل وشعب من وجهة نظره. كما وضع عددًا من الأبحاث، منها "دار المعلمين الروسية (السمنار) وأثرها على النهضة الأدبية في فلسطين" (الناصرة، 1994)، و"طلائع النهضة في فلسطين: خريجو المدارس الروسية" (بيروت، 2005).



بيد أن أول ما يستحقّه هو كونه شاهدًا متفردًّا استهواه السهر على تاريخ فلسطين وجغرافيتها. وقد فعل ذلك تلبية لنداء من الداخل، تشابك مع ظروف محيطة رأى من الواجب أن يقف لها بالمرصاد. وشهد بنفسه على ذلك حين قال مرات عديدة، سواء في سياق كتاباته، أو مقابلاته، أن وجوه النكبة التي تعرضت لها فلسطين عندما كان شابًا في العشرين من عمره عديدة، ومنها نكبة الثقافة والأدب، فقد حملت المأساة العديدين من رجال الثقافة والأدب إلى مجاهل اللجوء، كما أن المطابع والمكتبات نُهِبت، والصحف والمجلات اختفت، وبعض الكتب أُعدِمت. وبقي في أراضي 1948 عدد من الشعراء والكتّاب لا يتجاوز عدد أصابع اليدين جُلّهم في مطلع مسيرتهم الأدبية، وانقطعت الصلة الثقافية بالعالم العربي، فما عادت تصل إليهم كتب، أو صحف، وكل ما بقي للصلة بالأقارب اللاجئين وراء الحدود تحية مسجّلة في الإذاعة، من دون معرفة العنوان المحدّد لأولئك الأحباب. وهو يؤكد أن الرؤية السائدة في هذا المناخ كانت أن الثقافة والأدب كتيبة في المعركة، وأن الالتزام لا بُدّ من أن يكون شعار الأديب والأدب. ومثلما كتب: "كان ردّنا على الشعار الصهيوني (أرض بلا شعب لشعب بلا أرض) منطلقًا من تاريخ الأدب العربي: إن هذه الأرض كانت عامرة بشعب حيّ أنبت الشعراء البارزين قبل أكثر من ألف عام، وقد اقترن اسم كل شاعر باسم بلده، فكان ابن القيسراني (ت 1153 م) الذي ولد في عكا، وعاش في قيسارية، إلى أن شردته حرب الفرنجة إلى دمشق، حيث ظل يدعو إلى تحرير بلاده، وأبو اسحق الغزي (1130 م)، والقاضي الفاضل العسقلاني (ت 1199 م) وزير صلاح الدين الأيوبي، وصاحب مدرسة متميزة في النثر العربي، علاوة على شاعريته".




في إحدى المقابلات، قال أبو حنا إن طاحونة الثقافة والإعلام الصهيوني تحاول أن تمحو الوجود الفلسطيني المتواصل، فـ"أصبحنا مطالبين بأن نثبت البدهيّات". ومن هذا الأساس، خلص إلى تأكيد أن الأدب، والثقافة عمومًا، يصلح لأن يكون وثيقة اجتماعية في زمان إنتاجها، ما يحيل إلى أنه كانت للأدب، وما تزال، قيمة وثائقية/ توثيقية لافتة ومؤنسة، قد لا يجوز إغفالها، أو اعتبارها نَفَلًا.
وفي مقابلة أخرى، أشار إلى أن صلته المتّصلة بنهر الأجيال ـ كمعلّم في مدينة الناصرة منذ عام 1947، وكمدير للكلية الأرثوذكسية العربية في حيفا، ومحاضر في جامعة حيفا ودار المعلمين العربية ـ هي التي جعلته مسكونًا بهاجس تعريف هذه الأجيال بالتراث الثقافي الفلسطيني الذي حـرِموا منه.
وفي تقديري أن أديبنا أراد من ذلك أن لا يتسبّب حاضر تلك الأجيال المنقطع عن ذلك التراث بتشويهها، أو ترويضها، فضلًا عن أن التراث ينطوي على طاقة خاصة في تأثيث الذاكرة، على قاعدة التلازم بين الثقافة والتربية الوطنية.



وترتبط هذه القيمة على نحو رئيس بالسياق العام لأي كتابة أدبية، ورُبمّـا تحدّد من بين عناصر أخرى مبلغ كون المبدع ابن عصره، مع مراعاة أنها لا تُغني بحال من الأحوال عما يوصف بأنه ضرورة عدم الإخلال بالتوازن بين الجمالي ـ الفني، والتوثيقي ـ الاجتماعي.
ولعلّ من الأمور المؤكدة أن مثل هذه القيمة محفوظة، مثلًا، لأدب السيرة. وقد أولى أبو حنا في كتاباته الغنية والمتعدّدة اهتمامًا خاصًا لأدب السيرة.
وعندما سئل ذات مرة لماذا آثر التركيز على هذا اللون بالذات؟ أجاب قائلًا إن الهدف من ذلك هو سرد رواية الشعب الفلسطيني التي لم تُرو بشكل متكامل، بل هنالك أنهار تصب في بحر، وحين يكتب كل واحد سيرته، أي من وجهة نظره، تتكامل الصورة مثل الفسيفساء.




