}

"متون وهوامش": في حداثة السؤال الثقافيّ

أشرف الحساني 1 أبريل 2023
هنا/الآن "متون وهوامش": في حداثة السؤال الثقافيّ
معن البياري وآلاء كراجة

لا يملّ المُتلقّي من مُشاهدة برنامج "متون وهوامش"، الذي يُعدّه الكاتب والإعلامي الأردني معن البياري، وتُقدّمه الإعلامية الفلسطينيّة آلاء كراجة، وتعرضه أسبوعيًا شاشة "العربي 2"، باعتباره من أبرز البرامج الحوارية الثقافيّة في العالم العربيّ، التي تجعل المُشاهد يُسافر في مدارات صُوَرها وخطابها، من دون أنْ يشعر بأيّ مللٍ، أو انفعالٍ، جرّاء ما قد تُحدثه بعض النقاشات الثقافيّة الساخنة. مع العلم أنّ الراهن الثقافي اليوم يدعو، وبشكلٍ مُستعجل، إلى ضرورة إقامة سجالٍ ثقافيّ يُحرّر هذه الثقافة من تقليديتها وميثولوجياتها، صوب مسارب فكريّة جديدة تجعلها تُجدّد نفسها من الداخل، وتنتفض على مُختلف الأفكار البالية، التي لا يزال يُعتقد أنّها تُشكّل مدخلًا حقيقيًا لميلاد حداثة عربيّة أكثر تجذّرًا في بيئتها وأحوالها وشؤونها، لكنْ وانفصالًا عنها في آنٍ واحد. فإذا كان الخطاب السياسيّ التحديثي مطلبٌ ضروري للشعوب من أجل فهم وعيش واقعها، فإنّ الأمر نفسه ينطبق على الثقافة التي ينبغي العيش في حداثتها، انطلاقًا ممّا تفرضه من قضايا وإشكالات، وما تطرحه من أسئلة ذات علاقة بما يعيشه الفرد الآن، وليس البارحة. إذْ على الرغم من التحوّلات التي ألمّت بالثقافة المعاصرة، ما تزال الجامعات والمؤسّسات، في معظمها، تعيش في غيبوبة ماضٍ لم يعُد موجودًا داخل مَشهدنا الثقافيّ، لكونها تُروّج لثقافةٍ غدت ماضويّة في صُوَرها وأدواتها وموضوعاتها، ولا تمت بصلةٍ إلى مشهدٍ عربيّ يعجّ بالتحوّلات ويُمطرنا في الشهر الواحد بعشرات القضايا والإشكالات. بل إنّ الوزارات والمؤسّسات الوصية على تدبير الشأن العام، خاصّة داخل الفضاء العمومي، تسعى جاهدة إلى جعل الثقافة مجرّد إكسسوار فنّي، أو بذخ جماليّ يجعلها أسيرة الندوات والمدرّجات والمراكز والموائد المُستديرة الفارغة من أيّ فعل ثقافي، سيما أنّ ثقافة الاجتماعات كرّستها يوميّات الأحزاب السياسيّة منذ السبعينيات، في وقتٍ لم نكُن فيه في حاجةٍ إلى مفاوضة ثقافية، بل فقط العمل على توسيع الفعل الثقافي، وجعله يخترق الوظائف والمهن كافة. ولا شك في أنّ تغييب الفعل الثقافي من داخل القنوات التلفزيونية مردّه إلى قراراتٍ سياسية عملت على إجهاض المشروع الثقافي العربي التحديثي منذ بواكيره الأولى بداية ستينيات القرن الـ 20. بل إنّ هذه الرؤية التهميشية للخطاب الثقافي داخل المَشهد الإعلامي، بصريًا ومكتوبًا، لا تزال قائمة، لكنْ وفق وهجٍ أقلّ من سنوات خلت. فكيف يجوز الحديث عن حداثة عربيّة مُكتملة، في وقتٍ ما يزال فيه السؤال الثقافيّ غائبًا ومُغيّبًا داخل مشهدنا الإعلامي، وحتّى إنْ حضر داخل بعض المؤسّسات الثقافيّة يظلّ غائمًا ومُبهمًا؟
على هذا الأساس وغيره، يُعد برنامج "متون وهوامش" بمثابة أرض صلبة يُشيّد عليها مُختلف أشكال التفكير المعاصر، لكونه يُمثّل مُختبرًا حقيقيًا لميلاد أسئلةٍ جريحة وقاطرة منهجية لتعميق الثقافة العربيّة وفهم خصوصياتها من خلال أسئلة الراهن. وبما أنّ الإعلام قد يُعدّ أكثر الخطابات قُدرة على طرح الأسئلة، بما يجعله شريكًا في صناعة الرأي العام وتحويل فكرة صغيرةٍ، أو خاطرةِ شعريّة، أو فيلمٍ سينمائي، إلى قضيّة تشغل الرأي العام العربيّ والعالمي، فإنّ تأثير البرنامج منذ انطلاق بث حلقاته النوعية بدا مُؤثّرًا في طريقة تقديم المادّة الثقافيّة عن طريق طرح أسئلةٍ عميقةٍ وهادئة، بعيدة عن الصخب الإعلامي والجدل الثقافيّ الفارغ الذي تعودنا عليه داخل بعض المحطّات التلفزيونية، بل إنّ عمق البرنامج لا يتأتى فقط من خلال حلّته المعاصرة، وإنّما من قُدرته على جعل الحلقات تبرز بوصفها عناوين وإشكالاتٌ حقيقية مركزيّة تدور في فلك الثقافة العربيّة المعاصرة. بل إنّ الحلقات تأتي بهيّة، راقصة، فطنة، متيقّظة للتحولات التي طرأت عليها في الآونة الأخيرة. وهذا الأمر، بمثابة جديدٍ يُعوّل عليه، إذْ يجعل "متون وهوامش" برنامجًا ثقافيًا معاصرًا، لا يستعرض خطابًا ثقافيًا كهلًا وتاريخيًا، لم نعُد في حاجة إلى معرفته، لأنّ كلّ شيءٍ تغيّر في الواقع الثقافي العربي، فما الغرض من استحضار علاقة الثقافة بالقومية واليسار والدين والماركسية، كما هي الحال داخل برامج سبعينية وثمانينية؟ إنّ السياق المُتحوّل اليوم يفرض الانغماس فيه والتفكير في حدود مسارب فكرية جديدة تتأمّل "واقع" الثقافة ومُمارساتها والتحوّلات التي عرفتها في زمن المنصّات، والمواقع والمجلاّت الإلكترونية، والندوات عن بعد، والجوائز التشجيعية، وغيرها. واقعٌ يفرض طرقًا معاينة أصيلة بأدواتٍ حديثة يفهمها الكلّ. إنّ الجميل في البرنامج أنّه لا يستدعي فقط أعيان الثقافة العربية ورموزها، بل يدمج الجامعيين والباحثين والكتاب والصحافيين من الأجيال الجديدة، ويُتيح لهم إمكانية التفكير والإجابة والتعبير عن قضايا وإشكالات تشغلهم ويُمارسون داخلها كتابة جديدة مُتحرّرة من كلّ قديم نوسطالجي مُعتقّ في جرار الصمت.




