هذا ينطبق على كل الذين ماتوا ولم نكن نعرفهم. لكن موت من نعرفهم له طعم آخر. هؤلاء كانت الحياة لتكون معهم أشد ثقلا، لكنه ثقل ارتضيناه ووطّنا أنفسنا على احتمال تبعاته وتنكبها، وحين يموت هذا الذي كنا نعرفه، نتحول مع موته إلى قساة. كل قتيل يجعلنا أكثر قسوة من ذي قبل. يغزونا اليباس ونتحوّل مع هذه الخسارة إلى أشخاص أشد وحدة وأكثر حرية. هذه الحرية التي يتغنى بها الجميع، نكتشف لحظة موت الأعزاء، أنها لم تكن مرغوبة. نحن نريد بكل جوارحنا أن تستعبدنا التزاماتنا حيال أولادنا وأهلنا وشركائنا. نريد أن نفديهم لا أن يفدوننا. نترك مهمة الفداء للغرباء. الذين نعرفهم هم من نريد أن نفديهم، أن نقع في الفاجعة بدلا منهم، أن نتألم ولا نكلفهم مشقة القلق علينا. نريد أن نكون عبيدا لمن نحبهم، ولم يحدث يوما أن أردنا هذه الحرية التي تجعلنا في حل من كل التزام.
مع تعميم الموت وتشييعه، نكتشف أننا لم نكن نعرف ما نحن عليه حقا. الذين يفخرون بموت من ماتوا دفاعا عنهم، يبدون لي في هذه اللحظة أنانيين. ما الذي يعنيه أن أكلف أحدا بأن يدفع حياته ثمنا للمحافظة على أمني؟ حتى لو كان قد اختار ما اختاره بكل حرية، وحتى لو كان في حياته "القصيرة" متمتعا بامتياز من نعده للتضحية. إلا أن تكليفه بالموت من أجل أن أكون أكثر أمنا أو ازدهارا أو سعادة لهو أمر يبدو لي باهظا ولا طاقة لي على احتماله. ربما لهذا السبب نكره قاتلينا إلى هذا الحد. نكرههم، لأنهم حين يقتلون من يدافع عنا يحولوننا إلى مؤثرين لأنفسنا على نفوس الآخرين، إلى انتهازيين نتمنى أن تصيب الطلقة القادمة أحدا غيرنا. ونكرههم لأنهم حين يقتلون من نعرفهم يحرروننا من كل التزام.
في لحظة الموت الشائع والعميم، يدرك المرء لماذا يقبل البعض على مواجهة المخاطر طائعا. ذلك أن هؤلاء، على الأغلب، يجدون في التضحية بأنفسهم سبيلا أيسر من التخلص من الأعباء التي فرضوها على أنفسهم حيال من يحبون. المقاتل بهذا المعنى يرث مهمة والديه. يريد أن يحميهما بدلا من أن يحميانه. يريد أن يبذل من أجلهما أكثر مما بذلا من أجله. لهذا تبدو الحروب حاصدة للأبناء أكثر مما تحصد الآباء.
في أتون الحروب، نقبع نحن الكهول في هذه الزاوية التي لا فكاك منها. ننظر إلى الشبان وهم يضحون بأنفسهم من أجل حيواتنا التي نعرف في قراراتنا أنها لا تساوي الكثير. لسنا أحرص منهم على حيواتنا أصلا. فنحن ندرك أنها لطالما كانت "ابنة كلبة" وأن الاستمرار في معاقرتها قائم فقط لأننا لا نملك الطاقة لأن ننهيها بيسر وبدون ضجيج. مع ذلك ثمة من يبادر لتقديم حياته من أجل أن تبقى، عجوزا أو عاجزا أو طري العود. وفي كل الأحوال، حين يموت المولجون بالتضحية بأنفسهم من أجلنا، تنقص حيواتنا نقصا فادحا. القتل في الحروب هو قتلان على الأقل. واحد يخطف أعمار المولجين بالتضحية، وهو قتل سريع ومفاجئ، وآخر يخطف سنوات من أعمار الذين باتوا اليوم أعجز من مواجهة أخطار الحياة لأن من كان قادرا على نجدتهم حين يقعون، قد مات مرة واحدة ولم يعد ثمة ما يمكنه تقديمه لأجلهم.
هؤلاء الغرباء حين يموتون يأخذون معهم جزءا من أعمارنا إن كنا كهولا، وجزءا من اطمئناننا ودعتنا حين نكون في مقتبل أعمارنا. وفي كل الأحوال يتعاظم حزننا على الغرباء الموتى لأن موتهم يوقعنا في المجهول.
وقوعنا في المجهول هو بالتحديد ما نخافه حقا. هذا الوقوع يمنعنا، حتى لو نجونا، من أن نتحول إلى مستعدين للتضحية. إذ حين نقع في التيه، كما يحصل لأهل غزة وجنوب لبنان وبقاعه، فإننا نصبح أشبه بمن يريد النجاة بنفسه إن أمكنه ذلك حتى لو مات كل من حوله. نتحول إلى مصارعين للبقاء على قيد الحياة، وفي هذا التحول ما يجعلنا بلا قلوب، نترك موتانا وراءنا ونسير في درب التيه نحو نجاة لا نعرف أين مستقرها.
الحروب حين يتعرض لها شعب ما يكتشف أنه لم يكن يريد أن يكون حرا من كل قيد، لأن الحرية مؤلمة إلى الحد الذي لا يطاق، ويكتشف أيضا أنه لا يريد أن يكون مقيدا إلى آخر يقدم روحه فداء له، لأن حياته نفسها لا تستحق أن تفدى بحياة أي أحد آخر. الحروب تحول كل أفكارنا وقيمنا إلى هباء، وعلينا أن نكتشف خلالها وفي غمارها قدرتنا على التفجع، واستعدادنا للحداد. الحداد الذي هو إعراض عن الحياة برمتها، تلك التافهة التي لا تستحق أن تعاش.