كما أشار إلى أنه اهتم كثيرًا بتعريف الأجيال المتعاقبة بالتراث الثقافي الفلسطيني، "ففي كتابي (ديوان الشعر الفلسطيني) اهتممت أن أعرف بشعراء ظهروا قبل ألف عام، مثل كشاجم الرملي، وابن القيسراني، وأبي إسحق الغزي، والقاضي الفاضل. كما كتبت عن طلائع النهضة في فلسطين، وعن دار المعلمين الروسية (السمنار)، وعن ثلاثة شعراء هم إبراهيم طوقان، وعبد الرحيم محمود، وأبو سلمى. وجمعت ديوان الشاعر عبد الرحيم محمود في كتاب (روحي على راحتي)، كما قمت بتحقيق ودراسة (رواية مفلح الغساني) لنجيب نصّار".
وتميّز كتاب "روحي على راحتي" (1985)، مثلًا، بأنه أوفى طبعة من ديوان عبد الرحيم محمود حتى ذلك الوقت، وصدّره أبو حنا بمقدمة قسّمها إلى جزأين: الأول، مسيرة على اللهب؛ الثاني، من أسرار القيثارة. وتناول في الجزء الأول مسيرة الشاعر الحافلة منذ ولادته في عنبتا (قضاء طولكرم) عام 1913 حتى استشهاده في تموز/ يوليو 1948 في معركة الشجرة ودفنه من ثم في الناصرة. وتوقف عند محطات حياته الأساسية، مشيرًا إلى توقّـد التزامه الوطني على خلفية سياسية ـ اجتماعية محدّدة هي صراع الشعب الفلسطيني ضد الأخطار المتربصة بوجوده وأرضه وكيانيته. وهذا التوقد دعاه إلى الانطلاق نحو الفعل في سنّ مبكرة، وإلى الالتحاق تحت تأثير نموذج المكافح عز الدين القسّام بالثوار في منطقة جبل النار (1936 ـ 1939). ومن وحي هذه المشاركة الفعلية في الثورة، كتب عبد الرحيم محمود قصيدته المشهورة "الشهيد"، التي مطلعها بيتان أصبحا رمزًا للشاعر وحياته:

سأحملُ روحي على راحتي         وألقي بها في مهاوي الردى
فإمّـا حيـاة تســرُّ الصـديـق          وإمّـا ممــات يُغيــظ العــدى..

وإثر انتهاء الثورة، التحق الشاعر بالمدرسة العسكرية في بغداد، وتخرّج فيها ورجع إلى فلسطين عام 1941، حيث ظل يعمل في التعليم حتى استشهاده في صفوف جيش الإنقاذ، وكان انضم إليه من خلال دورة تدريبية في دمشق عاد بعدها مع هذا الجيش إلى فلسطين، بداية إلى طولكرم ثم إلى الناصرة. وفي هذه المرحلة، وجّه جهوده نحو إيصال رسالته الوطنية من على المنابر، واتسمت رؤيته بالبعد الاجتماعي قرينًا للبعد الوطني.
أمّا في الجزء الثاني من المقدمة، فإن أبو حنا يغوص على المعمار الفنيّ في مجموعة من قصائد الشاعر. ويوضح كيف تتخّذ القصائد عبر نموّها أبعادًا ترقى بها من المشهد المحسوس إلى الرموز المُطلّة على آفاق من الإيحاء، أو سبر أغوار التجربة الإنسانية. وفي هذا المضمار، تتجلّى طاقة الخيال الشعري الذي تفجرّه الموهبة. وهو يشدّد على أن الشاعر لم يرض أن يقف عند نهج في عينه، بل كان يسعى باحثًا مجدّدًا. وفي سعيه هذا، كان ينتقل من المنبرية إلى عمق التأمل الداخلي، سواء في نفسه، أو في مجتمعه.
كأنّ أبو حنا يتكلم هنا عن نفسه، وعن رؤيته الخاصة للشعر، شكلًا ومضمونًا.
وتماشيًا مع ما يقوله، أرى وجوب أن أضيف أن قصائد أبو حنا كانت في معظمها مشحونة بنبض الواقع، وبمثابة انعكاس فنيّ لظواهر الحياة، ولذا تبدّت صوره كنوع من الواقع الماديّ المنعكس، لكن هذه الصور موضوعة طبقًا لوعيه الفردي ولتصوراته السياسية والأخلاقية والاجتماعية، وغيرها، عن العالم. وستُظلم إذا ما قُرئت بمنأى عن هذا كله، أو إذا ما نُظر إليها فقط كوثيقة اجتماعية عن حال ذلك الواقع، مع أنها تصلح لأن تكون كذلك في الآن نفسه.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.