ليست الثقافة الحقيقية ما نرثها دومًا عن التاريخ، أو ما ترويه لنا الأطلال البائدة، بل ما تُقدّمه لنا الوسائط البصريّة الجديدة، من قنوات ومجلاّت وجرائد وأفلام ومعارض وألبومات. وبالتالي، فإنّ برنامج "متون وهوامش" أتخيّله ضمن هذا الأفق الحداثي الذي يُقدّم معرفة ومتعة في آنٍ واحد. إنّ السؤال الثقافي يُعد سنده الحقيقي الذي يُضاهي به عشرات البرامج المتراصّة على طول العالم العربي، والتي لا تعمل سوى على تكريس أسماء ثقافيّة من دون أخرى. فالتجارب فيها تتكرّر لدرجةٍ يُخيّل إليك أنّها الموجودة وحدها داخل حقل الأدب، وأنّ التجارب الثقافيّة الأخرى محض خرافةٍ وهباء. فحين نُشاهد "متون وهوامش" لا نهتمّ فقط بالنقاش والجدل، بل نتلقى كمُشاهدين خطابًا فكريًا يُغني رصيدنا الثقافي، ويُعطّل يقينية مُميتة تجاه بعض الأفكار والمفاهيم. وإنْ كانت عناوين الحلقات الفائتة هي من قبيل: "واقع الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب"، "الرواية العربية: انتعاش أدبي أم استسهال رائج"، "العلاقة بين الكاتب والناشر في العالم العربي وأثرها على صناعة الكتاب"، "واقع الشعر في العالم العربي"، فإنّ المُلاحظ أنّ صياغة العناوين تجعل الموضوعات تأتي على شكل ظواهر ثقافيّة تُساهم في تأجيج الأسئلة وإنضاج شهوة الجواب، فيما الضيوف يغوصون عميقًا في ذواتهم للبحث عن أدواتٍ نقديّة تفكيكية تُقيّم الموضوع وتفحصه من مختلف الجوانب. وهذا سرّ "متون وهوامش"، إذْ لا يحفل بالتجارب الثقافيّة التي قد تجعله شبيهًا بباقي البرامج الأخرى، بقدر ما يُوسّع دوّال الاشتغال والفحص عن طريق حوار جماعي يغني الظواهر ويُفكّكها من الداخل بأدواتٍ مختلفة، ومن زوايا نظر متباينة. هكذا تنعدم الرؤية الاختزالية، ويُصبح بلاتوه التصوير عبارة عن عرس ثقافي هادئ تُؤسّسه المعرفة وتروي سيرة مَباهجه الإكسسوارات والألوان والأصوات. هناك، تتقاطع التجارب الضافية، وتتواشج الموضوعات النيّرة، بما يخدم حياتنا المعاصرة.
أخيرًا، ليس البرنامج نوستالجيا بصريّة يرنو إليها المثقّف العربيّ لمعرفة تاريخ ثقافةٍ، بل إنّه عبارة عن كاميرا مشرعة في وجه تحوّلات الثقافة العربيّة المعاصرة بمُختلف مآزقها وإشكالاتها، بما يجعل البرنامج حداثيًا ناجحًا، وحتّى وإنْ لم يُحقّق نسب مُشاهدات عالية، كما تُطالعنا برامج الطبخ والغناء في العالم ككلّ، فإنّ شروط تحقّق حداثته الفكرية تبقى أمرًا قائمًا بذاته.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.